انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 8/ابن خلدون في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 8/ابن خلدون في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1933



للأستاذ محمد عبد الله عنان

وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ وسأله عن أحواله وأخباره وسبب مقدمه إلى مصر وما وقع له بها، ثم سأله عن المغرب ومدنه وأحواله وسلاطينه، وطلب إليه أن يكتب له رسالة في وصف المغرب، وحدثه المؤرخ بأنه كان يسمع به ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة أعني منذ تألق نجمه وبزغ مجده، وشرح له طرفاً من آرائه ونظرياته الاجتماعية في العصبية والملك. ولا ريب أن مفاوضة في شأن المدينة وقعت أيضاً بين المؤرخ والفاتح واستطاع المؤرخ أن يقنع الرؤساء والفقهاء بالتسليم، فقد فتحت دمشق أبوابها للفاتح على أثر ذلك، وجاء القضاة والرؤساء وعلى رأسهم المؤرخ إلى معسكر تيمورلنك يقدمون له الخضوع والطاعة. ويقول لنا ابن خلدون إن تيمورلنك صرفهم واستبقاه حيناً، ثم أنصرف واشتغل أياما بكتابة رسالة في وصف بلاد المغرب حتى أتمها وبلغت على قوله أثنى عشرة كراسة صغيرة ثم قدمها إلى تيمورلنك فأمر بترجمتها إلى اللغة المغولية.

وكان المفهوم أن دمشق قد نجت بالتسليم من بطش الفاتح ولكن التتار احتجوا باستمرار القلعة في المقاومة فشددوا عليها الحصار حتى سلمت، ثم اقتحموا المدينة وصادروا أهلها وأوقعوا فيها السفك والعبث والنهب وأضرموا النار في معظم أحيائها وتكررت المناظر المروعة التي وقعت في حلب، على أن ابن خلدون لم يقطع صلته بالفاتح بل لبث متصلا به يتردد لزيارته خلال المحنة. وحدثه تيمورلنك ضمن ما حدث بأمر شخص تقدم إليه مدعيا بالخلافة وأنه سليل بني العباس وجرت مناقشات فقهية طويلة في شأنه أشترك فيها المؤرخ وأدلى فيها بآرائه ونظرياته في الخلافة. وقدم ابن خلدون أيضاً إلى الفاتح هدية هي (مصحف رائق وسجادة أنيقة ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة) ولما قدمها إليه وضع تيمورلنك المصحف فوق رأسه بعد أن عرف أنه القرآن الكريم، ثم سأله عن البردة وذاق الحلوى ووزع منها على الحاضرين في مجلسه.

والتمس المؤرخ منه في هذا المجلس أماناً للقضاة والرؤساء والعمال فأجابه إلى طلبه وأصدر الأمان.

يصف لنا ابن خلدون هذه المحادثات والمقابلات التي وقعت له مع الفاتح التتري، وقد ك فيها يؤدي دور المفاوض والسياسي القديم. ولكن مؤرخاً مصرياً هو ابن أياس يقدم إلينا فيذلك رواية أخرى، فيقول لنا إن الذي قام بمفاوضة تيمورلنك في تسليم دمشق هو القاضي تقي الدين بن مفلح الحنبلي، وإنه هو الذي أدلي من السور وأختاره الزعماء لتلك المهمة، لأنه كان يعرف التركية ولأنه هو الذي سعى في تسليم المدينة وأقتاد وفد القضاة إلى الفاتح وأستصدر منه الأمان وتولى تنفيذ جميع رغائبهفي جمع المال والأسلاب. ولكن ابن خلدون صريح في روايته في إنه هو المفاوض والوسيط في عقد المهادنة بين الفاتح وأهل دمشق كما قدمنا وأنه كان ممثل الرؤساء والقضاة لدى تيمورلنك ولا شك في روايته. وهي من جهة أخرى رواية ابن عربشاه الدمشقي مؤرخ تيمورلنك الذي كتب تاريخه قريباً من هذه الحوادث فهو يصف لقاء ابن خلدون للفاتح تحت أسوار دمشق على رأس العلماء والقضاة ويصور لنا قي عبارة شعرية ساحرة منظر هذا اللقاء وما تخلله من أحاديث ومناقشات. على إن صحة هذه الرواية لا تمنع من جهة أخرى أن يكون آب مفلح قد أشترك في المفاوضة وتولى تنفيذ شروط التسليم.

ولعل ابن خلدون كان يعلق على صلته بالفاتح آمالاً أخرى غير ما وفق إليه في شأن دمشق وشأن زملائه العلماء والقضاة، ولعله كان يرجو الانتظام في بطانة الفاتح والحظوة لديه والتقلب في ظل رعايته ونعمائه. على أنه لم يوفق بلا ريب إلى تحقيق مثل هذه الأمنية فلم تمضِ أسابيع قلائل حتى سأم البقاء في دمشق وذهب إلى تيمورلنك يستأذنه في العود إلى مصر. فإذن له وطلب إليه في تلك المقابلة أن يقدم إليه بغلة إذا استطاع فأهداه المؤرخ إياها وبعث إليه تيمور ثمنها فيما بعد عقب وصوله إلى مصر. وغادر المؤرخ دمشق في شهر رجب (سنة 803) لنحو شهرين فقط من مقدمه إليها ودهمه اللصوص أثناء الطريق فسلبوه ماله ومتاعه ولكنه وصل سالماً إلى القاهرة في أوائل شعبان سنة ثلاث وثمانمائة.

وهنا يهتف المؤرخ مغتبطاً بنجاته (وحمدت الله على الخلاص) ويقول لنا أنه كتب إلى سلطان المغرب مولاه السابق يصف هذه الحوادث وما دار بينه وبين تيمورلنك ويصف له الفاتح وعظم بأسه وشاسع ملكه وروعة سلطانه.

(3)

وما كاد ابن خلدون يستقر في القاهرة حتى أخذ يسعى للعود إلى منصب القضاء. وقد رأينا إنه كان يحتفظ دائماً بكرسي التدريس في مدرسة أو اثنتين. ولكن القضاء من مناصب السلطة والنفوذ، وكان ابن خلدون يشعر وهو في ذلك الجو المشوب بكدر الخصومة والمنافسة إنه بحاجة إلى ذلك النفوذ الذي أعتاد أن يتمتع به في جميع علائقه السلطانية، وكانت المعركة التي تضطرم حول ذلك الكرسي، والتي شهدنا مظاهرها في تكرار تعيينه وعزله، تذكي بلا ريب في نفسه شهوة الظفر بذلك الكرسي، فيكون ذلك آية نصره على خصومه ومنافسيه. وكان المؤرخ قد بلغ الرابعة والسبعين يومئذ، ولكن نفسه الوثابة كانت تتطلع أبداً إلى مسند النفوذ والجاه، ويصور لنا هذه النفسية مؤرخ مصري نزيه ثقة في إشارة موجزة إذ يقول لنا في خاتمة ترجمته للمؤرخ (رحمه الله، ما كان أحبه في المنصب) وكان ثمة شيء آخر إلى جانب هذا الشغف بالمنصب، فقد كان بين ابن خلدون وبين خصومه نضال، وكان منصب القضاء كما سنرى محور هذه المعركة، يرتفع ابن خلدون إليه كلما استطاع أن يسترد مكانته في القصر وأن يتغلب على كيد خصومه، ويفقده كلما نجحت سعاية خصومه في حقه.

عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية في المحرم سنة ثلاث كما قدمنا، وذهب معزولاً في ركب السلطان إلى الشام، فاتخذ خصومه بعده عن القاهرة فرصة للدس في حقه، وزعم بعضهم إنه هلك في حوادث دمشق. ويريد المؤرخ هنا أن نفهم أن المنصب كان محفوظاً له أو أنه وعد على الأقل برده إليه من أولي الأمر، فيقول لنا أنه على أثر هذا الإرجاف في حقه عين مكانه في قضاء المالكية، جمال الدين الأقفهسي (جمادى الثانية سنة ثلاث) فلما عاد إلى مصر عدل عن ذلك، وعزل الأقفهسي، وولي ابن خلدون للمرة الثالثة في أواخر شعبان أو أوائل رمضان فلبث في منصبه زهاء عام يعمل في جو يفيض بالأحقاد والخصومة، ولكنه يقول لنا أنه لم يحفل كعادته بمصانعة الأكابر وأنه أستمر كما كان (من القيام بالحق والإعراض عن الأغراض). فاضطرمت من حوله الدسائس القديمة، واشتدت في حقه المطاعن والمثالب، وأسفرت المعركة عن النتيجة المعتادة، وعزل المؤرخ كرة أخرى في 14 رجب سنة أربع (804)، وولى مكانه جمال الدين البساطي في أواخر رجب، وهو ممن شغلوا المنصب من قبل. والظاهر أن المعركة كانت هذه المرة أكثر وضوحاً وصراحةً، وإن ابن خلدون عانى من حملات خصومه ما لم يعان من قبل حتى أنه طلب بعد العزل أمام الحاجب الكبير، ووجه إليه كثير من التهم، ويقول لنا ابن حجر والسخاوي في هذا الموطن: (وادعوا عليه (أي على ابن خلدون) أموراً كثيرة أكثرها لا حقيقة له، وحصل له من الإهانة مالا مزيد عليه). وهنا اشتدت المعركة بين المؤرخ وخصومه، واستحالت إلى نضال عنيف سريع الأثر، وبقي مظهرها التداول على المنصب، ولكنه أنحصر حينا بين ابن خلدون والبساطي، مما يدل على إن البساطي كان ممثل الحزب الذي يناوئ المؤرخ في هذا الدور من المعركة. والظاهر أن ابن خلدون كان يعتمد في مقاومة خصومه على عوامل وقوى ليست أقل أثراً مما يعتمدون عليه، فإنه لم يمض على ولاية البساطي نحو ثلاثة أشهر حتى عزل في أوائل ذي الحجة، وعين ابن خلدون للمرة الرابعة في 16 ذي الحجة، واستمر في المنصب عاماً وشهرين، ثم رجحت كفة خصومه فعزل في السابع من ربيع الأول سنة ست (806)، وأعيد البساطي في الشهر نفسه، ثم عزل في شهر رجب سنة سبع، وأعيد ابن خلدون للمرة الخامسة في شعبانسنة سبع، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر في 26 ذي القعدة من نفس العام، وأعيد خصمه القديم جمال الدين الأقفهسي فلبث ثلاثة أشهر، ثم عزل وخلفه جمال الدين التنسي لمدة يومين فقط، ثم أعيد البساطي في ربيع الأول سنة ثمان (808) وعزل في شعبان من العام ذاته، ثم أعيد ابن خلدون للمرة السادسة فلبث في منصبه بضعة أسابيع فقط وفي السادس والعشرين من رمضان سنة ثمان وثمانمائة (16 مارس سنة 1406م) توفي المؤرخ والمفكر الكبير، قاضيا للمالكية وقد بلغ الثامنة والسبعين من حياة باهرة حافلة بجليل الحوادث وروائع التفكير والابتكار، ودفن في مقبرة الصوفية خارج باب النصر وهي يومئذ من مقابر العظماء والعلماء.

ويصل ابن خلدون تدوين أخبار هذا النضال العجيب حتى عزله للمرة الخامسة في ذي القعدة سنة سبع أعنى إلى ما قبل وفاته بعدة اشهر فقط.