مجلة الرسالة/العدد 797/صلاة عصر في مسجد قرطبة عام
مجلة الرسالة/العدد 797/صلاة عصر في مسجد قرطبة عام
1368 هـ
للدكتور محمد موسى
منذ فرغت من عملي في (السوربون) وأنا أحلم بزيارة للأندلس أرضي بها العقل بالتنقيب في مكتبة (الأسكوريال) والروح بالعيش فترة من الزمن في الأرض التي ذللها أجدادنا وقامت فيها عواصم للعلم والسياسة في الإسلام. وكان كل ما شاهدت من مدريد إلى اشبيلية حيث أنا الآن يؤكد لي أن أسبانيا بلد ليس بالغربي ولا بالشرقي، بل هو بين بين. هو حقاً بين الشرق والغرب بما أحتفظ من تقاليد الأول وعادته، وبما تمكن فيها عن الآخر من المسيحية التي تتعصب لها تعصباً شديداً؛ والارض نفسها تمثل هذا ايضاً بما تنبت من الزيتون والنخيل وقصب السكر والموز، إلى جانب مزروعات الغرب التقليدية.
لكن قرطبة عاصمة الأمراء والخلفاء شئ غير هذا كله. لقد كان القطار يسير بي من مدريد وأنا في شغل عما حولي! كنت أعيش بخيالي وعاطفتي في قرطبة الإسلام، في قرطبة التي صارت مقبرة لعصر من اكبر العصور الإسلامية أزدهاراً، في قرطبة عبد الرحمن الداخل وأعقابه الاماجد، في قرطبة ابن رشد وكبار العلماء الاسلاميين. لقد أستبد بي الخيال، وأسرتني العاطفة حتى خلفني مقدماُ على بلد إسلامييموج بعلماء الإسلام موجاً؛ ولكني وصلت إليها فإذا الأهل غير الأهل، والوجوه غير الوجوه، وإذا العجمة والمسيحية هي الحاكمة المستبدة في كل شئ!
وأخيراً، هاأنذا في المسجد الذي يمثل الشيء الوحيد الحري بالزيارة في المدينة: هذا هو (صحن البرتقال) مجمع حلقات العلماء؛ وهذا هو (اللّوان) أو الدهليز اليميني حيث مجلس أبن رشد يشرح أرسطو ويقربه للناس؛ وهذا هو الدهليز الشمالي حيث كانت تقام العدالة وتفصل الخصومات؛ وبعد هذا ها هو ذا المسجد نفسه الذي يحس المرء فيه بقبس من الخلود، حيث كان العلماء من المسلمين واليهود والنصارى يتدارسون لغة واحدة هي العربية، ويتعلمون ويعلمون علماً واحداً هو العلم الإسلامي كما ينقل (رينان)! كل ذلك ذهب وصار تاريخاً بعد أن كان حقيقة تملأ الأذن والبصر!.
وفي وسط المسجد أقيمت الكاتدرائية! إلا أنها على ضخامتها لم تنل من الأثر الإ الخالد حتى كأنه لا يحس بها! ومنارة المسجد التي تذهب إلى السماء ناحية الأزلية والخلود، نحواً من خمسة وستين متراً جعلها التعصب برجاً للكنيسة بما أقيم في جناباتها من نواقيس وما علاها من الصليب. إلا أن كل هذه المظاهر لم تنزعني من الجو الذي أعيش فيه، حتى لقد صعدت المنارة وأذنت فيها بصوت سمعه من كان معي للعصر، ثم أديت الصلاة في داخل المحراب بعد أن فتح لي خاصة! وأظن أن رفيقي، وهو أستاذ فاضل مستعرب قرطبي، ظن بي الظنون! وعلى كل فقد أحترم عاطفتي ووقف هو وآخرون من المتفرجين على مبعدة!.
وبجوار المسجد مقر الخلافة والخلائف الذي صار الآن مقر كبير رجال الدين. وقد نفس عني قليلاً ما تذكرته من قول شارلكان وقد زار المسجد سنة 1526 حين رأى الكنيسة وسطه: لقد (بنيتم هنا أثراً كان يمكن أن يبني في أي مكان، وأفسدتم أثراً وحيداً في العالم!).
والمسجد ومقر الخلائق يطل كلاهما على (الوادي الكبير) التي لا تزال مياهه تجري في استحياء! وقد عبرت القنطرة على هذا النهر إلى الجهة المقابلة التي كان العرب يسمونها أو الريف في الجهة المقابلة. وبهذا النهر تنتهي المدينة القديمة.
بعد هذا خرجت من المسجد وزرت محلة اليهود على مقربة جداً منه؛ وبها منزل صغير يحمل الآن رقم 18 رأى أبن ميمون الفيلسوف اليهودي الأشهر فيه النور؛ وبها معبد من معابدهم بني بعد أبن ميمون، وإن كانت الحكومة أقامت في مدخله لوحة تذكارية لمرور 800 عام على ولادته (1135 - 1935م) لماذا لا تقام لوحة أخرى تذكارية لأبن رشد معلم وشيخ أبن ميمون!
حسبي من زيارة قرطبة هذا المسجد، وحسبي أني عشت فيها فترة لذيذة ومؤلمة في جو إسلامي خالص حتى كنت أؤدي فيها الصلاة في وقتها في أغلب الأحوال في الفندق الذي نزلت فيه.
انتهى الآن وأنا على سفر إلى الجزيرة، جزيرة طريف، لعلي أستطيع منها العبور إلى طنجة ومراكش، ثم أعود إلى الأندلس لرؤية غرناطة والله المستعان.
محمد موسى.