انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 790/الشعر في السودان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 790/الشعر في السودان

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1948



للأستاذ على العماري

يقول الدكتور زكي مبارك في تقدمته لديوان الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير: (فما في بلاد الله مسلمون أصدق من مسلمي السودان، والإسلام قوة روحية سامية لا يمن الله بصفائها على غير المصطفين من عباده الأصفياء. يضاف إلى ذلك أنه عند السودانيين فضيلتين جوهريتين: فضيلة الكرامة، وفضيلة العدل، وتتمثل الأولى في اعتزازهم بأنفسهم اعتزازاً هو الغاية في شرف النفس، أما الفضيلة الثانية فتتمثل في صدق المعاملات؛ فمن النادر جداً أن يحتاج من يعامل تجارهم الكبار إلى الاستعانة بالقضاء). ثم يقول: (المسجد في السودان هو المسجد، ورواده هم المؤمنون، ومسلمو السودان هم البقية الصالحة من رواد مسجد الرسول ، ومن أجل هذا أغناهم الله بالمعاني، وأنزلهم منازل الكرماء).

وأنا أعرف أن الدكتور زكي لم يهبط أرض السودان، ولم يمتع نظره ومسامعه بمظاهر التدين عند مسلمي السودان، وإني محدثه - لو كان يسمع الآن ويقرأ - حديث الخبير، فما راء كمن سمع:

التدين في البلاد السودانية ظاهرة واضحة بارزة تراها في كل ما تقع عليه عيناك، فالأمانة الطبيعية غير المتكلفة، والأمن في الأنفس والأموال، وهذه الصلوت الخمس التي تقام جماعات في أوقاتها، في الأسواق العامة، وأمام حوانيت التجار، وكم ملأني غبطة وإعجاباً منظر المصلين في ساحة المحطة الوسطى بأم درمان، أو أمام حوانيتهم، يؤمهم أحد التجار، وهم بملابسهم البيض النقية خاشعين خاضعين لله، ثم الكرم الذي لا حد له، والإجلال لعلماء الدين. . . كل هذه مظاهر محببة للتدين العميق في نفوس القوم.

ويظهر هذا التدين بصورة واضحة في شغف السودانيين بالمدائح النبوية، فهي أناشيدهم يترنم بها عالمهم وجاهلهم، ويستمعون إليها، ويستمتعون بهان وربما كان المألوف إذا دعيت إلى وليمة أن يكون من تتمة الإكرام أن تسمع (مديحاً). والمداحون منهم المحترفون، وهؤلاء يدعون في المجتمعات العامة وفي المناسبات الدينية، كليلة الإسراء، أو ليلة القدر، وكثير من البيوت - هنا - تحيي ليالي رمضان بالمديح، ومنهم من دفعته رغبة شخصية، وآنس من نفسه جمالاً في الصوت، وقدرة على التنغيم والتلحين، وهؤلاء - يمدحون - غالباً في المجالس الخاصة. والمدائح - في أكثر الأحايين - بالشعر الذي قيل في مدح رسول الله ، والمداحون يعتمدون اعتماداً كبيراً على (المجموعة النبهانية) كما يعتمد أهل الحِلات والبوادي على أشعار عامية هي غاية في جودة المعنى، وحسن الأداء، ولها تأثير قوي، يهز المشاعر، ويحرك العواطف، وأشهر هذه المجموعات (ديوان أبى شِريعة)، ولهذا الديوان ميزة أخرى، ذلك أنه وثيقة هامة لمن يريد أن يدرس اللهجات العامية في السودان، ونصيحتي لكل من يريد أن يعالج هذا البحث أن يدرس هذا الديوان، وأن يدرس (طبقات ود ضيف الله) فإن فيهما غناء أي غناء في هذه الناحية.

ولا يفوتني أن أذكر أن المداحين المحدثين قد أخذوا ينحرفون عن إنشاد المدائح النبوية، ولكنهم لم ينحرفوا كثيراً، فهم يتغنون بالقصائد التي تتصل بالعروبة والإسلام، كأندلسية شوقي، ورثاء حافظ للشيخ محمد عبده، ووقفة على طلل لغنيم، وإن كنت سمعت في أيام العيد مدحاً يتغنى بقصيدة المتنبي (من للجآزر في زي الرعابيب). وقد - والله - أجاد، لكنه سأني جداً حين طلبت إليه أن يسمعنا مدحة نبوية، فقال إنه لا يحفظ من هذا النوع شيئاً.

ذكرت هذا كله لأمهد به للحديث عن غرض من أغراض الشعر في السودان، هو غرض غالب ذائع، ذلك هو المدائح النبوية، وإذا كنت في مقالي السابق قد وصفت الشعراء بالتقليد للشعر القديم، فإني أقرر هنا أنهم أصلاء في هذا الغرض، وإن كل ما قالوه من شعر فيه، فهو استجابة لعواطفهم الدينية، واستجابة لبيئاتهم التي أسلفت الحديث عن مظاهر تدينها، ولم أقرأ لشاعر هنا لم يجعل أكثر شعره في المدائح، وإن منها لشعراء نظموا دواوين كاملة في هذا الغرض كديوان (روض الصفا في مدح المصطفى) للعالم الكبير الشيخ أبي القاسم.

ولم يفت الشعراء أن يتحدثون عن تدينهم، واعتصامهم بالله، وبعدهم عن طرق الغواية والهوى، وحبهم في مديح الرسول، وارتياحهم له، ويقول الشيخ الطيب أحمد هاشم:

إن سار غيري للهوان وللهوى ... فإلى العلا والمكرمات أسير

أو سامر الناس الحسان جهالة ... فسميري القرآن والتفسير

ويقول الشيخ علي الشامي: إن طال ليلي فطول الليل يؤنسني ... إن كان غيري طول الليل يضجره

فإن لي في ظلام الليل مأثرة ... هي الصلاة إلى المولى فتقصره

ويقول الشيخ مجذوب جلال الدين:

إني لمن معشر كانت شمائلهم ... محبة المصطفى في السر والعلن

يلين قلبي لذكراه إذا تليت ... ويقشعر إذا ما رتلت بدني

كما لم يفتهم أن يتحدثوا عن زهدهم في الدنيا، ورضاهم فيها بالقليل، وحثهم الناس على القناعة، والبعد عن سفاسف الأمور وصغائرها؛ وهذا شاعر قديم عاش في السودان منذ قرنين من الزمن هو الشيخ فرح تكتوك، وقول صاحب (شعراء السودان) في ترجمته: (هو ولي صالح، وشيخ من الشيوخ التقاة وشاعر من كبار الشعراء، له من صفاء سيرته وسريرته ما يشهد بصلاحه وتقواه، وهو من قبيلة عرب البطاحين المشهورة في السودان، له في الحكم آيات بينات، وقصائده كلها في الوعظ والإرشاد، قلما ينظم في موضوع آخر إلا ما دعت إليه الضرورة). ومن شعره:

يا واقفاً عند أبواب السلاطين ... ارفق بنفسك من هم وتحزين

إن كنت تطلب عزاً لا فناء له ... فلا تقف عند أبواب السلاطين

واعلم بأن الذي ترجو شفاعته ... من البرية مسكين ابن مسكين

خل الملوك بدنياهم وما جمعوا ... وقم بدينك من فرض ومسنون

واستغن بالله عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

مالي أذل لمخلوق وأسأله ... ولو سألت الذي أعطاه يعطيني

فلقمة من طعام البر تشبعني ... وجرعة من قليل الماء ترويني

وقطعة من قليل الثوب تسترني ... إن مت تكفنني أو عشت تكسوني

وقد تناولت حياة الرسول ، وأكثر القصص التي ذكرت في السير، كما تناولت تمجيده وتمجيد أصحابه رضوان الله عليهم، وتتزاحم علينا الأشعار حين نريد أن نختار منها فلنكتف بقليل من كثير.

تناول الشاعران عبد الله حسن الكردي، وجلال مجذوب قصيدة الإمام البرعي التي مطلعها: خل الغرام لصب دمعه دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه

فخمساها تخميسين أعجباني غاية الإعجاب، وبهذه المناسبة أقول أن التخميس والتشطير من الأمور الشائعة في الشعر السوداني، فمن تخميس الشيخ المجذوب:

يا من تطاول في وصل تنعمه ... ونام ملء جفون العين نومه

أهنأ فما أنت صب القلب مغرمة ... (خل الغرام لصب دمعه دمه

حيران توجده الذكرى وتعدمه)

شتان بين سمير الليل ساهرة ... ونائم غط من بدء لآخره

أتعذل الصب يشكو بُعد هاجرة ... (عذلته حين لم تنظر بناظرة

ولا علمت الذي في الحب يعلمه)

وينتهي من هذا الغزل إلى المديح فيقول:

لا تستوي في الهدى الأنوار والظلم ... ولا السميع كمن في أذنه صمم

أتاهم المجتبي شمساً وعنه عموا ... (حال السها غير حال البدر لو علموا

بل أهل مكة في طغيانهم عمهوا)

يا ضيعة العمر يا عظمى خسارته ... إن لم أشد رحالي نحو دارته

يا كل موصي وفيُّ في سفارته ... كم أستنيب رفاقي في زيارته

عنى، وما كل صب القلب مغرمُه)

ويقول الكردي:

أهوى النبي وأرجو من كرامته ... خيراً، وأطمع في عقبى شفاعته

ومن صبابة قلبي في مقامته ... (كم أستنيب رفاقي في زيارته

عني، وما كل صب القلب مغرمة)

ويتصل بهذه المدائح شعر كثير في ذكرى المولد النبوي، وفي ذكرى الهجرة، وفي ذكرى غزوة بدر، وفي المناسبات الإسلامية المختلفة، وليس أدل على سيادة هذا الغرض وقوته، من أن شعراء غير مسلمين يقولون في الأغراض الإسلامية، ومن ذلك قصيدة الشاعر صالح أفندي بطرس في الحث على العناية بجامع أم درمان، ومنها:

يا مسجداً مطلت بنوه بعهده ... حتى غدى وهو الحسير المعدم بدأوك جوداً بالصنيع وأحجموا ... ما كان أولى أن ذاك يتمم

بيننا تشيد إذ وقفت كأنك الط - لل المحيل عفاه هام مرهم

أترى المساجد في القديم تشاد في ... أبهى الشكول فمذهب ومرخم

وتراك تعجزهم بأن تبني بآ - جر وتسقف (بالعروق) وتردم

علي العماري

مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بام درمان