مجلة الرسالة/العدد 792/طرائف من العصر المملوكي:
مجلة الرسالة/العدد 792/طرائف من العصر المملوكي:
من وحي حماة
للأستاذ محمود رزق سليم
لا أدري لماذا يهزني شوق إلى حماة، ويهفو قلبي إليها كلما ذكرت، ويردد لساني اسمها في كثير من التقدير، وأقف عند ترديده وقفة المتأمل المستهلم، مستعرضاً على ذاكرتي لمحات من لمحات تاريخها الفياض، فتشرق منه سماء الذهن ومضات من أمجادها الماضية، يستشعر منها القلب ضروباً من الجلال والقدسية، ويتجدد بها للنفس ألوان من الدهش والإعجاب، بهذه المدينة الشامية المصرية المجيدة الساحرة.
حرت حقاً في تعليل هذا الشعور الذي ينتابني كلما ذكرت حماة، ولم تربطني بها وشيجة ولا وليجة، ولم تصل حبالي بحبالها ليال ولا أيام، ولا اكتحلت العين بمرآها ولو مرة واحدة، ولم يجش في النفس أمل بلقياها والنعيم عهداً بالمقام فيها.
قلت للنفس: لعل هذا الشعور أثر من تلك الآثار التي أفدتها من مصاحبة تقي الدين بن حجة الحموي، وليد هذه المدينة، وأحد أدبائها النجباء، فلقد صاحبته في بعض مؤلفاته، ودراسة آرائه وأفكاره، وقرأت في إمعان كثيراً من فصوله، ووعيت في إعجاب عديداً من مذاهبه، وكان رفيقاً في صحبته، حبيباً في حديثه. حتى كان في مقدمة الأسباب التي حببت إلى دراسة عصره، ومهدت لي السبيل إليها، وأنارت لي الطريق لبلوغ مأربي منها.
ولقد راعني منه فيما راع، ولوعه بمدينته تلك، ولوعا تردد صداه في كثير من منشئاته، ولوعا لم يزايل قلبه ولم يفارق فؤاده في يوم من الأيام، على الرغم من انتزاحه عنها واغترابه منها زمناً طويلاً. وتلك لعمري مكرمة منها ومحمدة له، جديرتان بأن تشعرا القلب بالجلال والإعجاب كلما ذكرت حماة.
لقد ولد ابن حجة عام 767هـ بحماة، ثم شب وتعاطى الأدب. وطفق ينشئ وينظم ما شاء له الفن والهوى. وطوف في بعض الآفاق، حتى اتصل حبل وده وخدمته بسلطان مصر الملك المؤتد شيخ، حينما كان أميراً في بلاد الشام. فلما تم له أمر السلطنة في مصر عام 815هـ جمع من حوله حاشية من أهل وده، ممن دانوا له بالولاء في عهد إمارته، وألقى إليهم بمقاليد الأمور. وكان من بينهم ابن حجة الحموي، فاتخذه كاتباً من كتاب إنشائه.
والكاتب المنشئ حينذاك، كان في الديوان كما يكون الوزير للسلطان.
عاش ابن حجة حينئذ في مصر زمناً. فلم يلهه النعيم بها عن حماة. ولم تسله حاليات أيامه عندها ليالي لهوه ومدارج صباه فطفق يبعث إليها تحية اللهفان، بين الآن والآن. ويحن إليها حنين النيب إلى العطن، والهديل إلى السكن.
ويبدو أنه انتزح عنها في أول أمره انتزاح المضطر الذي دعته الأحداث إلى الاغتراب. فظل حب حماة يساوره أني سار، فلا يفتأ يتغنى بمحاسنها، ويتشوق إلى مغانيها، ويتغزل في مفاتنها ويحن إلى مجانيها.
كتب - وهو بالقاهرة عام 820هـ - إلى صديقه ابن البارزي بحماة، قصيدة تفيض بالشكاية والأنين، والشوق والحنين. استغرق ذكر حماة وأهلها أكثر أبياتها. وفي صدرها يقول مخاطباً ريح الصبا الذي يمر بها.
يا طيب الأخبار يا ريح الصبا ... يا من إليه كل صب قد صبا
يا صادق الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا
يا من نراه عبارة عن حاجر ... يا روح نجد مرحباً بك مرحباً
يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربا
بالله إن رنحت ذيلك بالحمى ... ووردت شعباً من دموعي معشباً
وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيباً
ولثمت من ثغر الأقاحي مبسما ... أبدى بدر الطل ثغراً أشنباً
ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنباً
وطرقت حي العامرية ظامئاً ... فنعمت في الوادي برياً زينباً
وحملت من نشر الخزامى نفحة ... مشمولة بالطيب من ذاك الخبا
عج بالعذيب فإن محجر عينه ... أضحة لما حملته مترقباً
واصحب عبير المسك منه فإنه ... لشوارد الغزلان أضحى مشرباً
وإذا تنسمت الشذى وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا
عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيداً طيباً
واحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا وأسرع إلى وداو في مصر به ... قلباً على نار البعاد مقلباً
لله ذاك السفح والوادي الذي ... ما زال روض الأنس فيه مخصباً
أنعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسباً
أرض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشاً طيباً
على هذا الضرب من الغزل الواله والشوق الباكي، يتارع ابن حجة أبياته تلك، وله أبيات أخرى كثيرة على غرارها.
ويبدو أن حماة كانت قمينة بهوى حبيبها وغرام نجيبها. فهي - فضلا عن أنها محل ميلاده ومجتمع أو طار فؤاده - قد شهد لها التاريخ بعراقة في المجد وأصالة في السؤدد وبسطت لها الأيام من البلهنية بساطاً، ونشرت لها من النعيم بندا. إذ كانت عاصمة إمارة صغيرة، اعتلى عرشها أمراء من الأيوبيين، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، وهم الملك المظفر تقي الدين عمر، ثم سلالته من بعده. وتحولت في العصر المملوكي إلى نيابة من نيابات المملكة المصرية، توالى على امرأتها أمراء من قبل سلطان مصر، فكان منهم أبو الفداء إسماعيل المعروف بالملك المؤيد، وهو من سلالة المظفر. أنابه الناصر بن قلاوون سلطان مصر، عنه في حكم حماة، وكرمه بأن خلع عليه ألقاب الملك، دون سائر نواب السلطنة.
وتقع هذه المدينة في شمال سوريا، بين حمص والمعرة. ويجري في وسطها نهر العاصي. وكان بها كثير من النواعير، تستنبط بها المياه من الآبار. وكثير من الطواحين المائية، وكانت تجعلها البساتين المتعددة. ونبت من ناشئتها عديد من الأدباء والفضلاء. وفي العصر الحديث تطامن بنيانها وتناقص عمرانها.
أما في عصر ملكها المؤيد أبي الفداء إسماعيل، فقد كانت مدينة زاهرة، وعاصمة ناضرة. تضرب من حولها الوديان وتمتد القيعان، وتكثف الغابات حيث يتخذ الوحش له مراحاً، والطير الجارح مسرحاً. ويحلو في جنباتها الصيد والقنص، ويصفو بين دوحاتها اللهو والسمر. وقد استطاع المؤيد أن يجعل منها جنة نعيم، ومنتدى علم، ومجتنى أدب. فقد كان عالماً وأديباً وجواداً سخياً. ولهذا طاف به العلماء والأدباء يطرقون بابه ويرجون جنابه ويستمطرون سحابه. فأعاد ببذله وفضله عهد الامتياح والسماح، وزمن الاجتداء والعطاء، وأجرى في أعواد الشعراء، ذوباً من البشر والرجاء، وصوباً من الينع والنماء.
وممن هوى إليه في حماة، شاعر مصر الكبير جمال الدين بن نباتة، بعد أن نبا به المقام في مصر، ولم يجد بها إلا عيشاً يابساً، ويوماً عابساً. فرحب به المؤيد، وأوسع له في بطانته مكاناً، ومن عطفه بستاناً، ومن صحبته إحساناً. فعاش في كنفه مكرماً أثيراً. يروح ويغدو في حماة، بين سفوحها ورباها، وينعم بطبيب رياها. ويصحب المؤيد أحياناً في رحلاته بين الغابات والوديان، والأدواح والقيعان. وعاش ابن نباتة حتى شهد موت المؤيد، فصحب ابنه الأفضل وأخلص له الود ووفى باعهد.
وإذا تصفحت ديوان ابن نباتة، بدا لك أثر حماة في شعره واضحاً. فإقامته بها وطوافه برحابها، واتصاله بملوكها، كانت موحيات إليه، وملهمات في كثير من قصائده. فله نحو عشرين قصيدة في مدح المؤيد، ومثلها في مدح الأفضل. وهي قصائد مشرقة حية، جمع فيها من أفانين الشعر أعاجيب. فمن غرر المديح إلى المليح ومن الوصف الدقيق إلى الخيال الرقيق، ومن الشوقيات الذاكرة إلى الخمريات الساكرة.
وترى في حمويات ابن نباتة هذه، بشاشة سافرة، ورواء ضاحكاً مستبشراً. اتضحت عليها طبيعة حماة، فبدت حسناء والشعر مرآتها، وغيداء وأبياتها. لا أقول إنها علمت بن نباتة الوصف فقد كان وصافاً. ولا دعته إلى العطف فقد كان عطافاً. وإنما فره بجمالها وصفه، وزاد بين يديها عطفه.
فمن غزله في صدر قصيدة مدح، بها الأفضل قوله:
صدودك يا لمياء عني ولا البعد ... إذا لم يكن من واحد منهما بعد
بروحي من لمياء عطف إذا زها ... على الغصن ما أنا والقد
وعنق قد استحسنت دمعي لأجلها ... وفي العنق الحسناء يستحسن العقد
من العرب إلا أن بين جفونها ... أحد شبا مما تجرده الهند
على مثلها يعصي العذول وإنما ... يطاع على أمثالها الشوق والوجد
عزيز علي العذال عني صرفها ... وللقلب في دينار وجنتها وقد
أعذالنا مهلا فقد بان حمقكم ... وقد زاد حتى ما لحمقكمو حد
وقلتم قبيح عندنا العشق بالفتى ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند سمحت بروحي للحسان فما لكم ... ومالي وما هذا التعسف والجهد
ومن خمرياته في مطلع مؤيدية قوله:
عوض بكأسك ما أتلفت من نشب ... فالكأس من فضة والراح من ذهب
واخطب إلى الشرب أم الدهر إن نسيت ... أخت المسرة واللهو ابنة العنب
غراء حالية الأعطاف تخطر في ... ثوب من النور أو عقد من الحبب
عذراء تنجز ميعاد السرور فما ... تومي إليك بكف غير مختضب
مصونة تجعل الأستار ظاهرة ... وجنة تتلقى العين باللهب
لو لم يكن من لقاها غير راحتنا ... من حرفة المتعبين العقل والأدب
فهات واشرب إلى أن لا يبين لنا ... أنحن في صعد نستن أم صبب
وإذا كان أثر حماة في شعر ابن نباتة واضحاً، فهو في إحدى قصائده أشد وضوحاً وأبين أثراً. وأعني بها قصيدة (مصائد الشوارد). وهي أرجوزة مزدوجة في نحو مائة وسبعين بيتاً، خرج ابن نباتة مع الملك الأفضل صاحب حماة في رياضة للصيد والقنص في وديانها. فألهمته رحلته تلك قصيدته المذكورة. بدأ فيها بوصف الرياض ووشيها، وما فيها من نور باسم وزهر ضاحك وعشب يانع، ونواعير حادية ومياه جارية. ثم وصف البروز إلى الصيد، والتضييق على الوحش في مساربه. والغلمة وما بأيديهم من البندق والأقواس اللدنة. ومواقع الأطيار ومراتعها. والأفق وقت المغيب، وسهود الليل، ويقظة الفتية تلمسا للفريسة. بينما يحلك الليل ويرزم الغيم. وهو بين هذا وذاك يصف جياد الصيد وكلابه وبزانه وصقوره وما إلى ذلك.
والقصيدة فريدة في بابها، بارعة في تصويرها، وقد نعود إلى عرضها في مقال جديد. ونذكر هنا منها أبياتاً على سبيل المثال، قال في المطلع يصف الرياض والنواعير:
أثنى شذا الروض على فضل السحب ... واشتملت بالوشى أرداف الكتب
ما بين نور مسفر اللثام ... وزهر يضحك في الأكمام
إن كانت الأرض لها ذخائر ... فهي لعمري هذه الأزاهر
قد بسطتها راحة الغمائم ... بسط الدنانير على الدراهم
أحسن بوجه الزمن الوسيم ... تعرف فيه نضرة النعيم وحبذا وادي حماة الرحب ... حيث زها العيش به والعشب
أرض السناء والهناء والمرح ... والأمن واليمن ورايات الفرح
ذات النواعير سقاة الترب ... وأمهات عصفه والأب
تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف
فكلها من الحنين قلب ... لا سيما والماء فيها صب
ويستطيع طلاب الموازنات، ومحبو المقارنات، أن يجدوا مجالاً واسعاً للموامنة بين قصيدة ابن نباتة هذه، وقصيدة أخرى لمعاصره صفي الدين الحلي. فقد كان صفي الدين أحد الأدباء الذين هووا إلى حماة، في عهد ملكها المؤيد. فنال من جداه، ونعم بهداياه، ومدحه بقصائد غر ممتعة. وقد شهد صفي الدين وفاة المؤيد عام 732هـ، ورثاه. ثم هنأ ابنه الأفضل بملكه الجديد، ثم مدحه بقصائد أخرى نفيسة. من بينها موشحة نظمها عام 740هـ وصف فيها رماية البندق والصيد والقنص في مرج من مروج حماة، وفيها يهنئ الأفضل بعيد الفطر. وفي مطالع هذه الموشحة يقول:
قم بي فقد ساعدنا صرف القدر ... وجاء طيب عيشنا على قدر
فكم علا قدر امرئ وما قدر ... فارضعُ بنا در الهنا إن تلق در
فالشهم من حاز السرور إن قدر
وقد صفا الزمان والأمان ... وأسعد المكان والإمكان
وأنجد الإخوان والأعوان ... وقد وفت بعدها الأزمان
والدهر تاب من خطاه واعتذر
ومنها يصف الأطيار:
أما ترى الأطيار في تشرين ... مقبلة بادية الحنين
قريقها ناب عن الأنين ... إذا رنت نحو المياه الجون
يأمرها الشوق وينهاها الحذر
هذه أبيات من قصيدة صفي الدين التي نود لو نتناولها - أو يتناولها أحد الأدباء - فيوازن بينها وبين (مصائد الشوارد) لابن نباتة. فالشاعران متعاصران. والقصيدتان صيغتا في مدح ملك واحد هو الأفضل صاحب حماة. والمناسبة التي قيلت فيها إحداهما، شبيهة بمناسبة الأخرى. فقد قيلتا في وصف رمي البندق والخروج للصيد في مصاحبة الأفضل. واستلهم كل من الشاعرين أوصافه من واد من وديان حماة - ولعله واحد لا وديان - هذه أمور ومشابه بين القصيدتين تحبب في بينهما وتعين عليها. ولا أدري بالضبط متى قيلت مصائد الشوارد، وفي آية سنة، وفي أية رحلة. فلعلها هي نفس السنة ونفس الرحلة التي كان فيها صفي الدين. نقول ذلك بمناسبة ما نشعر به من تشابه في الموضوع والتصوير والخيال بين القصيدتين. مما يدل على اتحاد منازعهما.
ومهما يكن من شئ فإن القصيدتين وما عداهما من شعر الشاعرين الكبيرين، وشعر زميلهما الذي قفي على آثارهما، وأعني به ابن حجة، وشعر غيرهم من أدباء حماة، قبس من وحيها، وجذوة من إلهامها، ووقدة من سناها. وقد مات صفي الدين عام 750هـ، وابن نباتة عام 768هـ، وابن حجة عام 837هـ، ومات غيرهم من شعراء حماة وأدبائها، وبقي شعرهم وأدبهم خالداً محدثاً بما كان لحماة في نفوسهم من أثر، وما كان لوحيها من بعث، ولإلهامها من رجع، ولسانها من إشراق.
(الإسكندرية)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية