مجلة الرسالة/العدد 796/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 796/رسالة الفن
الزهريات الإغريقية
للدكتور أحمد موسى
- 2 -
كان أول مصنع أقيم لصناعة الزهريات في بلاد الإغريق بمدينة كورينثيا القرن السادس ق. م. وأنتشرت هذه الصناعة حتى بلغت جنوب ووسط إيطاليا وراجت منهما.
وكانت أول الزهريات الكورنثية صغيرة الحجم رقيقة التكوين، صنعت من طين ناعم الملمس، مزودة برسومات بنية حمراء رسمت على أرضية صفراء باهتة، أما نقوشها فكانت عبارة عن خطوط أفقية متجاورة، ألتفت حول البدن، وبين كل مجموعة من هذه الخطوط، وبين ما علاها تركت مسافة ملئت برسوم للحيوان والانسان في أوضاع مختلفة ولكنها بسيطة بالقياس إلى ما سيليها.
وتتلخص الصفة الظاهرة لهذا النوع في أنها مشابهة في مجموعها لتلك التي عملت برودس، من حيث الإخراج واختيار الألوان وأسلوب التصوير؛ فترى غصن شجرة وقد بدا بالقرب من قاعدة الزهرية متجهاً إلى أعلى، تفرعت منه أغصان أدق وأرفع، وزعت في نظام يدل على الخضوع لحظة مرسومة، بحيث جاءت بينها مسافات أو مساحات أستخدمها الفنان لتصوير الإنسان والحيوان كالسد والثور وأبي الهول، وما تبقى من المساحات زوده الرسام بزخارف من بينها الورود الصغيرة التي كانت محببة إلى الأغارقة بصفة خاصة.
على أن المستعرض للزهريات الكورنثية بصفة عامة يخرج بنتيجة صريحة هي أنها ذات احجام صغيرة كما سبق التنويه، وذات شكل كروي غالباً لها غطاء يوضع فوق العنق في بعض الأحيان.
وقد طرأ تغيير ظاهري في صناعتها في اواخر القرن السادس ق. م. فدت اكبر حجما وذات مقبضين ويسمونها (أمفورا) وأصبح لون الأرضية أكثر احمرارا نتيجة لزيادة الحريق في الأفران، ورأى الفنان نفسه مضطراً إلى استخدام نوع داكن من الورنيش يتناسب مع لون الأرضية، فتكون ألوانه أكثر وضوحاً، كما أنه أستخدم اللون الأبيض والأحمر البنفسجي.
وبدأ الفنان يعني بتقسيم مساحة الزهرية كلها إلى اٌسام معينة، بعدما كانت لا تشتمل إلا على فواصل جاءت دون قيد ودون خطة موضوعة. وكان أهم هذه الأقسام مخصصاً لتصوير قصص الأبطال في أغلب الحالات. أما الأقسام الأقل أهمية فكانت مجالا لتصوير الحيوان أو الفرسان على ظهور الجياد أو ما شابه ذلك.
ولعل من أحسن الأمثلة على هذا الاتجاه زهرية مشهورة محفوظة بمتحف برلين تبين فرسان (أمفياراوس) والى جانب المشكاوات الكورنثية وجدت في نفس المرحلة الزمنية مصانع للفخار وعمل الزهريات في إيطاليا، فظهرت في الأفق مجموعة خالكيس تتميز بصور الرجال من الزخارف النباتية التي وجدت بالزهريات الكورنثية.
وشاع ظهور المشكاوات المسماة (أمفورا) ذات المقبضين والتكوين الكروي القائم على قاعدة مستديرة. وقد التف حول وسطها حزام عريض ملئ بصور تمثل سير الأبطال وأحوالهم كعراك هرقليس مع جريونيوس والعراك حول حثة أخيل، والوداع بين هكتور وبين باريس الخ، مما لا تتسع له إلا الكتب.
ولم يدع الحال طويلا على هذا المنوال، فلم يكد يبدأ القرن الخامس قبل الميلاد إلا وكانت أثينا قد بدأت تتغلب شيئاً فشيئاً على المشكاوات التي أنتشرت في إيطاليا وانفردت بالرواج طوال القرن الخامس والنصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد.
أنظر إلى المشكاة رقم (1) وهي المسماة (أمفورا) وتأمل بساطة الزخرفة ثم أنظر إلى مجموعة الرجال وقد أتجه ثلاثة منهم نحو اليسار واثنان نحو اليمين كأنهم في حديث هام، والعجيب أن الفنان استطاع التعبير عما يريد في هذه الرقعة الضيقة بكل إتقان، أما رقم (3) وهي يسمونها (هيلدا) ذات مقبضين أفقيين اشتملت مصوراتها الألوان الثلاثة: الأسود والأحمر والأبيض وقسمت مساحتها إلى ثلاثة اقسام أفقية أوسطها لرجال ونساء وأعلاها لحيوانات وطيور، أما الأمفورا رقم (6) فهي ولا شك أكبر حجماً وأرشق تكويناً - والصور الزخرفية هندسية الطابع إغريقية المزاج، ولعلك تذكر أن الوحدة الزخرفية الموجودة أسفل الصورة مباشرة هي ما يسمونها مياندر نسبة إلى نهر ذي تعاريج يأتي ذكره فيما بعد.
وقد سارت المشكاوات الأتيكية في أول أمرها متأثرة بنظائرها اليونية ثم بالكورنثية حتى أوائل القرن السادس قبل الميلاد حيث استقلت بنوع من التصوير يسمونه (التصوير السود اللون).
وتمتاز الأتيكية المذكورة بجمال اللون الأحمر ورقته ودفئه وكذلك ببريق الورنيش الذي يراه المشاهد لأول وهلة.
هذا من حيث (الصنعة) أما من حيث الإخراج الفني فقد فامتازت المصورات بعناية المصور ومقدرته على تنفيذ الفكرة بأسلوب يدل على المران والتمكن.
كما أنه تفنن في نوع الزخارف فضلا عن عنايته بضبط خطوطها وانحناءاتها وحسن اقتباسه لوحداتها مع التقليل منها ووضعها في أماكن خصصت لها، لا تطغى على المصورات، بل تساعد على توجيه النظر إليها لوجودها في النهايات كأنها إطار يحيط بالمشكاة.
وكان الموضوع المثير لأهتمام الفنان المصور ينحصر في سير الأبطال يستلهم منها مادة فنه، ويلي ذلك مناظر الحياة الاجتماعية والاحداث اليومية يعيش فيها ويتأثر بها ويسجلها في سجله الخالد على الزمن.
ولعل الاتجاه الذي كانت له قيمته الخاصة ذلك الاتجاه نحو تسجيل المناظر الجنائزية في مجموعة عرفت بأسم شكلها على هيئة (الأمفورا) إلا أنها أكثر منها ارتفاعا وأكبر حجماً، وكان الغرض منها تحلية المقابر والجبانات.
والملاحظ أن في هذه المرحلة الزمنية بدأ الفنان يشعر بكيانه وبقيمة عمله فأخذ يسجل أسمه على كل مشكاة يصورها، فجاءت مجموعة (بان أثينا أمفورا) ولا تخلو واحدة منها عن أسم المصور، وهذه المشكاواة كانت تملأ عادة بالزيت لتقدم إلى أوائل المتسابقين اعترافاً لهم بالتفوق والتقدير، في أعياد بن أثينا آلهة المدينة. وبمناسبة كتابة اسماء المصورين أراه لزاما أن اذكر (كليتياس) مصور زهرية فرنسوا المشهورة، وأرجو تيموس وسوفيلوس ونيآرخوس وأولاده الخمسة.
ويتلخص الفارق البارز بين الزهريات (ذات الأجسام الحمر) من (ذات الأجسام السود) في أن الأخيرة رسمت عليها الأجسام بهذا اللون وأحيطت بلون أرضية الزهرية، على حين كانت ذات الأجسام الحمر عبارة عن خطوط تحديدية غطى ما يحيط بها باللون الأسود الدخيل على الزهرية.
وببلوغ الصنعة هذه الدرجة من التجديد، كان فن تصوير المشكاة قد تقدم من حيث السلوب؛ فأصبح التعبير أكثر قوة عن ذي قبل، كما بدت التفاصيل أكثر دقة وأكمل أداء بالقياس إلى سابقتها التي انفردت باللون الأسود وظلت حافظة على مستوى محدود من الإتقان وقفت عنده.
وبعدما كانت الأجسام البشرية اشبه شئ بوسيلة من وسائل التعبير عن فكرة معينة، أصبحت قوية من حيث إنشائها والأسلوب الفني الذي تم به تصويرها، فكانت العنصر إلهام الواضح الأثر.
وتقدم فن تصوير المشكاة تقدماً مستمراً من ذلك الحين أي منذ حكم بيزستراتس حيث ظهرت الأجسام باللون الأحمر، حتى منتصف القرن الخامس ق. م. عندما ظهرت اسماء لامعة في عالم تصوير المشكاوات أمثال أويفورونيوس وزميله إبيكتيت وغيرهما من المحدثين نسبياً أمثال دوريس وبريجوس وهيرون , , , ورسمت بعض المشكاوات مزودة بأسماء وتفسيرات لبعض مناظرها، كما كتبت بعض المعاني الرمزية للتعبير عن مشاعر خاصة. ومن هذا نرى أن تصوير المشكاة كان فناً له خطره وأثره البالغ؛ إذ تكونت منها مجموعة هي سجل حافل بما يميط اللثام عن حياة الأغارقة بين الواقع وبين الخيال.
وبالنظر إلى الزهرية رقم (2) (أمفورا) نجدها تشتمل على أجسام باللون الأحمر رسمت في عناية ودقة ملحوظة تمثل مناظر رياضية رائعة، بدت فيها أجسام اللاعبين رشيقة التكوين.
ولا نستطيع أن نتناول بالوصف كل واحدة منها على حدة، وإنما الذي نستطيعه هو أن نوجه نظر القارئ إلى ناحية هامة وهي أن الأشكال 2، 4، 5، 7، 8، 9 رسمت كلها على أرضية سوداء أي بتحديدها ثم طلاء الارضية بهذا اللون وترك الأشكال دون تلوين؛ فتبدو حمراء بلون الأرضية.
ورقم (4) تبين إبريقاً، و (5) هيدريا و (7) ليكيتوس و (8) كراتر و (9) وكلها تبين مرحلة عظيمة من مراحل تصوير المشكاوات الإغريقية.
بقي بيان عن كلمة ميآندر تعبيراً عن وحدة زخرفية تمثل خطوط متكسرة في زوايا قوائم يدخل بعضها في البعض الآخر [الزهرية رقم (6) أسفل أرجل الحصان مباشرة] سموها كذلك تشبيهاً لها بنهر بهذا الأسم كثيرا التعاريج يصب في بحر أيجة قبالة جزيرة ساموس. أما الزخارف الأخرى فقد اقتبست وحداتها من نباتات ونخيل يسهل فهمهما دون مشقة.
(له بقية)
أحمد موسى
ملحوظة: لأسباب فنية تعذر نشر الزهريات المقول عنها،
فنشرنا هذه بدلا منها، فهي وإن اختلفت في الموضوع، فهي لا
تختلف في الجوهر.