انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 796/في موسم الحج:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 796/في موسم الحج:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 10 - 1948



أبو نواس يحج!

للشيخ محمد رجب البيومي.

شغل الحسن بن هانئ اذهان معاصريه، فقد كانت سيرته ذائعة شائعة يتناولها الظرفاء متندرين معجبين، ويتناقلها الزهاد لائمين ناقمين، وهو لا يفتأ يضرم النار ويشعل الوقود بما ينظم من شعر ما جن يتردد صداه في كل ناحية، ويترنم به الحداة في كل ركب. وكثيراً ما يشفع القول بالعمل فيلجأ إلى الديارات الخليعة ويتصدر الأندية الداعرة، يعب الخمر وينادم المرد، ويقود الأسراب الطائرة إلى منابع السكر، حيث تتجاوب الأوتار، وتدور الكؤوس، ويترأس إبليس الحفل، فيفتح باب الغواية على مصراعيه، ويوسوس لكل ما جن بما يسئ المروءة، ويغضب الخلق الكريم.

وشاعر هذه نشأته وسيرته لا يمكن أن يفكر يوماً من الأيام في الحج، بل ربما نفر منه ودعا إلى حربه، حيث لا يعود عليه بفائدة مما يبتغيه. وإذا كان شعراء الغزل في الدولة الأموية قد وجدوا في هذا الموسم الحافل معرضاً فسيحاً للجمال الفائق، فخفوا إلى التمتع ببدائعه الفاتنة، فإن الحسن لا يجد به مآربه المشتهاة، فهو يناغي المرد الحسان ويهيم بالخمر المعتقة؛ أما أسراب الغيد الطائرة حول البيت العتيق فلم تتمكن شباكها الخاتلة - بعد - من اصطياده، ففيم السير إلى مكة؟ وعلام يتحمل الشاعر في سفره المشاق؟ بل إنه سئل عن موعد حجة فقال مستهتراً كعادته (إذا نفذت لذات بغداد) وهيهات أن تنضب موارده اللهو في دار السلام!

ولكن الثابت في التاريخ - على رغم ما تقدم - أن أبا نؤاس قد حج البيت المكرم فطاف مع الطائفين، ولى مع الملبين، وقد غمره شعور سماوي هيمن على عواطفه فأنطقه بتسابيح خالدة، تستمد نغمها الحلو من قيثارة فاتنة، فكيف تسنى ذلك لأبي نواس؟ وكيف ينبع في الصحراء الموحشة نهر دفاق ملئ؟ سؤال يتطلب رداً مقنعاً. ولعل الإجابة تظهر في تاريخ الرجل، فقد شاء له حظه العاثر أن يهيم بجارية تمقته وتزدريه، وترسل قذائفها المحرقة فوق رأسه، وهو سليب العقل، طائر الفؤاد، يسير ورائها أني سارت، ويبعث خلفها الرسل يستعطفون منها قلباً جامحاً، لا ينبض برحمة لهالك، ولا يستشعر حناناً لمدنف. ولقد كان هذا عجيباً منه أي عجيب، فقد أشتهر طيلة حياته بمجانية الغيد، فكيف يتورط إذن في هذا الحب الجديد؟

كانت (جنان) جارية عبد الوهاب الثقفي ساحرة فاتنة، ذات وجه أزهر صبيح، إذا تأملته تعاظمك الإقرار أنه من البشر - كما يقول الحسن - تجمع إلى دل الحديث وسحر الملامح ذكاء وفاداً، وفهما عميقاً للشعر الرفيع، ورواية واسعة للأدب، وقد خطرت ذات عشية أمام الحسن فأخذت عقله من مكمنه، ونقشت صورتها في مهجته، فترك عصابته الماجنة، وسار يتعقبها في كل مكان تحل به، فإذا كان في البصرة عرس واجتمعت النساء، خرج يتلمس صاحبته في اهتمام بالغ، فإذا وقعت عينه عليها لم يطق أن يسارقها النظر بعض الوقت، فيخفض رأسه حزيناً باكياً إلى الأرض، ويهيم في آفاق خياله فيعقد موازنة شعرية بين (جنان) وعروس الحفل، وطبيعي أن يحكم بتفوق صاحبته في مضمار الحسن والملاحة، ثم هو لا يكتم ذلك، بل يلعنه على الناس إذ يقول:

شهدت جلوة العروس جنان ... فاستمالت بحبها النظارة

حسبوها العروس حين رأوها ... فإليها دون العروس الإشارة

وإذا قام في البصرة مأتم حزين وهرعت العذاري إليه كعادتهن ترك الشاعر ما يملأ سمعه من النواح والعويل، وأخذ يتلمس صاحبته في موقفها الدامع، ويسبح في آفاق تفكيره، فلا يوازن بينها وبين عذراء ممن شاهدهن كما فعل يوم العرس، بل يجب الموازنة بينه وبين الميت الفقيد. ولا غرو فقد قتله الحب فهو جدير بأن تبكي عليه صاحبته كما تبكي الآن على الراحل النازح، ثم هو يبلغها ذلك في شعر رقيق هادئ. اسمعه إذ يقول.

يا قمراً أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب

يبكي فيذرى الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب

لا تبكي ميتاً حل في حفرة ... وأبك قتيلاً لك بالباب

وكانت (جنان) تعتقد خاطئة أن أبا نواس غير صادق في حبه لأنها تعرف عنه خلاصته وادعاءه، فكانت تسبه وتؤذيه وتطعنه في رجولته، وتنال من كرامته كل منال، ولم تصف له غير حقبة يسيرة مرت في حياة العاشق مرور الطيف، وتركت وراءها طوفاناً جارفاً من السهد والدمع. وكأن الله عز وجل قد أراد أن يؤدب الحسن بهذا الحب، فقد خلع كبرياءه وغروره وترك وقاحته وهجره، ثم هام كالمشدوه على وجهه، فإذا سأل عن (جنان) قوبل بما يكره من الأنباء الصاعقة، والأخبار الفاجعة وهو في كل دقيقة يتجلد ويتصبر. وقد يدق شعوره فيتصور سبابها المقذع تكريماً جليلا لشخصه، لأنها تذكر أسمه لا محالة، وفي هذا غنم كبير يساق إليه بلا حساب، اسمعه يقول:

أتاني عنك سببك لي فسبي ... أليس جرى بفيك أسمي، فحسبي

تشابهت الظنون عليك في ذا ... وعلم الغيب منه عند ربي

وليت شعري لم يذكر أسم ربه في هذا الموضوع وقد نسيه قبل ذلك؟ أيكون الحب قد جذبه قليلاً إلى روضة الإيمان، أم أنه الضعف البشري يتسلط على المرء فيلجئه إلى الاستعانة بربه، وإن تقطعت السبل، واستبهم الطريق.

ولقد تطايرت الأنباء إلى العاشق المدنف أن (جنان) ستحج مع مولاها إلى مكة وذهب الحسن يتأكد من النبأ ويستوثق من مصادره العلمية، فعرف أنه حق لا مرية فيه، ومن ثم فقد أعد العدة، وأعلن لأصحابه أنه سيخف إلى مكة في قافلة صاحبته. ولم يدهش البصريون لحج الشاعر، فهم يعلمون أنه يقصد به غير وجه الله. ولقد كان يتتبع صاحبته في كل مكان له تتزك بالبصرة، فلا عليه إذا واصل مراقبته الدقيقة في مكة، مهما كلفه ذلك من صحته وماله، والطريف أنه لا يقبل أن يترك الناس في حيرة من حجه المفاجئ، بل يكشف اللثام عن باطن سره إذ يقول:

ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبها عسير

فلما لم أجد سبباً إليها ... يوصلني وأعيتني الأمور

حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير

وأنت لو قارنت بينه وبين أبن برد لأدركك العجب من ثبات بشار وخفة الحسن، فقد خدع الأعمى قومه حين زعم أنه سيحج تائباً إلى ربه وأتجه في أيام الحج إلى (زرارة) وأقام بها مع أحد أصحابه، ثم رجع مع العائدين من مكة في يوم واحد، وجلس يتقبل التهاني، ويقص الأحاديث المسهبة عن زمزم والحطيم، دون أن يفضح نفسه بكلمة واحدة، حتى أماط صديقه القناع، فكشف أمره أمام الناس في أبيات فاضحة، أما أبو نواس فهو لا يريد أن يلبس على القوم حقيقته، فيتستر بالورع والنسك، ويدجل بالطواف والتلبية، بل يذيع شعره الصريح على الناس في جرأة واستخفاف. ومتى أهتم الحسن بالجمهور، وقد جانب المحجة، وخلع العذار!!.

ولقد ظهرت براعته العجيبة في مكة حيث عرف فتاته في لجج طاغية من الزحام الحاشد، فجعل يتبعها خطوة خطوة، ويتعقبها في طوافها تعقباً يدعو إلى الغرابة والدهشة. ومن حيله الماكرة أنه التمس تقبيلها للحجر الأسود فقبله معها في وقت واحد، وطاف بخده على صفحة وجهها الفاتن، وقد شاهده في هذا الوضع المريب محمد بن عمر الجماز فصاح به: (ويحك! في هذا الموضع لا يزجرك زاجر، ولا يمنعك خوف الله، ولا يردك حياء من الناس؟) فقال له الحسن (يا أحمق، وهل حسبت قطع المهامة والسباسب إلا للذي حججت له، وإليه قصدت)، ثم شاد شيطانه الداعر أن يكشف حيلته للناس، فقال هذه الأبيات

وعاشقين التف خداهما ... عند استلام الحجر الأسود

فاشتفيا من غير أن يأثماً ... كأنما كانا على موعد

لولا دفاع الناس إياهما ... لما استفاقا آخر المسند

ظلنا كلانا ساترا وجهه ... مما يلي جانبه باليد

نفعل بالمسجد ما لم يكن ... يفعله الأبرار بالمسجد

ولقد كانت مشاعر الحسن - وهو الشاعر المطبوع - متيقظة منتبهة في طوافه وتلبيته، فلم يكد يسمع الترانيم الشجية يصدح بها الملبون طوائف تتلاحق وتتتابع، حتى حركت أوتار قلبه وأخذ النغم الساحر يسكب في سمعه نشوة راقصة فنسى جنان بضع لحظات وسحره الجمع الحاشد يصيح ويستصرخ، قلبي مع الملبين تلبية هي في الواقع تغريدة عذبة صدح بها فنان موهوب، فهو يقول في رنة حلوة وتوقيع جميل:

إلهنا ما أعدلك ... مليك كل من ملك

لبيك قد لبيت لك ... وكل من أهل لك

لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك

والليل لما أن حلك ... والسابحات في الفلك

على مجارى المنسلك ... ما خاب عبد أمّلك

أنت له حيث سلك ... لولاك يا رب هلك يا مخطئاً ما أغفلك ... عجل وبادر أجلك

وأختم بخير عملك ... لبيك إن العز لك

والملك لا شريك لك ... والحمد والنعمة لك

ولله ما أبدع الحسن! فقد كان شاعراً قبل أن يكون عاشقاً؛ فهو يتأثر بالمنظر الرائع فيبرز صورته الجميلة في مرآة شعره، وإن شغله بعض الوقت عن فاتنته، ولا يعقل أن ينقص هذا من حبه في قليل أو كثير، لأن الشاعر حساس مرهف يتأثر بكل ما يرى ويسمع فيتغنى به في سهولة ويسر. ولئن كان المجنون قد طاف مع الطائفين، وشاهد ما شاهده الحسن، فلم يخض كصاحبه فيما خاض فيه الملبون، ومضي يتساءل عن ليلاه ويرسل زفراته الشعرية المحرقة، فلأن قيساً كان عاشقاً قبل أن يكون شاعراً؛ فهو على النقيض من أبي تواس، ولا تثريب عليه إذا اشتغل بليلى عن كل شاغل، ونسى موسيقى التلبية الفاتنة. وليت شعري كيف يصيخ إليها تأته مجنون!

وكثيراً ما يقف الأدباء أمام مقطوعة الحسن في التلبية وما يشاكلها من أشعاره في الزهد والتوبة حائرين مرتبكين، حيث يستغربون صدور هذه النفثات الصادقة من خليع مستهتر بالشرع الحنيف. لقد فات هؤلاء جميعاً أن لكل نفس مهما غرقت في الخلاعة والفسق سبحات خاطفة تصلها بالسماء فتندم على ما فرطت في جنب الله، وتتجه إلى الخالق مستغفرة باكية، فلا عجب إذا أدركت الشاعر هذه اللحظات الخاطفة فقال أبياته الزاهدة، ولا سيما والحسن برغم مجونه الزائد متصل السبب بالآثار الدينية والمواعظ الروحية؛ فقد صحب في صباه أئمة الدين، وروي الحديث النبوي، حتى عده الجاحظ الذهبي في ميزان الاعتدال من رواته، وإن هجنه ووصمه بما يسقطه ويرديه، كل ذلك يدعوه إلى الندم والحسرة على ما ترتكبه ويأتيه. وأعتقد أن شهرة الشاعر بالخلاعة قد جنت عليه أكبر جناية، فقد طاب له أن يتناقل الناس نوادره وأشعاره وكلها طريف ممتع في بابه - وخيل إليه أنه إذا أنقطع عن غيه، سكت الناس عنه فلم يلهج بذكره ذاكراً. وصاحبنا - كجميع الشعراء كلف بالشهرة مولع بالظهور، بل إنه صرح بذلك لأبي العتاهية حين لامه في تهتكه. وإذا كان الصيت الذائع في رأيه لا يكون بغير الخلاعة الزائدة، فليتطلبه من طريقها الشائن. . . وهذا ما كان! وكيفما كان الحال، فقد رجع الشاعر من مكة كما ذهب إليها، لم يتقرب إلى الله بتوية ترفع عنه سيئاته، وحسبه أن وجد في البيت العتيق طريقاً يوصله إلى جنان بدل أن يوصله إلى الله!! وليته ظفر بما يريد، فإن صاحبته ما زالت برغم جنونه بها تمقته وتزدريه، وعذرها في ذلك أنها لم تصدقه فيما يدعيه، ولا جرم فقد جنت عليه شهرته السالفة بالمرد الحسان، فحق لجنان الماكرة أن تعذبه بالحرمان.

وقد يئس الشاعر من صاحبته في النهاية، فأركب على الشراب وحالف السكر محالفة تنسيه شواغل الوجد ولواعج الهيام، ثم ترك البصرة بما فيها من معارف وأصدقاء وأتجه إلى مدينة السلام، فرأى البصرة لا تقاس بها في الترف والمجون، فقد حوت من المتع والملاذ ما ستخف الوقور ويصبي الحليم، فغرق في الخلاعة إلى أذنه، ونهز بدلوه مع الغواة، وبلغ ما يبلغ المرء بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام!

عفا الله عن الحسن بن هانئ فقد حج إلى البيت العتيق حجاً غير ميرور، ونظم في الزهد والتوبة مالا يحب إزاء آثامه ومخازيه، ولكنه خدع من كتب عنه من المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية، فزعم أنه تنسك وزهد، وما كان الشاعر طيلة حياته من الزاهدين، ولكنه قال قول الزهاد، وفعل أفعال المجان، فكان كصاحبه جميل تذبح العصافير في قسوة، وتدمع عليها في رحمة.

فلا تنظري يابثن للدمع وانظري ... إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي.