انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 801/أحمد الزين (الإنسان)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 801/أحمد الزين (الإنسان)

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1948



للأستاذ عبد الفتاح البارودي

في 5 نوفمبر من العام الماضي روعت الدوائر الأدبية بفقد الشاعر العالم الراوية (أحمد الزين). وما أظن أحدا من عشاق الأدب يجهل قيمته الأدبية؛ ويكفي أن نقول أنه شارح وضابط ومصحح العقد الفريد، وإمتاع الأسماع، ونهاية الأب وما إليها من أمهات الكتب بمفرده حينا وبالاشتراك مع آخرين من الفضلاء أحيانا. كذلك يكفي أن نقول انه كان في مقدمة (الرواة) في العصر الحديث، بل ربما يكون قد انتهى بموته عهد (الرواية الأدبية). . .

ومع هذا فلست أريد في هذا الحديث أن أتكلم عن أدبه مرجئا ذلك لفرصة أخرى؛ وإنما أريد أن أحاول تصوير بعض ملامح شخصيته الطريفة النادرة تصويرا سريعا قبل أن تغمرها موجة النسيان؛ فقد كان الفقيد نموذجا فريدا في الحياة من طراز خاص وأسلوب خاص ومزاج خاص منقطع النظير.

الزين الظريف:

كان رحمه الله ظريفا إلى أقصى حدود الظرف في كل حركاته وسكناته. وقد تجلى ذلك في معظم منظوماته حتى في المراثي!! ولا زالت أذكر يوم اشترك في تأبين شاعر النيل (حافظ إبراهيم) بقصيدة مطلعها:

أفي كل حين وقفة إثر ذاهب ... وصوغ دم أقضي به حق صاحب

أودع صحبي واحدا بعد واحد ... فأفقد قلبي جانبا بعد جانب

بالرغم من هذه البداية الحزينة التي لاءمت المناسبة الحزينة فإن ظرفه سرعان ما غلب عليه ونقله من الحزن الخالص إلى التهكم الذي أضحك الحاضرين على من سماهم (المجددين) فقال مقارنا شعر (حافظ) بشعرهم:

فذاك جلال الشعر لا شعر عصبة ... يطالعنا تجديدهم بالحواصب

دواوين حسن الطبع موه قبحها ... وهل يخدع النقاد نقش الخرائب

فيا ضيعة الأوراق في غير طائل ... ويا طول ما تشكو رفوف المكاتب

كذلك في قصيدته في ذكرى (تيمور باشا) غلب عليه طرفه فنقله أيضا إلى التهكم على الناقلين عن اللغات الأجنبية بلا فهم لدقائقها ولا تمكن من لغتهم الأصيلة بأبيات جاء قيها:

من كل ألكن نابع في عبه ... لهج بدعوى العلم وهو جهول

ويكاد يرشح عقله أمية ... حتى عليه يشكل التشكيل

إن رام شعرا لم يقم ميزانه ... ورويه قيد عليه ثقيل

أو رام نثرا عي دون مراده ... لفظ يطول وما به معقول

وإذا يترجم كان في تعقيده ... قبر به المعنى البريء قتيل

لا نجحد الغربي سحر بيانه ... لكن سوء النقل عنه يحيل

سفراء سوء باعدت ما بيننا ... ولربما جلب الشقاء رسول

كان طبيعيا أن يتجلى ظرفه أكثر من هذا في ألوان الشعر الأخرى حيث تتسع الفرصة للتهكم والسخرية.

أذكر أنه أراد ذات مساء أن يعتذر تلفونيا عن موعد هام واتفق أن ظل التلفون مشغولا بأحد الثقلاء اكثر من نصف ساعة. . . إذ ذاك نظم قصيدته (المسرة) التي يقول له فيها:

فجد في أذنها أو أهزل ... وقل ثناء بها وثلبا. . .

فلا تراها تسد أذنا ... مهما تطول لو قرأت كتبا

وكم ثقيل الحديث لولا ... جمودها أوسعته سبا

تكاد مما يطيل فيها ... تفر مما دعا ولى

فيالها آلة تربى ... ذا الجهل ممن بالذوق يربى

وذات ليلة دعاه أحد أصدقائه لسماع مغن وكان - كالمنتظر - سقيم الصوت، فنظم بهذه المناسبة أبياته المشهورة التي يقول له فيها:

حمار لا يمل من النهيق ... يضيق به التجلد أي ضيق

مغن يجلب السلوى ويفنى ... بقايا الشوق في قلب المشوق

منى الوتار لو أمست سياطا ... يصب بها على الجلد الصفيق

بطانته - حماك الله - رهط ... كأن صياحهم جرس الحريق

وكانت ليلة يا ليت أني ... دفعت بها لقطاع الطريق

جزى الله المغني كل خير ... عرفت به عدوي من صديقي إلى غير ذلك من النوادر التي لا حصر لها.

الزين والمجتمع:

كان معظم الناس عنده (خلائق) لا يرتفعون عند حسن ظنه. وكان يقسمهم إلى أقسام عجيبة في دلالاتها: (بلاوي - حميد الضفات - علامة - سبع)!

فكل (باشكاتب) يجلس في الأماكن العامة متحليا بخاتم ثمين وساعة ذهبية وياقة منشاة و (يحشر) نفسه في الأدب والفن دون دراية فهو (بلاوي)!

وكل (مخلوق) حلو الشمائل وديع الصوت سليم الطوية ولكن لا علاقة له بالأدب فهو (حميد الصفات)!

وكل أديب يعرف من أين تؤكل الكتف فينتسب - بالإلحاح - إلى جريدة كبيرة أو يتقرب - بالزلفى - إلى عظيم أو وزير ويصل من وراء ذلك إلى ما يبتغيه فهو (علامة)!

وكل أديب لا تعدو وظيفته أن تكون من الدرجة السادسة أو أقل فهو (سبع)!

وغرضه من ذلك وصف الأديب بالقدرة على البطش والقناعة مع هذا (بلقمة العيش). .

ولا غرو فقد كان رحمه الله (سبعا كبيرا) أي موظفا باليومية لولا أن أسعفه قرار (الإنصاف) ثم (التنسيق) فرقي في آخر شهر من حياته إلى الدرجة الخامسة.

الزين والأدباء:

وكانت علاقته بمعظم المحدثين من الأدباء مضطربة لصراحته في إبداء رأيه في أدبهم، بل إنه كان يكره أحيانا أن يستمع إلى شعرهم الذي كان يصفه بقوله:

عناوين كالألغاز حيرت النهى ... وما تحتها معنى يلذ لطالب

هم جدري الشعر آذوا جماله ... بما ألصقوا في حسنه من معايب

وكم دافعوا عن مذهب العجز جهدهم ... فما غسلوا أسواء تلك المذاهب

وكم ملئوا بالزهر والنهر شعرهم ... بلا طيب مستاف ولاري شارب

وكم يذكرون اللأيك والطير صدحا ... عليها فلم نسمع سوى صوت ناعب

وكم هاتف بالخلد منهم وشعره ... توقى سقطا قبل عقد العصائب

وشاك أداة الخب أطفأ جمره ... بشعر كبرد الثلج جم المثالب فأقسم لو يبغي وصالا بشعره ... لجانبه من لم يكن بمجانب!!

أما علاقته بشيوخ الأدباء وكهولهم فكانت مشبعة بالصفاء والوفاء لمحض المودة من جهة وتقديرا لأدبهم من جهة أخرى. فمثلا كان يوقر حضرات أعضاء لجنة التأليف (وبخاصة أحمد أمين وأحمد زكي). . . مكان يعشق أسلوب (الزيات) ونظم في هذا الصدد قصيدة بائية رائعة لم احفظها للسف ولم تنشرها (الرسالة) حتى لا تتهم بمحاباة رئيس تحريرها فيما أظن.

وكان يعجب بطه حسين إعجابا بالغا بدا بعضه في تقريظه لكتاب (مع أبي العلاء في سجنه) بأبيات بارعة جاء فيها:

يا مؤنس المسجون في سجنه ... وسلوة المحزون من حزنه

من كنت في السجن له صاحبا ... فسجنه الجنة في حسنه

أساء بالعالم ظنا. . . ولو ... أدركته حسن من ظنه

أقسم لو خير في عينه ... وفيك لأختارك عن عينه!!

إحساس الزين:

ولعلي لم أصادف كثيرين في مثل دقة إحساسه. وبالرغم من تسامحه الملحوظة مع معارفه فقد كان ينفعل وأحيانا ينزوي في بيته عن الناس جميعا أياما بل أسابيع إذا أحس بإهانة صغيرة من أحدهم. وربما كانت دقة إحساسه من أهم أسباب استمرار غبنه لخجله من الشكوى.

أذكر أنه طلب مقابلة أحد الوزراء يوما ما ليرجوه في انتشاله مما لحق به من غبن، فتذكر الوزير كصديق قديم واحتفل به وأخذ يردد له بعض ما يتعلق بماضيهما فآثر (الزين) أن يقصر المقابلة على استعادة الذكريات دون أن يخدش إحساسه برجاء!

الزين المحب!

وعلى كثرة ما باح به لأخصائه من أسراره فإنه لم يبح لأحد بشيء عمن أحبها وإن كان دائم البوح بطهارة حبه وطهارتها.

كانت هذه مصدر شعره الغزلي الجيد من نحو (عاود القلب حنينه) و (علينا بالأماني) و (ما غناء الروح). الخ.

والغريب أنه كثيرا ما يرتاب في حبها له ويخشى أن يكون منها ضربا من الشفقة والمواساة. و (الزين) إذا ارتاب تغالي فاستحال عليه الاطمئنان. . . وقد رحمها الله من هذا الارتياب العنيف إذ ماتت قبله بنحو سنتين وحاول هو أن يرثيها فلم يستطع ومات وفي صدره قصيدتها.

الزين الوالد:

ومن المؤلم أنه نكب في أولاده فماتوا في طفولتهم. وأخيرا رزق طفلا هو الآن في الثامنة من عمره، ولكنه مع الأسف نكب فيه حيا بأفظع مما نكب في أخوته أمواتا! فقد اكتشفت مدرسته الأولية ضعفا في نظره بالرغم من حسن منظر عينيه؛ وهرع (الزين) إلى الطبيب، وحينئذ علم أن الولد مصاب بمرض وراثي له أثره الخبيث في شبكة العينين وأنه من المحتمل أن يفقد الأبصار في مرحلة الشباب!

وخرج من العيادة ضرير الماضي يجر في يده ضرير المستقبل.

الزين العائل:

كان يعول الفقيد العزيز بخلاف ولده هذا زوجة كريمة تقية ولست ادري شيئا عن مصيرهما بعده.

والرأي لأولي الأمر لعلهم أن يعملوا على تقرير معاش لهما. . فلقد أفنى الرجل نضارة عمره في الإنتاج الدبي المثمر أكثر من عشرين عاما بين جدران (دار الكتب) دون أن يحظى بالتثبيت في وظيفة دائمة بسبب عاهته، بينما حظي به آلاف من ذوي العيون التي لم تقرأ كتابا واحدا!!

عبد الفتاح البارودي