انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 796/الأدب والفن في اسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 796/الأدب والفن في اسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 10 - 1948



للأستاذ عباس خضر

صانع البؤس:

نشر أن لجنة ألفت لإحياء ذكرى عبد الحميد الديب، فقررت جمع ما قيل في حفلة تأبينه وطبعه في كتاب، وطبع ديوانه، وإقامة حفلة للاحتفاء بذكراه. ونشرت بعض الصحف أخيراً كلمات حث فيها اصحابها على الأهتمام بهذه الذكرى. وفي كل ذلك، وفي كل مناسبة يذكر فيها عبد الحميد الديب، يصفه القائلون والكاتبون بالشاعر البائس، وينحون باللائمة على مصر لإهمالها إياه، وذهب بعضهم إلى أنه أهمل حياً وميتاً، وهم لذلك يمون هذه الأمة بالقسوة والجحود لعدم عرفانها أقدار النابغين من أبنائها!.

قيل كل ذلك، وقيل مثله في حفلة التأبين الماضية، وسيدور حوله المحتفون بالذكرى في الحفلة المزمعة. . . فهل كان عبد الحميد الديب بائساً حقاً؟ أو بتعبير آخر: هل ظلمه المجتمع وحرمه نعمة العيش الرخي؟

إنما يأتي البؤس والحرمان من التعفف مع عدم القدرة على الارتزاق، وقد كان الديب على عكس من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. . . . إذ كان من العفاة السائلين، وكان ذا حيلة في هذا المضمار تدر عليه الكثير من العطاء، وكان يعاونه على ذلك اصدقاء، منهم من هو معجب بشعره، ومنهم من يتفكه بتصرفاته ومفارقته، وكان بعض هؤلاء لا يبخلون عليه بما يملكون.

وكثيراً ما هيئت له اسباب العمل، فقد وظف عدة مرات في التدريس بمجالس المديريات، وطالما دعى إلى التحرير بالصحف والمجلات؛ فكان يبدأ العمل وينقطع عنه بعد قليل، وفي بعض الأحيان كان يحتال لأخذ المرتب مقدماً، ثم يذهب ولا يعود!

وكان له زملاء في أول العهد قاسموه التسكع في الحي الحسيني، وكانوا يسمونه (الحي اللاتيني)، ولكنهم أخذوا بأسباب العمل، ومنهم الآن صحفيون ناجحون ذوو دخل كبير. ومما يروي من نوادرهم معه في عهد البؤس أن أحدهم - وهو الآن صحفي معروف يكسب حوالي مائة جنيه في الشهر - نازع الديب عدداً قديماً من جريدة الأهرام، إذ أراد كل منهما أن يهيئ به فراشاً على (الرصيف) في حرم المسجد الحسيني، فاقتسماه، ولك القسمة لم تحسم الخلاف، فقد تمسك كل منهما بأن يأخذ الجزء الذي فيه (افتتاحية) العدد. . . . وكانت موقعة أسمها (معركة الافتتاحية)، ويظهر أن الذي ظفر بهذا القسم غريم الديب، فقد كان له فالا حسناً، إذ صار بعد ذلك يكتب الأفتتاحيات!

وكان الديب يقضي حياته الخاصة في الظلام، يعاشر فيها أنواعاً منحرفة من أخس الآدميين، وكان ينفق على هؤلاء ومعهم ما يجمعه من هنا وهناك. فهو يبدأ الجولة بقصد إحدى القهوات الكبيرة، حيث يلقى بعض الأدباء والمياسير ممن يعطفون عليه، فيسمعهم من شعره، وقد يطرفهم بنوادر من شئونه الخاصة معرضاً القدم من الحذاء، وقد ينشد مدحته لأحد الجالسين؛ ثم يخرج عامر الجيب إلى حيث يفرغه في تلك البيئات المنحطة. . . ثم تنتهي الدورة بفترة البؤس الذي صنعه بتلك المقدمات!.

ولم يكن وفياً للمغدقين عليه، بل كان ينثني عليهم بالهجاء، بعد أن قدم المح على العطاء. . . . ومن غريب أمره أنه كان يهجو على قدر العطية. . وكان يعرف ذلك منه المرحوم أنطون الجميل باشا فكان لا يعطيه في المرة إلا (شلناً) ويقول: لا أريد أن أستكثر من الشتم! ولعل هذا هو الذي أوحى إليه نوعاً طفيفاً من المدح: بضعة أبيات لا يغالي بها في مدح الممدوح، وكان يسمى هذه المدائح (الشلنيات) نسبة إلى ما يرجوه من ورائها. وكان يطلق لسانه - حديثاً وشعراً - على كل من يحسن إليه، قيل له: أهج فلاناً. فقال: ولماذا أهجوه وهو لم يحسن إلي ولم يعطني شيئاً؟ ورآه اصحابه مرة مقبلا عليهم في تيه وكبرياء، فقالوا إنه لا بد أن يكون في جيبه - على الأقل - عشرة قروش. . . فلما سألوه في ذلك، قال: أني لي. . . وهل يترك معي كامل الشناوي شيئاً يا أستاذ!؟ والأستاذ كامل الشناوي معروف بعطفه عليه وأهتمامه بأمره. . . وشاهد بعض أصحابه في ثياب رثة، فقال أحدهم، وهو الأستاذ محمد مصطفى حمام: يعز علينا أن يكون الديب عاري الخلف، لا من (بنطلون) بل من (جلباب)، وتطل أصابع قدميه لا من (جزمة) بل من (بلغة)، فهلموا نواري سوأته. . . وأحضروا له ثياباً نظيفة وحذاء جيداً، فأخذها وذهب، وبعد برهة عاد إليهم مزهواً فيها، ونظر إليهم شزراً. . . ثم قال: ألا ترونني وجيهاً يا كلاب! ولم يكن يليق بهذا السؤال في هذه الحال إلا جواب واحد: بلى يا ذئب!

ولم يشذ الديب عن الجزاء الوفاق بهجاء من يحسن إليه، إلا مع معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا. قال لي الأستاذ محمد مصطفى حمام: مدح الديب دسوقي باشا بقصيدة جيدة منها:

ولو هيأ نمو للديب رزقاً ... لكان بحمدكم صلى وصاما

ومالي لا أرود حمى رحيباً ... تكنف حافظاً ورعى حماما

وصحبته إلى معاليه، فأنشده إياها، فأعطاه خمسة جنيهات (من جنيهات ما قبل الحرب)، وحقيبة كبيرة ملأى بالملابس، وأحاله إلى (الترزي) ليصنعها على قده. . . فكاد يجن من الفرح وراح يقارن بين حاتم الطائي وبين دسوقي باشا مقارنة أنتهى فيها إلى أن الأول أسطورة كاذبة والثاني حقيقة ماثلة. ووالى إنشاء المدائح فيه. ولكن (الذئبية) أدركته مرة، فقال أبياتاً أولها:

أبلغ أباظة عني أنهم ورثوا ... مالا ولم يرثوا ديناً ولا خلقا

وبلغت الأبيات دسوقي باشا، فأبتسم ثم استدعاه، ونفحه نفحة أخرى، وقال: إن يكن قد هجانا، فإني أكافئه على الشعر الجيد. فأستمر يمدحه بعد ذلك حتى كان آخر ما قاله من الشعر في مدحه، ولم يجازه الجزاء (الوفاق)!.

هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد الديب كما يعرفها خلطاؤه لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها؛ فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان هو يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال بتلك الوسائل ويبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وفي أقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى بصنعه. . . وكانت تعوزه الكرامة والأباء والعفة ليكون بائساً حقيقياً. وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أية شتيمة، ولم ينج من هجوه أحد ممن عرف سواء أعطاه أم منعه. وقد صب جام هجائه على جميع الأدباء بقوله:

يا رجال الشعر والقول الرصين ... لعن الله أباكم أجمعين

أما الناعون على هذا الوطن جحدوه وإهماله النابغين من أبنائه فليلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف.

وأما الذين يحبون أن يصوروا الأديب أو الفنان إنساناً منحى منفكا متحللا تائهاً شارداً. . . فليعفو الأدب والفن مما يحبون.

أسبوع شوقي:

اقتربت ذكرى المغفور له أحمد شوقي بك أمير الشعراء، فقد توفى في الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة 1932. وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي ثارت عجاجه حول برنامج حفلة وضع إحياء ذكرى شاعر مصر الكبير، لأن البرنامج كان فيه أنحراف عما يليق بهذه الذكرى الكريمة، وكان لنا بلاء في مقاومة هذا الانحراف، انتهى إلى نتيجة مرضية مؤسفة معاً، إذ كان القائمون بالمشروع ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فعدلوا عما كان موضع المؤاخذة، فكان ذلك عملا مرضياً؛ أما المؤسف فهو أن الحفلة أجلت أشهراً ثم أقيمت متأخرة هزيلة.

ويظهر أن ذكرى شوقي كانت في العام الماضي - على ما كان فيه - أحسن حظاً منها في هذا العام. . . . فقد كان في الأول كلام (والسلام)، أما اليوم فلا نسمع لهذه الذكرى أي حديث مع السف الشديد!

أقول هذا وبنفسي فكرة أوحت إليّ بها كيفية الاحتفال بذكرى سيد درويش، فقد رأينا أن الرجل أحتفى بذكرى نفسه إذ كان أكثر البرنامج من موسيقاه وأغانيه وأناشيده. فأقترح أن يخصص اسبوع لذكرى شوقي (ولا أقل من اسبوع) تشغل لياليه، أو أكثرها، بتمثيل مسرحياته وغناء شعره، ويسمى هذا الاسبوع (أسبوع شوقي)، ويمكن تنفيذه في هذا العام وإن كان الوقت ضيقاً، فمسرحياته لدى الفرقة المصرية للتمثيل، والممثلون مدربون عليها وحافظون أدوارهم فيها. وهذا ديوان شوقي، وهذا عبد الوهاب، وهذه أم كلثوم، فإن لم يستطيعا تلحين جديد، فلديهما ما أخذاه من الديوان من قبل.

ولكن من يقوم بالتنفيذ؟ تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية فهي المشرفة على الفنون والمسارح، وأذكر لها أعضاء اللجنة التي ألفت في العام الماضي لهذه الذكرى، ومنهم الدكتور إبراهيم ناجي الذي ثبت في الميدان بعد أن تخلوا عنه وأصر على الاحتفاء بالذكرى، على قدر ما أستطاع. . . .

وممن تنفق الوزارة على هذا الاسبوع؟ أظن ذلك لا يعجزها. ولو كان الأمر بيدي لأخذت المبلغ الكبير المخصص لاستيراد الفرق الأجنبية وأنفقته على هذا الاسبوع ويسرت على الناس مشاهدة حفلاته، ليزيطوا ويذكروا شوقي. . . .

الشعر المعاصر:

صدر أخيراً كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي، وقد بين فيه مذاهب النقد الأدبي ومقاييسه والمذاهب الأدبية وعناصر الشعر وما ينتمي إلى ذلك من أبحاث النقد الحديث؛ وعرض عليها الشعر العربي المعاصر، مستقصياً ببيئاته وألوانه، مبيناً طرائقه وسماته.

ولا يسع متتبع الحركة الأدبية إلا أن يلتفت إلى هذا الكتاب ويهتم به، لأنه كتاب جديد في المكتبة العربية، فهو أول مؤلف عربي - على ما أعرف - في موضوعه بشقية: الكلام في النقد الحديث، وتطبيقه على الشعر المعاصر. ومما يدعو ايضاً إلى الألتفات إليه والأهتمام به، ظهوره في هذا الوقت الذي كاد ينعدم فيه النقد الأدبي، فلم نعد نرى إلا هذه العجالات التي تكتب عن الكتب هنا وهناك، بدافع المجاملات الشخصية، والتي يكتفي كاتبوها - في أكثرها - بإلقاء نظرة عاجلة على الفهرس والمقدمة إن كانت قصيرة. . . وما أسوأ حظ النقد في أدبنا الحديث، فقد أنقلب إلى هذه الحال من الضد، إذ كان فيما مضى شتائم وتجريحات، فصار الآن مجاملات ومبادلة تحيات. . .

وأعود إلى كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) فأقول: إنه يبدو فيه ما بذله مؤلفه من جهد شاق مثمر، ومن مميزاته الاتزان واستقامة النهج، ولا أخال المؤلف قصد إلى التطفيف والارجاح في ميزانه، بما لاحظته في الكتاب منها ولا أرجع ذلك إلا إلى ما أرتاه وأكتفي بهذه الإشارة، لأن المقام لا يسمح بالتفصيل والتمثيل. وحسب الأستاذ السحرتي أنه وضع بكتابه هذا لبنة في بناء الأدب العربي الحديث.

التأليف المسرحي:

أتجهت الرغبة منذ أوائل هذا العام إلى النهوض بالمسرح، ولما كانت الفرقة المصرية هي الوحيدة التي تواصل العمل المسرحي الراقي في مصر، فقد كانت هي محور الأهتمام، فضم إليها بعض الممثلين والممثلات وعلى رأسهم الأستاذ يوسف وهبي بك الذي أسندت إليه إدارتها، مع بقاء الأستاذ زكي طليمات مديراً فنياً لها.

وكان أول شئ أستدعى الأهتمام في الأستعداد للموسم القادم هو أزمة التأليف المسرحي التي كانت تضطر الفرقة إلى تكرار المسرحيات الآتية: -

1 - قررت اللجنة العليا لترقية التمثيل إجراء مسابقة عامة للتأليف المسرحي يدخلها المسابقون من مصر وسائر الأقطار العربية، وجعل لها ثلاث جوائز: للمسرحية الأولى 250 جنيهاً، وللثانية مائتان، وللثالثة مائة وخمسون.

2 - وقلت للأستاذ زكي طليمات: لوحظ أن المعتدين بأنفسهم لا يدخلون المسابقات، وأن الإنتاج الذي يقدم فيها ضعيف، فهل تتوقع مع هذا أن تنتج المسابقة نتاجاً يكفي الفرقة؟ فقال: هذا صحيح، ولذلك جعلنا مبلغاً مساوياً لمجموع الجوائز - وهو ستمائة جنيه - لتكليف كبار الكتاب المعروفين بالقدرة على التأليف للمسرح، ومنهم الأستاذ توفيق الحكيم، وهو الآن يعمل في مسرحية بناء على طلب الفرقة، ويوسف بك وهبي يؤلف الآن مسرحية، والأستاذ محمود تيمور بك ألف مسرحية أسمها (الملك الحائر)، وهي تتناول شخصية امرئ القيس، وقد نحا فيها نحو روايته الماضية (حواء الخالدة).

3 - هناك مسرحيات كانت قد قبلتها قديماً لجنة القراءة ودفع ثمنها، وأخرى فازت بجوائز في مسابقة كانت أجرتها وزارة الشئون الاجتماعية، ولم يمثل من هذه ولا تلك شئ، فأختار بعضها يوسف وهبي بك لمواجهة أول الموسم ريثما يفرغ المؤلفون من تأليفهم، ومن هذه الروايات (سر الحاكم بأمر الله) للأستاذ أحمد علي بأكثير، وسيبدأ بها الموسم في منتصف أكتوبر وتجري الآن تجاربها في مسرح حديقة الأزبكية.

عباس خضر.