مجلة الرسالة/العدد 795/من ذكرياتي في بلاد النوبة:
مجلة الرسالة/العدد 795/من ذكرياتي في بلاد النوبة:
13 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
النهضة التعليمية في النوبة
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
لعلك تعجب إذا علمت أن منطقة النوبة الآن من المناطق المصرية، التي ارتفعت فيها نسبة المتعلمين إلى درجة عظيمة، لم تصل إليها كثير من بلدان الوجه البحري، وأن الجيل الحديث من النوبيين كله متعلم مائة في المائة تقريباً.!!
ومن النادر أن تجد صبياً لا يذهب إلى المدرسة، يتلقى العالم في شغف وتواضع وطاعة محببة إلى النفوس. وبخاصة نفوس الآباء والمدرسين. . . وإذا كنا نرى كثيراً من الصبية يهربون من المدارس في مدننا وريفنا، وأن كثيراً من الآباء وأولياء الأمور يعلمون الحيلة للتخلص من إرسال أولادهم إلى المدارس في الريف، ليساعدهم في الحقل، ويعاونهم في الحرث والري والحصاد. . وقدينا لهم من جراء ذلك كثير من الغرامات المادية فلا يبالون بها، ولا تردعهم عن مخالفهم وتهربهم من العلم، وفرارهم من التعليم، وعزوفهم عن المدارس مع ما فيها من خير كثير. . إذ كنا نرى هذا، فلن نجد لهذه الظاهرة أثراً في النوبة على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، نرى التزاحم الشديد، والإقبال العجيب، والتنافس في الالتحاق بالمدارس على اختلاف أنواعها. وشتى ضروبها، مما يثير في النفس عوامل الدهش والارتياح، والفرح والاغتباط، ولعل هذا راجع إلى أن أولياء الأمور في النوبة أدركوا الآن قيمة العلم، وأثر التعليم في تهذيب النفوس، والحصول على المراكز السامية، والمناصب الرفيعة، وأنه الطريق الوحيد لسعادة أبنائهم وذرايتهم، وأنهم لا يحتاجون إلى مجهود أبنائهم الضئيل، كما يحتاج إلى ذلك المجهود أولياء الأمور في الريف المصري في غير منطقة النوبة. . .
والمدارس في النوبة أنواع كثيرة، تدعوا اليها الحاجة، وتتطلبها البيئة القاسية، مما لا تتوفر في كثير من المناطق المصرية، فمنها:
1 - قسم ثانوي في عنيبة لم يكمل بعد، ويأمل النوبيون في وزير العلم، أن ينمو هذا القسم نمواً مطرداً يناسب نهضة البلاد، وإقبال أهلها على التعليم الثانوي خاصة، ولتكن مدرسة فاروق الأول الثانوية، قائمة في عنيبة بجانب أختها مدرسة فؤاد الأول الأبتدائية، وهذه أمنية غالية، يعتز بها كل نوبي، ويبني عليها قصوراً من الآمال، ويتمنى أن تتحقق لتكفيهم مشقة الجهد، والانتقال من بلادهم إلى مختلف البلدان وعواصم الأقاليم المصرية، حيث توجد المدارس الثانوية التي تتطلب ثيراً من النفقات وتبعد هذا الجيل الجديد عن موطنه الأصلي. وهو لا يزال في حاجة ماسة إلى الرقابة الشديدة في هذه السن، سن المراهقة، وتطلق له الحرية في بيئة يسهل فيها الفساد واللهو، ولهذا ينحدر كثير منهم إلى هوة الفساد والضلال، مما يبعد به عن الغاية التي يهدف إليها، وينصرف به عن البحث والدرس والتحصيل. . .
2 - مدارس ابتدائية: واحدة في عينبة تضم خمسمائة تلميذ تقريباً، ويشترك فيها البنون والبنات بلا تفرقة، وأخرى في الدكة، وثالثة في قورته. وقد جاهد الأهلون جهاداً عظيماً في سبيل إنشاء هاتين المدرستين الأخيرتين، وقد أنشأت الوزارة مدرسة الدكة سنة 1974، وسرعان ما قامت قيامة أهل قورته فبذلوا مجهوداً مشكوراً عن دل على شيء. فعلى روح التنافس، وتوج أخيرا بإنشاء مدرسة قورته في العام نفسه على إن يكون ذلك بمثابة تجربة، ولتبقى في النهاية على المدرسة التي تثبت وجودها بكثرة ما فيها من التلاميذ، وذلك لأن المسافة بين قورته والدكة حوالي سبعة أميال فحسب. ومن الغريب إن اقبل الاهلون على كلتيهما، بحيث اصبح كل منهما ثمانون ومائة تلميذ تقريباً، ولهذا ستضطر الوزارة دون ريب للإبقاء على المدرستين كلتيهما. .
ويأمل النبيون أن يتم إنشاء مدرستين أخريين، أولاهما في المركز الأصلي، وهو الدر، احتفاظاً بما كان له من مكانة، وأحياء للمدرسة التي كانت به، وهي أول مدرسة في النوبة بأسرها. . . والأخرى في بلانة، لما لهذه من مكانة زراعية ولما فيها من مشروعات كثيرة، أدت إلى ازدحامها بالسكان، مما يعطيهم هذا الحق، ويجعل إنشاء مدرسة ابتدائية في بلدتهم من أوجب الواجبات، وبخاصة وأنها ليست أقل شأناً من الدكة أو قورته، بل أعظم منهما شأناً، وأرفع قدراً. . .!
ولقد بذل الأهلون في سبيل ذلك جهوداً موفقة طوال هذا العام، وإذا تم لهم أصبح في منطقة النوبة مدرستان ابتدائيتان في القسم الشمالي، هما قورتة والدكة. ومدرستان ابتدائيتان في القسم الجنوبي هما الدر وبلانة، ومدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية في عنيبة، وبهذا تضمن النوبة تعليم أبنائها في المحيط الذي تحبه وتؤثره وترتضيه، إلى سن تؤهلهم بعد هذا للتعليم الجامعي والعالي، ولا تخشى عليهم انحرافاً عن الغاية، ولا بعداً عن المقصد. . .
3 - مدارس أولية: يشترك فيها البنون والبنات، والتعليم فيها الابتدائي، نظام كامل طول اليوم، أي قبل الظهر وبعده بيد أنه ليس في مواده لغة أجنبية. وهذه المدارس بعضها تابع لوزارة المعارف، وهما مدرستا، عنيبة، وبلانة الجديدة. والبعض الآخر وعدده تسع وعشرون مدرسة، تابع لمجلس مديرية أسوان، وهي مدارس: (قسطل، بلانة، توشكي شرق والجنينة، عنيبة بحري، إبريم، عافية، توماس قبلي، الدر، الديوان، كرسكو، شاترمه، وادي العرب بحري، السيالة، قورته، العلاقي، الدكة، تشتمنة غرب، وتشتمنة شرق، جرف حسين، مارية، مرواو شرق، مرواو غرب، أبو هور، كلابشه، الأمباركاب، دهميت شرق، دهميت غرب، دابود).
4 - مدارس إلزامية: يتعلم فيها بعض التلاميذ نصف اليوم وبعضهم في النصف الأخر، وكل هذه المدارس تابعة لمجلس مديرية أسوان، وليس فيها واحدة تابعة للوزارة، وهي أثنتا عشرة مدرسة في البلاد الآتية: أدندان، أبو سمبل، أرمنا، توشكي غرب، مصمص، توماس بحري، أبو حنضل، المالكي، وادي العرب قبلي، المضيق، المحرقة، قرشة.
5 - ملحقتان، أحدهما في كوسكو، والآخر في مراواو غرب. . .
6 - أقسام تحفيظ للقرآن الكريم: وهي تابعة لمجلس مديرية أسوان كذلك، وهي ثلاثة أقسام، أولها تابع لمدرسة أدندان، والثاني تابع لمدرسة المالكي، والثالث تابع لمدرسة توشكي غرب.
وما أحوج بلاد النوبة إلى افكثار من هذه الأقسام، لإقبالهم عليها إقبالا كبيراً، فهم يقدسون كتاب الله تقديساً، ويرتلونه ترتيلاً يبعث الخشية في القلوب، والرهبة في الصدور، ويملك على الإنسان مشاعره وحواسه، ولهم في تلاوته روحانية تسمو بالسامع إلى مراتب نورانية نمن الإيمان والخشوع والطاعة والخضوع.
7 - مكاتب إعانة: تعينها الوزارة، فتعطى المدارس عن التلميذ الواحد عشرين قرشاً، أو ثلاثين، أو أربعين، وهي سبعة مكاتب: القصيري بأبي سنبل، نجع تميدي بأبي سنبل، نجع الجلاب، نجع الخفير، الزيداب، البقعة، وادي السيالة. وهذه المكاتب تؤتي أكلها في كثير من البلدان، وذلك لأن المدرسين يبذلون جهداً مشكوراً في جلب التلاميذ من كل حدب وصوب، لما ينالهم من نفع عاجل، وخير قريب، فهذا النوع بالنسبة لمدرسي المدارس الابتدائية والثانوية، فهو إذن نوع من التعاون بين المدرسين وتلاميذهم. . .!!
8 - مكافحة الأمية، وهي نوعان (أ) أقسام مسائية مقرها المدارس، وتقبل التلاميذ ابتداء من سن الثانية عشرة فما فوقها ويتقاضى المدرس جنيهين في الشهر، ويتقاضى الرئيس جنيهين ونصف جنيه في الشهر، والإقبال عليها منقطع النظير، فإذا جن الليل تقاطر الرجال والشبان والشيوخ إلى هذه الأقسام فرحين مغتبطين يتلقون العلم، ويتعلمون مبادئ القراءة والكتابة، وفي النهار تجدهم منكبين على كتبهم وكراساتهم، يعيدون ما درسوا، ويتفهمون ما أخذوا، وقليل من إخلاص المدرسين ونشاطهم، يجعل أهل هذه المنطقة في درجة عظيمة من العلم والمعرفة. . .
وهذه الأقسام في البلاد الآتية: أدندان؛ بلانة القبلية، بلانة الجديدة، أبو سنبل، أرمنا، توشكي غرب، عنيبة الأولية إبريم عافية، توماس قبلي، توماس بحري، الديوان، شاترمه، وادي العرب قبلي، قورته، العلاقي، جرف حسين.
(ب) مكاتب إعانة لمكافحة الأمية، وليس مقرها المدارس بل أي مكان في المسجد أو البيت أو الشارع، ومدرسوها من الفقهاء، ولهم مكافأة سنوية عن التلميذ بعد نجاحه قدرها خمسة وسبعون قرشاً، يصرف لهم خمسة وعشرون قرشاً اولاً، وخمسون قرشاً بعد النجاح. .!!
وهي بالأماكن الآتية: جده بالديوان بلانة. كساب بأبي سنبل، فرقنيت أورجه بأرمنا. أبو راسيا بأرمنا، مرواو بتوشكي غرب، زيدات بتوشكي غرب. وادي السبيل بأبي حنضل. الريجة بكرسكو، النوبات بالسيالة، الشيمة بقورتة. دبنود بدابود.
ومفتش المعارف يلاقي كثيراً من الصعوبات في سبيل القيام بعمله في هذه الجهات كلها، وذلك لتناثر هذه النجوع وتفرقها وبعد المسافة بينها، وكثرة المرتفعات والمنخفضات، فلا بد والحالة هذه من الاستعانة بالباخرة البطيئة، والمراكب الشراعية والمطايا، ولا شيء غير هذا.
وقد يكون هذا الكلام غريباً على بعض الناس، من الذين لا يعلمون شيئاً عن طبيعة هذه المنطقة، أما الذين يعرفون هذه المنطقة، وخدموا فيها فإنهم يدركون تمام الإدراك ما يعانيه المفتشون هناك من جهد وما يقاسونه من نصب وتعب شديدين. .
وإذا أرادت وزارة المعارف خدمة العلم ومصلحة القائمين به وحرصت على نشر المعارف مخلصة في ذلك، فعليها أن تخصص لمفتش المعارف باخرة صغيرة (رفاص) اسوة بما تعمله غيرها من الوزارات، كوزارة الصحة، والأشغال، أما إذا ظل الحال على ما هو عليه، فلن تؤني هذه المدارس أكلها كما يجب، ولن تعظم استفادة الأهلين منها، فعلة ولاة الأمور أن يعطوا هذا الرجاء حقه من العناية والاهتمام. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود.