انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 79/مسابقة أدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 79/مسابقة أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 01 - 1935



إلى شعراء العربية

من الآسة (مي)

قصيدة من النسق العالي في الشعر الوجداني الفرنسي صغتها قريحة الآنسة النابغة (مي) ثم ترجمتها هي إلى العربية وقدمتها إلى شعرائنا مقترحة أن ينقلوها نماً إلى لغتنا في موعد لايتجاوز آخر شهر فبراير سنة 1935.

وقد تفضلت فتبرعت للمجيد الاول بجائزة مالية قدرها جنيهان مصريان. وسيكون الفصل بين الشعراء للجنة ن الأدباء سنعلن تأليفها عما قريب (المحرر)

الترجمة

ارتباب

صديقتي يا ذات العينين الكبيرتين الوديعتين، روحي تناديك!

الريحُ في هذا المساء تهبُّ هوجاء شديدة الوطأة،

الريحُ تجأر، وصوتها العصي الناحب

يُرجعُ في دوي الصدى عصياً مكبوتاً.

صديقتي يا ذات العينين الكبيرتين الوديعتين، روحي تناديك!

  • * *

في اكتئاب أحلمُ، جالسةً بين الأزهار؛

جناحُ الأعصار يلطمُ نافذتي،

السماءُ تبكي: واهاً لهذه الدموع! هذه الدموع المنتحبة

ماذا تحركُ بسيرها في أعماق الكيان؟

في اكتئاب أحلمُ جالسةً بين الازهار.

  • * *

أتذكرين يوماً هو الأول من العام؟

إذ السرُّ المغري أنار عينيك، وإذْ روحي عبدتْ فيكِ روحها الأكبر سناً،

وإذْ منكِ إلى جاءت الكلمةُ الصامتة؟

أتذكرين يوماً هو الأول من العام؟

  • * *

شهرٌ تولى، وها قد أتينا على نهايته،

رأيتك خلالهُ مرتين في مسائين اثنين.

والآن وقد أصبح ابتهاجي في عدهِ،

أحنُّ إلى لقاءِ ذياك الفجر الفتان. . .

شهرٌ تولي، وها قد أتينا على نهايتهِ.

  • * *

وهذا المساءُ الحالك الممطر مساءُ وداع؛

قاتمةٌ هي افكاري والغمُّ يُبقُ علي؛

ارتيابٌ خبيثٌ يخالطُ قلبي المستسلم للحنان:

ماذا لو كان قلبك مغروراً محتلاً؟. . .

وهذا المساءُ الحالك الممطر مساءُ وداع. . .

(مي)

عابر سبيل

للأستاذ محمد سعيد العريان

قالت له نفسه الكريمة:

(سِرْ يا رفيقي على هادك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس،

ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!)

  • * *

قَبْلَ أن يسفر الصبحُ من ليلة العيد، أستهل الصبيُّ صارخاً لأولِ ما يرى الدنيا؛ وقالت القابلة: (ي بُشرى هذا غلام!) فانبسطت وجوه؛ وابتسمت شفاه، ودب المرح في جنبات الدار

وضمته أمه إلى صدرها النابض فقبلته وقالت: (ستكون سعيداً يا بني؛ إن الحياة لَتبسم في وجهك؛ هذا يوم أشرق صبحه!)

وعاد (الشيخ) من المسجد يدب على عصاه، في لسانه تكبيرُ وتسبيح، وفي قلبه صلاةٌ قائمةٌ ودعاءٌ خاشغ. واستقبلته ابنته بالبشرى: (إنه صبي يا أبتِ! هل ترى أخي؟)

وأدنى الشيخ من جبين الصبي فما يختلج بالشكر! فقبله والدمع يترقرق بين أهدابه، والكلمات تحتبس في لسانه؛ وأطال النظر في وجه الوليد فقال: (لقد أبطأت طويلاً يا بني حتى أدركني الهَرَم، ولكني بك اليوم سعيد! لئن كنت موشكاً أن أمضي إلى الدار الأخرى - إنني لحيٌّ بك في دنياي جيلاً جديداً؛

فَعشْ واسعدْ يا ولدي وابتسم للحياة!) ورفع الشيخ راسه إلى السماء وقال: (اللهم هذا دعائي وأنت أرحم الراحمين!)

  • * *

مضى الطفل يعدو وراء الأيام تجاذبه أثوابَ الطفولة؛ فاذا هو غلام يلهو في فناء الدار مع لِداتٍ من الصبيان

وقال له صبيٌّ: (ما هذا معك يا رفيقي؟) فانبسط وجه الغلام، وقاسم الصبيان حلواه ومِليماتِه! وعرف الأطفال أن صاحبهم جواد، فأقبلوا عليه واجتمعوا على وده: وهمس أحدهم فيمن يليه: (إن معه اكثيراً من ذاك!) فتعود الأطفال أم يسرقوه!

ومضى الصبي إلى أبيه يبكي

- (ولدي، ما يبيك؟)

- (أبكي المليمات يا أبي!)

- (غداً أُعطيك غيرها يا بني؛ إن عند الله كثيراً من المليمت للاولاد الصالحين!)

ونظر الغلام إلى فطير في أيدي صحابته فاشتهته نفسه؛ أفيطلب أن يقاسمهم وما تعود؟ ولكن أباه أخذه بألا ينظر إلى ما في أيدي الناس؛ وكم علمه بالحكاية، وكم ضرب له من الأمثال:

أن الحيوان الضعيف هو الذي يعيش على ما في الأيدي؟ ورأى الاطفال شهوته في هينه، فاستخفوا منه يلتهمون من في أيديهم!

  • * *

وشب الغلام، فدفعه أبوه إلى المدرسة، وعلمه في أول لياليه وقد رجع من مدرسته؛ أنْ هؤلاء بازاء أهلك هناك؛ فأحسنْ فيهم رعابة الود، وكن بينهم أخاً في إخوانه.)

وقال له زمياه في المدرسة ذات يوم: (هل تعينني على كتابة دَرْسي؟) فلما اعانه مضى الزميل وخلفه يعالج درسه وحده!

وسمع المعلم ذات مرةٍ همساً بين تلميذين؛ وكان جاره يطلب منه قلماً؛ وغصب المعلم وصاح: (مَن يتحدث؟) ولصقت التهمة بالمظلوم، فتلقى الصفعةَ صامتاً وجاره يبتسم؛ ولم تكن ابتسامته من شناته، بل فرحاً بالنجاة من كف غليظة!

وفي الطريق شاغَب التلاميذُ في أحد الايام أعمى يدب على عكازه، فلما توعدهم وهز لهم العصا، فروا وبقي الغلام لأنه بريء، فلم تنل عصا الرجل أحداً غيره! لقد ىلمته الضربةُ ولكنه تقدم بيهتدي الرجل الطريق!

  • * *

وأيفع الغلام، واستدناه أبوه اليه وهو مطوي في الفراش على نفسه من وهن الشيخوخة؛ ولبث الشيخ طويلاً يصوب النظر في الغلام ويصعده، ثم تكلم: (ليتك يا بني ملء عيني ما أراك ملء قلبي! ولكني أرى في وجهك اليوم ما كانت تُريني المرآة منذ عشراتٍ وعشرات، فلا جرم أن تبصر يا بني في مرآتك بعد عشراتٍ وعشراتٍ صورة أبيك؛ ستكون أميراً يا ولدي؛ سيستجيب الله دعائي لك، وما انقطع دعائي لك منذ ولدت؛ فأحب الناس، وَهبْ نفسك للجماعة! كن رجلاً قوياً يا بني؛ كن للناس فيض الحب والرحمة، ولا تستجد الحياة ما لا تعطيك؛ السعيد يا بني من يعطي لا من يطلب العطاء!)

وتكرر هذا من أبيه اياماً، كان يريد الا يموت إلا وقد وضع نفسه في ابنه!

ثم مضى أبوه في رحلة طويلة لا رجعة منها إلى هذه الدار.

يا حسرتا! هذا هو في الفراش مسبحي والنائحات تنوح! وأخفى الفتى عينيه يستر دمعه، لقد علمه أبوه أن يكون جَلداً فليحفظ وصاة أبيه

ونظر في وجوه المشيعين في الجنازة فما رأي بينهم رجلاً كالذي فقده، فعلم أنه فَقدَه الى الأبد. وتصور الدار الخلاءَ إلا من أمه وإخواته. يا للفاجعة! يحب أن يون رَجُل الدار؛ لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد صبياً. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة: (يا أبي، فانني أنت هنا!)

وعاد الى الدار مطرق الرأس، ليضع يد الرجل الصغير في أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته!

أجاءوا يُعزون (الرجل الصغير) أم جاءوا يُحصوُن ما خلف الميتُ وأنفيهم تسيل طمعاً؟

وقال له أمه: (ما بي خوف الوحدة وأنتَ لي، فقم على الدار والدرس؛ إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم والكرامة، فقد كان أبوك عالماً كريماً. كن للناس ما كان أبوك: وجهاً طلقاً، ونفساً سمحة، ويداً معطية، وقلباً يفيض بالحب!

  • * *

وخُيل الى الغلام أنه الرجل، وطَمْأنَهُ الى الناس أن أباه اوصاه بالناس، فلم يرد لأحدٍ طَلِبه، وإنه ليحمل من هموم الناس أكثر مما يحمل من هموم نفيه؛ مؤمناً بأنه يفعل واجبه للجماعة، ويؤدي دْينه للأنسانية؛ مستيقناً أن الناس ستحمل عنه إذا نابه هم!

وقال له جاره يوماً: (إن دائني يركب كتفي، فهل عندك فضلٌ من المال الىحين؟)

وأعانه ما قَدَر على إعانته، فاذا جارهُ لا يقلقاه من بعدها إلا حادَ عن الطريق؛ وإن غب (الرجل الصغير) لقيلاً من سوء الظن، وإن فيه لكثيراً من الحياء!

وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا من عسرٍ يستحي أن يستعلن، وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل وينكر العارفة. . .؟

وسأله صديق مرة: (هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي طاقةٌ على أن ادفعه الى معلم بالمال؛ وما بي طاقة أن اهمله من التعليم!)

واهتزت نفس الفتى، لأنه - فيما بدا له من صاحبة - قادرٌ على أن ينفع النس مثل أبيه. وشد الولد من العلم ما شدا، فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!

وقال رجلنا لنفسه: (با للأب المكدود! لقد حَزبته مشغلة العيال عن ذكري؛ ليته يستعينني على بعض أمره!)

ومن أين للفتى أن يعلم بأن كل مبذول مًهين. . . .؟ * * *

وقال له واحدٌ من قرابته ينصحه: (هلا ادرخت فضل اليوم للغد؟ إن المالَ عَصب الحياة، وجاه الرجولة، ومطيةُ الامل البعيد)

وابتسم (الفيلسوف الصغير) وهو يقول: (المال؟ ما أُحب أن أجعل المال خاتمة المسعى وغاية الجهاد، إن البطن لشبرٌ في شبر، وإن الثوب لذراع في ذراع؛ أفيتسع البطن حتى يبتلع غلات ضيعة، أو تطول القامة حتى ما يكسوها إلا ثوبٌ بألف، أو يتضاعف الجسم حتى ما يرويه إلا بيت في مساحة مدينة؟ أنا هو أنا يا صديقي، غنياً أو فقيراً؛ بطتي هو بطني، وثوبي هو ثوبي، وبيتي هو ما متد من قدمي الى رأسي حين أنام!

أي سخرية! إن الفقير الذي يعوزه القرش ليستطيع أن يقول قالة الغني الذي يملك المليون. وماذا يملك العني مما يملك إلا أن يسرح الطرف فيقول: هذه ضيعتي وهذا قصري. أفلا يستطيع الفقير أن يسرح عينيه معاً فيقول مثله: هذه ضياعي وتلك قصوري؟ يلي يا صاحبي. إن الفني لوهم من أوهام الناس، وإن الفقير المعدم ليرى أنه يملك ما شاء أن يملك من الدنيا ما دام راضي النفس!))

وفتراقا وكلاهما يرثى لصاحبه!

  • * *

وقالوا له: (هلا التمستَ لك زوجةً تأوى إليها فتجمع ما تفرق من أمرك؛ لعلك أن تجد عندها راحةَ النفس وهدوء القلب؟)

قال: (حتى ألقاها فأعر فها فيدلني عليها قلبي. ما أريدها غنية، فمالي وغناها وأنا عائلها وكاسبها؟ وما أريدها جميلة، فمالي وللجميلة تتوزعها قلوبُ الناس وعيونهم، وبتوز عني منها الشك والقلق؟ وما أغلو في طلب الفيلسوفة العالمة، فأجمع على نفسي هما بالليل وهما بالنهار! وما أريد أن تقول: (كان أبي ورَحم الله جدي)، فتملأ بيتي بأشباح الموتى وأطياف الهالكين! بحسبي أن أجد الفتاة التي يخفق لها قلبي ويهدأ عندها حنيني.)

وخُيل إليه أنه وجدها بعد إذ أعياه المطاف؛ فوهب لها قلبه، وأخلص لها وده، وكشف لها عن نفسه؛ ونظرت الفتاة في مرآتها، ثم لَوَتْ عنه معجبةً مزهوة!

أتراه وقد نالت منه بقسوة الصد، وصَعرِ الخد، وجفوة الدلال - قد أيقن أن المرأة لاتستوثق من حب صاحبها إلا غلبتْ، ولا تستمكن من زمامه إلا رَكبتْ. . .؟

  • * *

باللمسكين! لقد كان بريئاً طاهراً كالطفل، وادعاً مستكيناً كالحمل؛ يحسب الناس كل الناس في مثل براءته وطهره، فما ينشد فيهم إلا المثل الأعلى الذي يراه في نفسه! وأين المثلث الاعلى من هذا الناس؟ أين هؤلاء الذين يرى، من أناسي خياله؟ وأين هذا الوجود من عالم قلبه؟

لقد منحهم حبه فهل لفقي عندهم إلا الغدر؛ واصفاهم وده فهل رأى إلا الاثرة؛ ومحضهم إخلاصه فهل عرف إلا الخديعة والمكر؛ وألان لهم جانبه فهل وجد إلا الكبرياء وصعر الخد. . .؟

وأيقن (الرجلُ الصغير) انه لم يكن في هذا العالم غير طَفلٍ كبير!

وعرف أخيراً أين أحلامه من اليقظة، وأين أمانيه من الحقيقة، وأين المثلُ العليا التي جد ينشدها منذ كان صبياً فلم يجدها إلا في نفسه. . .!

وراودته نفسه أن يكون بعض هذا الناس لعله يلقي بعض أسباب السعداة، فَرن الصدى في مسمعيه يرجع قول أبيه: (ستكون أميراً يا بني، فأحب الناس، وهَبْ نفسك للجماعة؛ إن السعيد من يعطي لا من يطلب العطاء!)

وثابت إليه نفسه، ونفذت الطمأنينةُ إلى قلبه فقال: (نعم غنني لأمير، لأنني فوق الناس، لأنني أعطي ولا أستجدي؛ وإنني لسعيد، لأنني أملك الرضى، ولأنني أمل أن أجعل الحياة جميلة!))

وتلفت يمنةَ ويسرة، ونظر إلى الناس تتجاذبهم ضرواتُ الحياة، مستعيناً بالرضى، مستيقناً أنه سيجد المثل الأعلى هناك؛ عند الغاية من هذا الطريق!

وقالت له نفسه: (سِرْ يا رفيقي على هداك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس؛ ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!

طنطامحمد سعيد العريان

7 - محاورات أفلاطون الحوار الثاني

كريتون أو واجب المواطن

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أشخاص الحوار: سقراط. كريتون

مكان الحوار: سجن سقراط

سقراط وانه لو عصى رأى الواحد ورضاه وغض عنهما النظر، واضعاً في اعتباره رأي الكثرة التي لا تفقه من الأمر شيئاً، أفلا يعاني شروراً؟

كريتون - انه بغير شك يعانيها

سقراط - وماذا عساها تكون تلك الشرور؟ الام تنحو؟ وأي شيء تصيب من الشخص المتمرد؟

كريتون - لاريب في أنها ستصيب منه الجسد، فذلك ما تقوى على هدمه الشرور

سقراط - ذلك جد جميل، أليس ذلك حقاً يا كريتون بالنسبة إلى الأشياء الأخر، ولا حاجة بنا إلى ذكرها تفصيلاً؟

أينبغي أن نتبع رأي الجمهرة ونخشاها في موضوعات العدل والظلم، والجميل والقبيح، والخير والشر، وهي ما نحن الآن بصدد بحثه، أم نتبع في ذلك رأي الرجل الواحد الذي يفهمها، والذي يجب أن يكون له منا هيبة وإجلال أكثر مما يكون لسائر الناس أجمعين، والذي إن نبذنا قوله فانما نهدم في أنفسنا جانباً كان يرجى له أن يقوم بالعدل وأن يسوء بالظلم، أليس فينا ذلك الجانب؟

كريتون - إنه موجود يا سقراط، ولا شك في وجوده

سقراط - خذ مثلاً شبيهاً بهذا: هب أننا انتصحنا بما ينصح به هؤلاء الذين لا يفقهون فأفسدنا من أنفسنا جانباً، تصلحه الصحة ويتلفه المرض - أفتكون الحياة جديرة بالبقاء اذا افسد ذاك؟ وإنما أعني به - الجسد

كريتون - نعم سقراط - أفي وسعنا أن نعيش وأجسامنا مصابة بالشر والفساد؟

كريتون - كلا ولا ريب

سقراط - وهل تساوي الحياة شيئاً إذا ما فسد من الانسان جزؤه الأسمى، ذلك الذي تقومه العدالة ويفسده الجور؟ أفيمكن أن يكون ذلك العنصر الذي يرتبط أمره بالعدل والجور - مهم يكن شأنه في الأنسان - أدنى منزاة من الجسد؟

كريتون - كلا ولاشك

سقراط - هو إذن أرفع مقاماً

كريتون - هو ارفع مقاماً إلى حد بعيد

سقراط - إذن فلا ينبغي يا صاح أن، ابه لما تقوله الجمهرة عنا، إنما يجب أن نصغى لحكم الحقيقة، كما نستع إلى رأي ذلك الواحد الذي يفهم كنه العدل والظلم، فأنت إذن قد رقعت في الخطأ حين ارتأريت وجوب العناية بما يقوله الدهماء في الظلم والعدل، والخير والشر، والزائن والشائن، سيقول أحد: (ولكن الدهماء في مقدروها إهدامنا)

كريتون - نعم ياسقراط، سيكون ذلك بغير شك رد ما تقول

سقراط - هذا حق، ولكن مع ذلك يدهشني أن أرى الحًجة القديمة لا تزال فيما أحسب قائمة قوية كما كانت، وأحب أن أعرف إن كنت أستطيع أن أقول هذا القول في قضية أخرى - وهي أن ليست الحياة حقيقة بالتدقير ما لم تكن قبل كل شيء حياة خيرة؟

كريتون - نعم بقي لنا أن نبحث هذه أيضاً

سقراط - والحياة الخيرة تعادل الحيادة العادلة الشريفة - أليس هذا كذلك صحيحاً؟

كريتون - نعم إنه صحيح

سقراط - سانتقل من هذه المقدمات إلى البحث عما إذا كان واجباً عليّ أن أحاول الفرار بغير موافقة الاثينيين، م إن ذلك لايجوز؛ لإان كنت على حق صريح في الفران حاولته، إن لم أكن، امنعت. اما سائر الاعتبارات التي ذكرتها عن المال وضيعة الأخلاق وواجب تربية الأطفال، فهي كما بلغني، ليست إلا تعاليم الدهماء الذين لو استطاعوا لما ابوا أن يضيفوا الى الحياة أناساً، كما انهم لا يتعففون عن أن يوردوا الحتف أناساً، وتكقيهم في كلتا الحالتين أوهن الأسباب. أما وقد وصلنا بالجدل إلى هذا الحد، فقد بقيت لدينا مشكلة واحدة جديرة بالبحث، وهي: هل نكون على حق في الهروب بأنفسنا، أو في تحميل سوانا عناء عوننا في الفرار، لقاء نقدهم جزاء وشكوراً أم لا نكون، فان كانت الأخيرة فلا ينبغي أن يحسب حساباً للموت، أو لما شئت من الكوارث التي قد تنجم عن بقائي هنا

كريتون - احسبك مصيباً يا سقراط، فكيف سبيلنا إذن إلى البحث؟

سقرا - لننظر معاً في الأمر، فان استطعت لما أقول تفنيداً فافعل، وسأقتنع بك، وإلا فأمسك يا صديقي العزيز، ولا تقل ثانية بأنه يجب عليّ أن الوذ بالفرار برغم إرادة الاثينيين، وليتني أجد منك غقناعاً، ولشد ما أرغب في هذا على ألا يكون ذلك مخالفاً لما أراه حكماً سديداً. وتفضل الآن فانر في موقفي الأول، وحاول ما استطعت أن تجيب عما أقول

كريتون - سأبذل في ذلك وسعي

سقراط - افيجوز لنا القول بأنه لاينبغي لنا قطعاً أن نتعمد الخطأ، أم أن فعل الخطأ مقبول حيناً مرذول حيناً آخر، أم أن فعله أبداً شر ووصمة عار كما سبق لي القول الآن وسلمنا بصحته معاً؟ أفننبذ الآن كل ما سمحنا لأنفسنا به منذ أيام قلائل؟ أم أننا قضينا هذا العمر الطويل، يحاور بعضنا بعضاً في حماسة وإخلاص، لكي نوقن ونحن في هذه السن بأنا لا نفضل الاطفال في شيء؟ أم نثق ثقة قاطعة بصحة ما قيل من قبل، من أن الجور دائماً شر وعار على الجائر، يرغم ما يرى الدهماء، وبرغم ما ينجم عن ذلك من نتائج، حسنة كانت أم سيئة؟ هل نؤيد هذا؟

كريتون - نعم

سقراط - إذن يجب ألا نفعل الخطأ

كريتون - بقينا يجب ألا نفعله

سقراط - واذا أصابنا الضرر فلا نرده بضرر مثله، كما تتخيل كثرة الناس، لأنه يجب ألا نصيب أحداً بضر

ريتون - واضح أن ذلك لا يجوز

سقراط - ثم هل يجوز لنا أن نفعل الشر يا كريتون؟

كريتون - لا يجوز قطعاً يا سقراط

سقراط - وما رأيك في رد الشر بالشر، وهي أخلاق الدهماء - أذلك عدل أم ليس بالعدل كريتون - ليس بالعدل

سقراط - فلأن تصيب أحداً بشر كأن تصيبه بضر

كريتون - صحيح جداً

سقراط - إذن لاينبغي لنا أن نأخذ بالثأر، ولا أن نرد الشر بالشر لاحد ما، كأننا ما كان الشر الذي ابتلانا به، وأحب أن تنظر في الامر يا كريتون، لترى هل كنت حقاً تعني ما تقول، ذلك لأنه لم يأخذ بهذا الرأي يوماً، ولن يأخذ به إلى آخر الدهر فريق من الناس كبير. ولا سبيل الى اتفاق بين من يقرون هذا الرأي ومن لا يقرونه، فما بد من أن يزدري بعضهم بعضاً، عندما يرون كم بينهم من شقة الخلاف. حدثني إذن: أأنت متفق معي ومؤيدي في مبدئي ذاك، وهو أن ليس من الحق أيقاع الضر، ولا الأخذ بالثأر، ولا رد الشر بالشر؟ أمسلم أنت بهذا مقدمة لحديثنا، أم أنت منكر له راغب عنه؟ لقد كان ذلك مذهبي منذ عهد بعيد، وما يزال كذلك؛ فان كنت ترى غير ذلك رأياً، فهات ما عندك؛ أما إن كنت بعد هذا كله لا تزال عند رأيك الأول، انتقلت معك في الحديث خطوة أخرى

كريتون - إنني ثابت عند رأيي، فتستطيع أن تسير في الحديث

سقراط - سانتقل إذن إلى الخطوة الثانية التي يمكن أن توضع في صيغة هذا السؤال: أينبغي للأنسان أن يفعل ما يراه حقاً، أم ينبغي له أن ينقص الحق

كريتون - إنه يجب على الأنسان أن يفقعل ما يظنه حقاً

سقراط - ولكن ما تطبيق هذا إن صح؟ ألست أسيء إلى أحد إن تركت السجن برغم غرادة الأثينيين؟ أو على الأصح، ألست أخطىء في حق أولئك الذين ينبغي أن يكونوا من أبعد الناس عن الأساءة؟ ألا يكون ذلك تطليقاً لمبادئي التي سلمنا معاً بعدها؟ ماذا تقول في هذا؟

كريتون - لست أدري يا سقراط، فلا أستطيع أن أقول شيئاً

سقراط - إذن فانظر الى الأمر على هذا الوجه: هب أنني هممت بالابوق (أو إن شئت فسم هذا العمل بما أردت من أسماء) فجاءت الى القوانيين والحكومة تسائلني: (حدثنا يا سقراط، ماذا أنت فاعل؟ أتريد بفعلة منك أن تهز كياننا - أعني القوانين والدولة بأسرها بمقدار ما هي في شخصك مائلة؟ هل تتصور دولة ليس لأحكام قانونها قوة، ولاتجد من الافراد إلا نبذاً واطراحاً، أن تقوم قائمتها، فلا تندك من أساسها؟) فبماذا نجيب يا كريتون عن هذه العبارة واشباهها؟ وسيكون مجال القول واسعاً لكل انسان، وللخطيب البليغ بنوع خاص، يهاجمون هذا الشر الذي ينجم عن اطراح القانون الذي لابد لحكمه من النفاذ. وربما أجبنا نحن: (نعم، ولكن الدولة قد آذتنا، وجارت علينا في قضائها) هب إنني قلت هذا

كريتون - جميل جداً يا سقراط

سقراط - سيجيب القانون: (أفكان ذلك ما قطعته معنا من عهد، أم كان لزاماً عليك أن تصدع لما حكمت به الدولة؟) فان بدت علي من قولهم هذا غعلائم الدهشة، فربما أضاف القانون قوله: (أجب يا سقراط بدل أن تفتح لنا عينيك: وقد عهدناك مسائلاً ومجيباً. حدثنا، ما شكاتك منا، تلك التي تسوغ لك محاولة هدمنا وهدم الدولة معاً؟ فوق كل شيء، ألم نأت بك الى الوجود؟ ألم يتزوج أبوك من أمك بعوننا فأعقباك؟

قل إن كان لديك ما تعترض به على أولئك الذين ينظمون الزواج منا؟ وهنا لابد من إجابتي أن لا (أو على أولئك الذين منا ينظمون طرائق التغذية والتربية للأطفال، وفي ظلها نشأت أت؟ ألم تكن القوانين التي نهضت بهذا على حق في أن طلبت الى أبيك أن يدربك في الموسيقى ورياضة البدن؟) وهنا يلزم أن أجيب أن قد كانت على حق: (حسناً، فان كنا قد أتينا بك الى العالم، ثم أطعمناك فانشأناك، أفأنت جاحد أنك قبل كل شيء ابننا وعبدنا كما كان آباؤك من قبل؟ فان صح هذا فلسنا وإياك سواسية، فلا تظن أن من حقك أن تفعل بنا ما نحن بك فاعلون، وهل يكون لك أدنى حق في أن تنال أباك أو سيدك، إن كان لك أب أو سيد، بالضرب أو بالشتم أو بغير ذلك من السوء، إذا رقع عليك منه ضرب أو شتم، أو اصابك منه غير ذلك من الشر. - لا نخالك قائلاً بهذا: وإذا كنا قد رأينا أن من الصواب إعدامك، أفتطن أن من حقك أن تجازينا إعداماً باعدام؟ وأن تجازى وطنك بمقدار ما هو مائل فيك؟ وهل تظن يا أستاذ الفضيلة الحق أن يكون لك في ذلك ما يبررك؟ أيعجز فيلسوف مثلك أن يرى بأن وطننا أخلق بالتقدير، وأنه اسمى جداً واقدس من ام أو أب أو من شئت من سلف، وهو أجدر بالاعتبار في نظر الآلهة واهل الفطنة من الناس؟ وانه ان غضب وجب أن نهدىء من سورته، وأن نلاقيه لقاء وديعاً خاشعاً أكثر مما نفعل حتى مع الوالد، فان تعذر اقناعه وحببت طاعته؟ فاذا نالنا منه العقاب بالسجن أو بالجلد، وجب ان نحتمل جزاءه في صمت، إن ساقنا الى حومة الوغى حيث الجراح والموت، كان لزاماً أن ننصاع له باعتباره مصيباً، دون أن يُسلم أحد منا أو يقهقر أو يترك منصبه، وواجب حتم على الانسان أن يصدع بما يأمره به الوطن، سواء أكان في ساحة الحرب أم في ساحة القانون، إلا إذا غير من وجهة نظره في ماهية العدل، وإن كان لايجوز له أن يقسو على أبيه أو أمه، فما أوجب أن يكون رحيماًعلى وطنه) بماذا تجيب على هذا يا كريتون؟ آلقوانين فيما تقول صادقة أم ليست بصادقة؟

كريتون_أحسبها صادقة فيما تقول

زكي نجيب محمود

غياث الدين الكاشي

للأستاذ قدري حافظ طوقان

يهمنا دائماً أن نكشف عن نواحٍ من التراث العربي والأسلامي أحاطها إهمالنا غيرنا بسحب من الغموض والأبهام حتى ادت تصبح غب عالم النيسان. وقد يظن بعضهم أن الكشف عن هذه النواحي سهل لايحتاج إلى تنقيب، ولكن الواقع غير ذلك، فاننا نجد صعوبة كبرى ومشقة عظنى في وضع ترجمة عالم مغمور، إذ يحتاج ذلك الى مراجعة الكتب قديمها وحديثها من عربية وإفرنجية، ويحتاج أيضاً لمطالعة متنوع المخطوطات علنا نتمكن من الكتابة عن ذلك العالم كتابة تعطي فكرة صادقة عن حياته ومآثره في العلوم. ولقد ثبت لنا أن هناك عدداً كبيراً من علماء العرب والمسلمين اشتغلوا بالرياضيات والفلك والطبيعة وغيرها من العلوم والفنون، لم يأخذوا حقهم من البحث والاستقصاء، وأن مآثرهم لاتزال مجمهولة لدينا إذ هي ملعثرة في شتى الكتب، وأنه لم يقم أحد منا يعني بها أو يهتم بكشفها، ولست ادري على من يقع علينا جميعاً كلا من ناحيته، فعلى الذين يعنون بالتاريخ والجغرافيا يقع اللوم على عدم تبيانهم للملأ أثر علمائهم فيها، كذلك يقع اللوم على الذين يعنون بالكيمياء، إذ من الواجب العلمي والوطني أن يهتموا بمآثر العرب فيها وبما قدمه العقل العربي من خدمات جليلة لها. وما يقال عن التاريخ والجغرافيا والكيمياء يُقال عن غيرها من فروع المعرفة.

ولا يخفى أنه يجب أن يكون وراء الكشف عن مآثر وتراث أسلافنا فكر وطنية تعود على الأمة بالخير والنفع، فتحفز همتها وتُثار عزيمتها، ولسنا في هذا مبتدعين أو آتين بجديد. ونظرة إلى تاريخ العلوم والفنون عند الفرنجة نجدهم عند بحثم عن مآثر علمائهم ونوابغهم فيها يدخلون وراءها فكرات وطنية مستورة تتجلى لنا في كل مناسبة، وتتجلى لنا ايضاً في كتبهم وفي تدريسهم في الجامعات والكليات. وبذلك يكونون قد جعلوا النشء يؤمنون بقابليتهم ويعتقدون بعبقريتهم ويشعرون بقوميتهم، وفي هذا كله قوى تدفع الأمة إلى حيث المجد والسؤدد.

بعد هذا نعود إلى موضوع مقالنا فنقول: إن غياث الدين جمشيد الكاشي من الذين لم يكتب عنهم إلا الشيء القليل، وهذا الشيء القليل موزع في عدة كتب منها الصفراء (ومنها الخير الكثير) ومنها الفرنجية، ومنها التركية، ةوقد حاولت أن أستعين بما عثرت عليه في مختلف المؤلفات التاريخية، فوقفت والحمد لله إلى ترجمة متواضعة، أرجو أن أكون قد قمت بها ببعض الواجب نحو عالم من علماء المسلمين اشتغل في العلوم الرياضية، ومهر الرصد وبرع في الفلك

  • * *

ولُد غياث الدين في القرن الخامس عشر للميلاد في مدينة كاشان مما وراء النهر، وكان يقيم فيها مدة ثم ينتقل إلى محل آخر، ولقد توجه إلى سمرقند بدعوة من أولوغ بك، الذي ان يحكم بأسم (معين الدين سلطان شاه) وفيها ألف أكثر مؤلفاته التي كانت سبباً في تعريف الناس به. ويقال إن الفضل في إنشاء مرصد سمرقند يرجع إلى غياث الدين وإلى قاضي زاده رومي، ولكن الأول توفي قبل البدء باجراء الرصد فيه، كما أن الاخير توفي قبل تمامه، وعلى هذا سُلمت أمور المرصد إلى على قوشجي، ولهذا المرصد أهمية كبيرة، إذ بواسطته أمكن عمل زيج (كوركاني) الذي بقي معمولاً به قروناً عديدة في الشرق والغرب، واشتهر هذا الزيج بدقته وبكثرة الشروح التي عملت لأجله. والكاشي من الذين لهم فضل كبير في مساعدة أولوغ بك في إثارة همته إلى العناية بالريضيات والفلك.

واختلف المؤلفون في تاريخ وفاة الكاشي، فبعضهم يقول إنه توفي حوالي سنة 1424م، ويقول أخرون إنه توفي حوالي سنة 1436ن، ولم نستطع البت في هذه المسألةن ولكنا نستطيع القول أن الوفاة وقعت في القرن الخامس عشر للميلاد في سمرقند بعد سنة 1421م، وهي السنة التي أنشيء فيها المرصد

أشتهر الكاشي في علم الهيئة، وقد رصد الخسوفات التي حصلت سنة 809هـ، 810هـ، 811هـ، وله في ذلك مؤلفات بعضها باللغة الفارسية، منها كتاب زيج الخاقاني في تكميل الأباخاني، وكان القصد من وضعه تصحيح ويج اليلخافي للطوسي، وفي هذا الزيج الخاقاني دقق ي جداول النجوم التي وضعها الراصدون في مراغة تحت إشراف الطوسي، ولم يقف غياث الدين عند حد التدقيق بل زاد على ذلك من البراهين الرياضية والأدلة الفلكية مما لا نجده في الأزياج التي عُملت قبله، وقد أهداه الى اولوغ بك. وله في الفاريبة أيضاً التي وضعها باللغة العربية ما يبحث في علم الهيئة والحساب والهندسة، نذكر منها كتاب نزهة الحدائق، وهذا الكتاب يبحث في استعمال الآلة المسماة طبق المناطق، وقد اوجدها لمرصد سمرقند، ويقال إنه بواسطة هذه الآلة يمكن الحصول على تقاويم الكواكب عرضها وبعدها مع الخسوف والكسوف وما يتعلق بهما. وله رسالة سلم السماء، وهذه تبحث في بعض المسائل المختلف عليها فيما يتعلق بأبعاد الأجرام. وله أيضاً رسالته المحيطية، وهي تبحث في كيفية تعيين نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، وقد أوجد تلك النسبة إلى درجة من التقريب لم يسبقه إليها أحد كما قال البروفسور (سمث). وقيمة هذه النسبة كما حسبها الكاشي كما يلي:

3. 1415926535898732، ولم نستطع أن نتأكد من استعمتله علامة الفاصلة، ولكن لدى البحث ثبت أنه وضع هذه القيمة للنسة في الشكل الآتي:

صحيح

1415926535898732 3 وهذا الوضع يشير الى أن

المسلمين في زمن الكاشي كانوا يعرفون شيئاً عن الكسْر

العشري، وأنهم سبقوا الأوربيين في استعمال النظام العشري،

يعترف بذلك البروفسور سمث في كتابه تاريخ الرياضيات في

ص290 من الجزء الاول. وللكاشي رسالة الجيب والوتر، وقد قال عنها المؤلف في كتابه المفتاح ما بيل (وذلك ما صعب

على المتقدمين كما قال صاحب المجسطي فيه أن ليس إلى

تحصله من سبيل). وقد يكون كتاب مفتاح الحساب من أهم

مؤلفات صاحب الترجمة، إذ وضع فيه بعض اكتشافات في

النظريات الحسابية. ويقول عن هذا الكتاب الاستاذ صالح

زكي: (ويعتبر هذا الكتاب الخاتمة لكتب الحسلاب المبسوطة

التي ألفها الرياضيون الشرقيون. . .) وكذلك يقول عنه كتاب

كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون: (. . . بلغ إلى غاية

حقائق الأعمال الهندسية من القوانين الحسابية، وهو على

مقدمة وخمس مقالات: المقالة الاولى في حساب الصحيحن

الثانية في حساب الكسور، الثالقة في حساب المنجمين، الرابعة

في المساحة، الخامسة في استخراج المجهولات، وهو كتاب

مفيد أوله. . . الحمد لله الذي توحد بابداع الآحاد الخ. . . ألفه

لأولوغ بك ثم اختصره وسماه تلخيص المفتاح، وقد شرح

بعضهم هذا التلخيص. . .) وفي هذا الكتاب نجد قانوناً لايجاد

مجموع الاعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة.

ويعترف كتاب تراث الاسلام بأن الكاشي استطاع أن يجد قانوناً لايجاد مجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة كما اعترف بذلك أيضاً البروفسور سمث في كتابه تاريخ الرياضيات في ص505 من الجزء الثاني

هذه لمحة موجزة عن حياة الكاشي ومآثره في الرياضيات والفلك، والذي نرجوه أن نوفق في المستقبل للكتابة عنه بصورة أوسع وأوفى للمرام، وأن تكون هذه اللمحة حافزاً لغيرنا للأهتمام باحياء العلماء المغمورين أمثال الكاشي، نسأله تعلى التوفيق والعون

نابلس قدري حافظ طوقان

مطالع الأعوام

للأستاذ عبد العزيز البشري

جرت عادة الناس من الزمان البعيد أن يفرحوا أو يتكلفوا الفرح كلما طالعتهم دورة الأيام بعام جديد. وكثير منهم من يتخذ من مطلع العام عيداً، بليس فيه جديد الثياب، ويحتفل لتهنئة الصحاب واستقبال الهناء من الصحاب، ويتفرغ من كل عمل ليتوفؤ ومن يحمل من الأهل والولد على إصابة ما يتهيأ لهم من اللذائذ والمتع، وتقليب العطف فيما يتيسر من ألوان النعيم. ذلك جرت عادة الناس، أو عادة أثر الناس

ولو قد راجع المرء نفسه في هذا، ورح يتحسس الأسباب والعلل في ذلك الذي يكون منه في مطالع الأعوام، فليت شعري بِمَ هو في غاية الأمر راجع؟. أتراه فرحاً بأنه طوى من عمره عاماً؟. أم تره فرحاً بأنه سينشر من عمر عاماً؟

وإن عجباً دونه كل عجب أن هذا الانسن الأثِر، المتشبث بأسباب لحياة، مهما تذلل وتوجع، يفرح بطي صفحة من حياته، وقطع مرحلة من عمره، فيدنو من الغاية المحتومة التب ما ذكرها إلا مليء منذكرها فرقاً ورعباً!

وإن عجباً لاينتهي منتهاه عجبٌ أن هذا الانسان الجبان المنخلع القلب، الذي لا يرى إن يقيناً وإن وهماً، فيل قنيه من ثنايا الغيب، وفي كل منعطف من منعطفات الدهر، إلا ما يرتصد له، ويتربص به الدوائر، ويرميه ما أصحرت به الأيام بالوان المكلره والمخاطر - اللهم إن عجباً لاينتهي عجب أن يفرح هذا الانسان باستقبال ل هذا الذي يتوقع من أذى طارقات الليال!

إذن ففيم فرح الانسان بدورة الأيام، وأغتباطه ذاك بالتخلص من عام لاستقبال عام؟ ليت شعري أتراه يضيق بالحياة ويبرم بها، ويسر كلما طوى من كتابها صفحة، واقترب من غايتها خطوة. اللهم إن الأنسان لأ كلف بالحياة، وأود لو تطر به إلى غاية الزمان، وإلى ما بعد غاية الزمان! أليس أبر عزائه في هذه الحياة إذا عرض ذكر الموت، ولا مفر منه، أنه مبعوث من بعده لحياة لا يدركها عدم ولا يلحقها فناء؟

إذن ففيم فرح الأنسان بدورة الأيام، واغتباطه بالتخلص من عام لأستقبال عام؟

ألاَ إن أعجب من هذا كله أن يراجع الأنسان نفسه، ويسائلها فيم اغتبطاها وفرحها من حيث يجب أن يتداخلها الاسى وتلح عليها الحسرة من كل مكان؟!

اللهم إنه ليكلف بطول العمر، ويكلف بقصر العمر، وإنه ليشغف ببسطة الأيام، ويشغف بنفاد ما بقي بين يديه من الأيام!.

اللهم إنه لا يستريح إلى هذا المحال، إلا من كان به مس من جنون أو مس من خبال!

  • * *

ليس الانسان مجنوناً ولا مخبلاً؛ بل إنه ليفر فيحسن التفكير، ويقدر فيصيب التقدير، ويدبر فيُحكم التدبير. وإن عقله الجبار ليأبى إلا يستذل عنف الطبيعة كل يوم. وها هوذا لا يفتأ يسخر لحاجاته جوها وماءها، وأرضها وسماءها، بما لا يحتاج معه إلى قيام دليل على صحة العقل وسلامة التفكير!

ما لنا بعد هذ بد من التدسس إلى قررة النفس، والتسلسل إلى ثناياتها، علنا نصي الوجه ونستخرج العلة في ذلك الذي نحسبه في المحال!

ها نحن اولاء نتحرى خطرات النفس، ونتقرى خلجات الحس، فنسير وراءها حيثما سارت، وندور معها كيفما دارت. حتى إذا بلغت سائلها القرار، تهيأ لنا أن نروى عنها أصح الانباء واصدق الاخبار.

هذ الانسان العاقل المفكر الدبر، يجزع حقاً أشد الجزع لما ينطوي من أيام عمره، ولقد يهش حقاً لما يستقبل من بقايا أيام الحياة. غبر انه لا يعقد أية صلة بين هاتين النزعتين القويتين فينفسه، فهذه تكون منه في حال، وهذه تكون في خال، فليس ثمت في الأمر للمحال. فاذا طلبت بياناً فاليك البيان:

إن علة العلل في كل هذ الذي ترى من تناقض الانسان، وخلاف نزعات نفسه بعضها لبعض، إنما هي فيما طبع عليه من الأثرة وشدة الكلف بالنفس. فهذه الاثرة هي التي تدخل عليه الفزع لما فنى من سني العمر، وهذه الأثرة هي التي تدخل عليه السرور بما يستقبل من بقية أيام الحياة، وإن شئت قلت بما يقبل على استهلاكه من بقايا الحياة!

أما أن الأثرة هي التي تدخل عليه الجزع لما يتصرم من أيام العمر، فيدنو به خطى إلى مهواه من القبر، فذلك ما لا يحتاج إلى توجيه ولا إلى تعليل، وأما أن هذه الاثرة نفسها هي التي تدخل عليه السرور بما يُقبل على استهلاكه من بقايا أيام العمر.

فذك بأنه ما يثفنى من حياته يوماً إلا أطمعته أياماً، ولا يَطوي من عمره عاماً إلا بسطت بين يديه أعواماً: فالانسان، على إيمانه بالموت، وجزمه بألا مهرب منه، لا يفتأ يدافع الأجل كلما تقدم خطوة إلى الأجل، وهكذان حتى لو قٌدر في الزمان أن يبسط في عمر إنسان الى ألف عام، لوسوس له تأمسل الاثرة بعدُ بالمزيد!

وعلى هذا فمهما يَطْوِ الانسان من سنه، ومهما يفن من عمره، فان ما خلا يكاد يسقطه من مساحة العمر بما يجد له التأميل كل يوم من بسطة الزمان بين يديه! فيعيش كذلك ما يعيش، وأنما يمتح من بحر لجي ما لمائه من نفاد!

وكذلك القول في تطامن الانسان لمستقبل الايام وإستبشاره، في غالب الأحيانن بمقدمها، وقلة احتفاله لما عسى أن يكون قد جُن له من المكاره في ضمائر الغيوب، فان هذه الأثرة نفسها لتأبى إلا أن تطالعه بألوان التأميل، فلا ينتظر له من واردات الليالي إلا كل مشتهى وكل جميل! بل انها لتدخل عليه أحسن العزاء بما سيلقي من الخير والعافية عما كان قد أصابه من الخيبة فيما سلف من الزمان!

فقد بان لك أن الأثرة في الأنسان هي علة العلل، وهي مصدر ما يُحسب عليه من خطأ في الحساب ومن خطل

  • * *

وبعد، فلو قدر أن الله أمكن للمء من طبعه، وهيأ له أن يسوي منه ما شاء على ما يشاء. افتراه يعتمد هذه الخلة فيه، أعني الاثرة، فينتزعها من فطرته انتزاعاً، فلا تعود تخدعه وتختله، ولا تزيغه عن الواقع ولا تضلله؟

لاشك في انه إن فعل سلم تقديره، واستقام له القياس، وأدرك الحقائق على ما هي عليه لا على ما يشهى أن تكون؛ لأن هذه الأثرة كثيراً ما تلبس المنى بالحقائق الواقعة. وقد تستدرج الانسان إلى المطامع البعيدة بما تهيء له من إجراء القياس، في شأن نفسه، على ما يقع من الأمور النادرة في شئون بعض الناس. وبهذا وبهذا تسيء تقديره، وتفسد حكمه على الاشياء أيما إفساد. وأنت بعدُ خبيرٌ بأن السعادة في هذه الدنيا لا تُرجى بخير من الأصابة، والتهدي إلى جوهلا الحقائق، وسلامة التقدير وصحة التدبير. وتلك الطرق الواضحة، لاشك، لأسعاد الحال، وإدراك المبغى من ميسور الآمال.

ولكن. . . . ولكن إذا قدر هذا في الطبيعة، وتهيأ للانسان ففعل، فعلى أية صورة ترى يتمثل له العيش في الدنيا، و [اي شعور يتلقى آثار هذه الحياة؟

إنك مهما تبحث من أصول هذه الأثرة النغروسة في طبيعة الانسان، فانه، ولابد، يألم إذا دخل عليه ما يعدو إلى الالم. وهو، لابد، يلتذ بما يصيب من المتع، إنه ليستريح إلى العافية، وإنه ليفرح بما يصيب من النعم، وإنه ليحزن إذاطرقته داعياتُ الحزن؛ وتلك أدنى مطالب الحس في الحيوان، بَلْهَ الانسان

فلو قدرنا أن الانسان قد استوى في عيشه إلى الحقائق الواقعة، وأجرى حسابه في جميع أسبابه عليها، فهل تراه يعدل ما يصيب في الدنيا من لذة ومتاع، بما يعاني من شدائد وبُرح وأهوال وأوجاع؟. اللهم لا! على انهما لو تكافآ فاضحى خارج الحساب صفراً، لأمسى التشبث بهذه الحياة من غحدى المعابث!

على أنه الأملث، أملُ المعني المبتلي في العافية، وأمل المعافي إن كان في الدنيا معافي، في صعود الجد، وفي إقبال الزمان بما تتطلع النفوس إليه وتهفوله - هو الذي يرجح كفة الربح ويشهى الينا الحياة، ويغرينا بالحرص عليها أيما إغراء!

وما كانت هه المُنى فينا لتقوى وتستمكن، وتستحفل وتستحصد، لولا هذه الأثرة التي تذلل لأوهامنا عصى الىمال، وتسوي لنا في صورة الممكن ما تظمته الطبيعةُ في سلك المجال!

هذه الاثرةُ التي تغبينا عن كثير من الأشياء، حتى إنها لتغيبنا عن أدنى ما يحيط بنا من الأسباب، با إنها لتغيبنا عن أحق الحق الذي لانستطيع مدافعته ولو بالأوهام، أعني الموتَ الذي لا مهرب منه لهارب ولو تعلق من السحاب، بعلائق وأسباب!. نعم إنها لتغبينا عنه لأننا ما ذكرناه أبداً إلا رأينا منا بعيداً، وقد نون منه على رمية حجر! * * *

إذن لقد خرج لنا من كل هذا أن قيام الانسان في الدنيا إنما هو مدين لهذه الأثرة في طبعه، فيها يحرص على الحياة ويتشبث، وبها يرضي عن الحياة ويكلف، وفي سبيلها يحتمل الأوجاع والاسقام، ويسيغ كل من تعتريه به الليالي من أحداث جسام.

فمن فاتته فيها المتع ففي الآمال متع ومناعم، ومن ألح عليه الضيق ففي المني سعة ومغانم. بل إنه ليفرح كلما مضى من عمره عام وأقبل عام، بما توسوس له من المنى وعدله من كواذب الأحلام.

ألا عاشت هذه الاثرة ليعيش في ظلها هذا الانسان. . .

عبد العزيز البشري

5 - بين القاهرة وطوي

طهران الى نيسابور

للدكتور عبد الوهاب عزام

تلقينا يوم قدومنا طهران دعوات كثيرة إلى حفلات رتبتها الحكومة - دعوات باسم رئيس الوزراء ووزراء الداخلية والخارجية والمعارغ، ولجنة الآثار القومية، ونادي (إيران جوان). وكانت دعوة رئيس الوزراء إلى العشاء في قصر كلستان، والعدوات الاخرى إلى الغداء في دار البلدية ونادي إيران. وقد دعت لجنة الآثار إلى شهود التمصيل مرتين في مشرح (مساكن نيكوئي) وإلى شهود لعب الجوكان وألعاب أخرى في ميدان سلطنت آباد

تعشينا الليلة الأولى في القصر الملكي. قصر كلستان، وهو بناء جميل يرى الداخل إليه حديقة فيها أحواض ماء كبيرة، وقد رأينا على حافة الاحواض شموعاً كثيرة. توقدت فيرى للألألها على صفحة الماء رواء جميل

وصعدنا إلى بهو فسيح غشيت جدُره وسقفه بالمرايا وقطع البلور - وهذه زينة شائعة في إيران رأيناها في أمكنة ثيرة - وصفت في جوانب المكان دواليب فيها ذخائر الملوك السالفبن: قطع كبيرة من الاحجار النفسية، وسيوف وخنجر وتروس، وأدوات للزينة، , اباريق وطسوت، كل ذك محلى بالماس والياقوت، والعقيق والفيروز، وفي صدر المكان عرش محلى بالاحجار الثمينة له مسند على صورة ذنب الطاووس ويسمى عرش الطاروس، وكذلك رأينا كتباً قديمة قمة فيها من عجائب الخط والنقش والتجليد آيات من الصناعات الاسلامية

أمتعنا النفس برؤية هذه الأعلاق، ثم تعشينا، وشهدنا بعد العشاء ألعاباً نارية كثيرة

ومن الأبنية الفخمة التي رأيناها في طهران مسجد سباهسلار وهو مسجد كبير فيه مدرسة تسمى الآن مدرسة المعقول والمنقول، ولها مكتبة بها مخطوطات قيمة، ومساجد إيران كلها متشابهة في قيامها على عقود كبيرة وقباب، وفيما يجللها من الكاشاني، والخط الجميل

وزرنا مجلس الشورى الملي (البرلمان) وهو بناء جديد رائع تناولنا الشاي في الطبقة الثانية منه في حجرة غشيت جدرها وسقفها بقطع البلور، يتخللها ضوء النهار أو ضوء الكهرباء ليلاً فاذا حجرة من النور يحار فيها الطرف

وكذلك رأينا مدرسة الصنائع المستظرفة (الفنون الجميلة) وهي مدرسة ناشئة يرجى لها في الاحتفاظ بصنائع إيران مستقبل عظيم

وزرنا مصيف جلالة الشاه قصر سعد آباد. وهو بناء جميل في سفح جبل شمران شمالي طهران، يحلف على منظر رائع من الأشجار الممتدة على السح، وتنحدر إليه المياه متدفقة ن الجبل.

والقصر بناء صغير به بضع حجرات، وقد بنى كله بأحجار ذات ألوان طبيعبة مختلفة جلبت اليه من أرجاء البلاد. ومن حجراته واحدة فيها مكتب جلالة الشاه. وقد لفت الأنظار اليه جمال صنعه، وصورة مدفع صغير فوقه، ومقامه لها سياج من رصاص البنادق. تناولنا الشاي في حديقة نسقت بها الازهار تنسيقاً رائعاً. ثم انصرفنا حين أشفقنا من برد العشى

وشهدنا التمثيل مرتين، مثلت في الليلة الاولى قطع من الشاهنامة. وفي الليلة الثانية قصة سهراب

وشهدنا يوم السبت 14 مهرماه (6 أكتوبر) في ميدان سلطنت آباد على مقربة من المدينة لعب الجوكان (جوكان بازي) وألعاباً رياضية أخرى (نمايشات زورخانه)

والجو كان لعب الكرة والصولجان على متون الخيل. وكان لعباً شائعاً في العالم الاسلامي ولاسيما إيران. ويذكر كثيراً في الشعر الفارسي. واخذت منه في اللغة كنايات كقولهم (كوي برد) أي اخذ الكرة، بمعنى حاز قضب السبق في اللغة العربية

يقول الشيخ سعدي:

(فسحت يدان أردت بيار تابزند مرد سخنكوي كوي) وترجمته: افسح ميدان الارادة ليضرب الرجل المنطيق الرة أي أحسن الاستماع ليستطيع النصيح أن يتكلم. وان بجانبي وقت اللعب ملك الشعراء بهار فقلت: كم قرأت هن (اخذ الكرة) في الشعر الفارسي وما فهمته حقاً إلا الآن

والألعاب الاخرى، وتسمى (نمايشات زورخانه) ضروب مختلفة من اظهر القوة: ضرب الطبل فجاء جماعة يلبسون سراويلات من الجلد وسائر أجسامهم عار؛ ونزلوا الى حفرة مستديرة قريبة الغور. وجلس على مقربة منهم رجل على منصة يدق الطبل وينشد شعراً من الشاهنامة وغيرها، بدأوا يرقصون على هذه الأنغام، ثم لعبوا ألعاباً مختلفة: يدور واحدهم على نفسه مسرعاً باسطاً يديه أو يحمل حلقة من سلسة ثقيلة يرفع بها يديه واحدة بعد الاخرى أو يستلقي على ظهره ثانياً رجليه ويأخذ بكل يد قطعة من احديد مبسوطة لها مقبض في وسطها فيرفع بها يداً بعد أخرى مائلاً على جنبيه، أو يوم ممسكاً بيديه حديديتين ثقيلتين يحركهما حركات مختلفة، وهكذا. وهي ألعاب قديمة تدل على القوة والمران

أمضينا في طهران خمسة أيام. وطهران مدينة حديثة، كانت قرية صغيرة بجانب مدينة الري الكبيرة. ثم بني لها الشاه طهما سب الصفوي سوراً غظيماً. ثم اتخذها آغا محمد خان القاجاري دار ملك، فشرعت تعظم وتتسع

ويو الثلاثاء 40 جمادي الثانية (9 أكتوبر - 17 مهرماه) برحنا طهران مبكرين متوجهين تلقاء مشهد. وبين المدينتين 897 كيلا قطعناها في ثلاثة أيام؛ وان جلالة الشاه قد سار الى مشهد قبلنا ببيومين

اجتزنا جبال فيروز (فيروزكوه) وهي جبال وعرة مديدة تجهد فيها السيارة صاعدة وهابطة ثلاث ساعات، وبلغنا مدينة سمنان بعد الظهر فنزلنا داراً بظاهر البلد في فناء واسع، جلسنا على حافته فرفعنا عن الوجوه وعث السفر واسترحنا وتغذينا، ثم اسنفنا المسير فقطعنا الى دامغان 13 كيلاً، واخترقنا البلد ولم نقف به وسأتكلم عن سمنان ودامغان حين أصف عودتنا من مشهد الى طهران. وقطعنا من دامغان الى شاهر ود 67 كيلا، وبلغنا المدينة بعد الغروب، وقد زين شارعها بساجيد كثيرة، فنزلنا بدار كيرة خارجها، نزل بعضنا في حجراتها وآخرون في خيام ضربت في الحديقة وفرشت فرشاً حسناً، وقد شعرنا بالبرد الشديد في هذا البلد، وأصابني به برد لازمني حتى عدت الى طهران، فنغص على السفر قليلاُ وأفاتني بعض المشاهد. فلها في سفرنا ذكرى لا تنسى

إذا أنت لم تنفع فضر فانمايرجى الفتى كيما ويضر وينفعا

وشاهرود قرية غربي خراسان على مقربة من حدود ولاية استرآباد، طولها 52 درجة وعرضها 36 وارتفاعها 1110 أمتار.

وهي مكان تجاري على الجادة من طهران الى مسهد، ويذهب منها طريقان الى استر آباد. وفيها مجرى ماء عذب، وبساتينها كثيرة

والى الشمال منها بسطام بلد الصوفي الكبير أبي يزيد البسطامي المتوفي سنة 36، وبها قبره؛ وقد تحولت التجارة عنها الى شاهرود في القرن الماضي فتضاءلت حتى صارت قرية صغيرة. وقد بنى ألجايتو خان من السلاطين الايلخانية مسجد أبي يزيد والمسجد الجامع

- حرصت على زيادة أبي يزيد - فقيل لي سنزوره في عودتنا من مشهد، ثم لم يتيسر لنا هذا حينما رجعنا الى شاهرود قافلين الى طهران لضيق الوقت وتعلل سائق السيارة بوعورة الطريق. وأنا أنقل هنا ما كتبه ياقوت وقد زارها قبل سبعة قرون

فتني أن أرى الديار بعينيفلعلى أرى الديار بسمعي

قال ياقوت (وقد رأيت بسطان هذه، هي مدينة كبيرة ذات أسواق، إلا بنيتها مقتصدة ليست من أبنية الاغياء.

وهي في فضاء من الارض، وبالقرب منها جبال عظام مشرفة عليها، ولها نهر كبير جار. ورأيت قبر أبي يزيد البسطامي رحمه الله في وسط البلد في طرف السوق. وهو أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان الزاهد البسطامي)

وبسطام ودامغان كانتا من مدن قومس المعروفة في التاريخ الأسلامي تركنا شاهرود صباحاً ونحن ننشد ما قاله أبو تام حين اجتاز بقومس وهو يؤم عبد الله بن طاهر في نيسابور

يقول في قومس صبحي وقد أخذت

منا السري وخطى المهرية القود

أمطلع الشمي تبغي أن نؤم بنا؟

فقلت كلا ولكن مطلع الجود

ونذكر ما قاله يحيى بن طالب الحنفي:

أقول لأصحابي ونحن بقومس

ونحن على أثباج ساهمة جرد

بعدنا وبيت الله من أرض قرقري

وعن قاع موحوش وزرنا على البعد فصلنا من شاهرود والساعة ثمان إلا ربعاً من صباح الاربعاء ومررنا بعد نصف ساعة بقرية قفر اسمها خير ىباد. قال سائق السيارة هذه قرية هاجت بساكنيها العقارب، حتى تعذر عليهم الاقامة بها فهجروها، ونزلنا بعد ساعة وعشر دقائق في منزل على الطريق اسمه (باغ زيدر)، فشربنا الشاي على جدول عليه أشجار جميلة.

وسلكنا طريقاً موحشة ذات تلال ومحان كثيرة.

قال محدثنا كانت طريقاً مخوفة لا يفارقها خطرالتركمان. ورأينا هناك قلاعاً قديمة مشرفة على الطريق. ونزلنا وقت الظهر في قرية اسمها داوكرزن في خان ضربت فيه خيام بيرة فاسترحنا وتغدينا، ثم ركبنا بعد ساعة ونصف نؤم سبزاوار. وهي كاسمها في إقليم مخضر، كثير البساتين فيه مجرى ماء، وكانت مدينة عامرة، قامت فيها في القرن الثامن الهجري (735 - 772) أمارة عرف أمرؤها باسم السربداريين (سربداران) واوهم خوجه عبد الرزاق أحد رجال السلطان أبي سعيد آخر ملوك الدولة الابلخانية، ودامت الامارة خمسا وثلاثين سنة تداول فيها الامر المضطرب اثنا عشر أميراً حتى قضي عليهم تيمورلنك وسبزوار الآن بلدة صغيرة لا يبدو عليها غني ولا جمال. ودخلنا وثد زين شارعها سموط من مصابيح الكهرباء. نزلنا بها وأوينا إلى خان واسع ذي طبقتين، فرشت حجراته فرشاً حسناً من أجل وفود الفردوسي. وبتنا للتنا مسرورين على ما صحب بعضنا من بردشاهرود

نحن الآن على مائة يل من نيسابور العظيمة. فتنظر في المقال الآتي حديث نيسابور

عبد الوهاب عزام

الذكرى الألفية لابي الطيب احمد المتنبي

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

ما أنت يا احمدٌ في دولة الأدب ... إلا الزعيم وإلا شاعر العرب

وما تنبأت في دين كما زعموا ... بل في الفصاحة سباقاً وفي الأدب

فكان يوحى اليك الشعر عن شَحَطٍ ... وكان يوحي اليك الشعر عن كثب

ما كنتَ للشعر تستوحي قوافيه ... حتلا تجيء من الاعجاز بالعجب

وكنت في قادة الآداب أولهم ... وكنت أولهم في الجحفل اللجب

وكنت في الشعر مثل الماء منطلقاً ... وكنت في الحرب مثل النار في الحطب

كم حكمة لك سارت في الورى مثلاً ... قد قلتها بسان الشاعر الذرب

كم دولة القريض الناهض انقلبت ... لكن عرشك فيها غير منقلب

وقالة الشعر إن نذكر منازلهم ... فانت في الرأس والباقون في الذنب

صاحت بُغاثٌ ببازي الشعر تنقده ... فلم يبال بها البازي ولم يُجب

  • * *

لأنت عند الأسى في الناس أشعرهم ... وانت أشعرهم في سورة الغضب

تصور الشيء في وصف لحادثة ... جتى كأني أرى الموصوف من صقب

بك احتفت بعد ألفٍ قد مضى أممٌ ... في مصر، في الشام، في بغداد، في حلب

إن الذي مات عن شعر هدى أمماً ... لخالدٌ في قلوب الناس والكتب

باللبغي قد قتلوا للشعر منك أبا ... لإاصبح الشعر من يتم بغير أب

لهفي كثير لو ان اللهف ينفعني ... على حياتك إذا أفضت إلى العطب

هي الررية لاتُنسى فجيعتها ... على توالٍ من الأعصار والحقب بالشعر والأدب الأيام طيبةٌ ... فان خلت منهما الأيام لم تطب

الدهر جار على الآداب يزهقها ... وما على الدهر إما جار من عتب

القتل رزء وهذا القتل افجعه ... كأنما بك منه الشر حل وبي

وربما عرف الأسلاف مصرعه ... مما على الارض فيه من دم سَرِب

القبر قبر فلا يجدي الدفين به ... وإن بنته أكف القوم من ذهب

مضى يريد حياة كلها دعةٌ ... وما درى أن غول الموت في الطلب

ولستُ أسأل عنه عند غيلته ... أكان مضطرباً أم غير مضطرب

ما في الرزية للمرزوء مُنتعشٌ ... لايرقص الطير مذبوحاً من الطرب

ليست بدار أمان يُطمأن لها ... دنيا مصائبها ينسلن من حدب

قصيدتي هذه ريحانة عبقت ... جنيتها من لباناتي ومن اربي

نظمتها من شعور لي لأهديها ... إلى أبي الطيب النهاض بالأدب

وما الذي قد نظمنا القولَ فيه سوى ... صدى الذ قاله في سالف الحقب

تحية الرسلة في منهل عامها الثالث

للأستاذ محمود الخفيف

أردت بشعري إجلالها ... فما طرب القلب إلا لها

تبدت لنا في عطاف الجلال ... عروساً تُجررُ أذيالها

تناهت اليها معاني الجمال ... فما أطلع الشرقُ أمثالها

تسير إلى الناس موموقةً ... وقد أكبر الناسُ إقبالها

عليها من الشرق ديباجةٌ ... توشح بالسحر سربالها

وقد عقدت تاجها من سناه ... وصاغت من الحق أحجالها

وفي مقلتيها يشعُ اليقين ... ويشغل ذكر العلي بالها

وما حفلت بصغار الأمور ... وما صحب المينُ أقوالها

ومن ذا رأى قبلها غادةً ... تقابل بالصفح عذالها؟

  • * * تجدد للناس عهد الوفاء ... وقد رافق السعدث آمالها

وتستقبل الفطرَ في عيدها ... فيصبح نور الهدى فالها

أشيع أيامها الحافلات ... وأستعرض اليوم أعمالها

وما عرفتْ قبلُ غير الرشاد ... وقد سجل الدهرُ أفعاله

ألم نر كيف مشت حرةً ... تفك عن الضاد اغلالها؟

وتجري البلاغة رقراقةً ... فترتشف النفس سلسالها

فمن أدب تشتهيه النفوس ... ومن قصص هو أشهى لها

وتزجي القوافي معسولة ... وتسكب في القلب جريالها

تسوق العلوم لأهل النهى ... وتفتح للذهن اقفالها

وترفع ثم صروح الفنون ... وقد كره الناسُ أطلالها

وتحيو إلى مُسْتَكيِنَّ الخدور ... تفتق في الشرق أسدالها

وتخرج ميتدعات العصور ... وتعرض للناس أشكالها

وما الشرق إلا معين الفنون ... وإن أخرج الغرب مثالها

وما هو فن ولكنه ... وميض من الروح أوحى لها

تجدد ماضيه العبقري ... وقد هاج ماضيه بلبالها

وتدعو إلى العزفي أمة ... اطال بنو الغرب إذلالها

تذكرُ بغدادَ عهدَ الرشيد ... وتحصى بجلق أقيامها

وتتلو بمصر حديثَ الخلود ... فتوقظ للجد أشباله

تريك الملاحم في هولها ... وقد توج النصرٌ أبطالها

كأنك تلمح بين السطور ... دخان الحروب وقسطالها

وتسمع فيها صليل السيوف ... وكرَّ الجياد ونصالها

وقد ضاق بالجمع رحب الفضاء ... وزلزت الارض زلزالها

ترى خالداً في غمار الحتوف ... يخوض إلى النصر أهوالها

وتلقي صلاحاً يذل العداة ... وقد كان في الحرب رئبالها

فيملأ نفس ماضي البلاد ... ويذكر قلبك ما نالها وكم جدد الذكرث بأس الشعوب ... إذا أقعد الخوف أعزالها

حمدنا لصاحبها جهده - فقد ألهم الشرق إجلالها

(رسالته) فيه رمز الأخاء ... إذا رسم الفكر تمثالها

لقد وحدت فيه شمل الشعوب ... وإن فرق الدهر أنسالها

وتهدي إلى الرشد في أمة ... أراد أولو العلم إضلالها!

فلابرحت تصطفيها لقلوب ... وتستقل العين إجمالها

محمود الخفيف

الراديو

للأستاذ محمود غنيم

شادٍ ترنم لاطير ولابشر ... ياصاحب اللحن أين العود الوتر؟

إني سمعت لساناً قُد من خشب ... فهل تُرَى بعد هذا ينطق الحجر؟

لو قلتُ بالجن قلتُ الجن أنطقه ... أو قلت بالسحر قلت القوم قد سحروا

صوت (بروما) صداه رن في أذني ... كأنما هو من فكي منحدر

كأنما كل أذنٍ أذن (ساريةٍ) ... وكل ناءٍ ينادي نائياً (عُمَر)

هنا الخطيب الذي خانته جرأته ... يقول ما شاء لا جبن ولا خور

فليس يخشى ضجيج القوم إن طربوا ... وليس يخشى عجيج القوم إن سخروا

لهفي على صولة الحاكي ودولته ... لقد غدا في ربيع العمر يحتضر

وآلة جعلت من حجرتي أفقاً ... يرتد منحشراً عن حده البصر

كأنما الكرةُ الأرضية انحصرت ... في جوفها، والوري في جوفها انحصروا

قد حكمتني في الأصوات لوحتها ... فصرت أختار ما ىتي وما أذر

وكل رقم عليها شوه طرب ... وفيه كنز من الالحان مستتر

قد كنت أغشى بيوت اللهو منتقلاً ... فصار يسعى إلى اللهو والسمر

لها فم ليس يستعصى على لغة ... على الرطانة ولإفصاح مقتدر

عوراء لاتخرج الاصوات من فمها ... إِلا إِذا ما بدا من عينها الشرر

صماء لكن تعي ما لاتعي أذن ... بكماء من فمها الاخبار تنتشر ثرثارة إن أردت القول ثرثرة ... فأن أردت اختصاراً فهو نختصر

في كل يوم نرى لغرب خارقةً ... يكفيه هذا ويكفي المشرق النظر

القوم يبتكرون المعجزات لنا ... ونحن نفتن في إطراءابتكروا

فهل تُرى الشرق قد أدى رسالته ... وهل تُرى أنبياء الغرب قد ظهروا

محمود غنيم

زهرة أقحوان

للأستاذ إغيليا أبي ماضي

كان في صدري سر ... كامن كالأفعوان

أتوقاه وأخشى ... أن يراه من يراني

وإذا لاح أمامي ... عقل الذعر لساني

لم أخفه غير أني ... خفت أبناء الرمان

ولكم فان نطيري ... خاف قبلي بطش فاني

لم يَسَع سري فؤادي ... لم تسع نفسي المعاني

فقصدت الغاب وحدي ... والدجى ملق الجران

ودفنت السر فيه ... ثلما يدفن جان

ورأى الليل قتيلي ... فبكاه وكاني

إن لليل دموعاً ... لاتراها مقلتان

كنت حتى مع ضميري ... أمس في حرب عوان

فانقضى عهد التجافي ... , اتى عهد التداني

خدرت روحي فأمسى - شأن جل الخلق شأني

لا أرى في الخمر معنى ... ولَكَم فيها معاني

فكأني آلة العا ... صر أو إحدى الأواني

لم يعد قلبي كالبر ... ق شديد الخفقان

لم تعد نفسي كالنج ... مة ذات اللمعان بت لا أبكي لمظلو ... م ولا حُر مهان

لا ولا أحفل بالبا ... كي ولو ذا صولجان

صرت كالصخر سواه ... هادم عندي وبان

يا لَلآمالي الغوالي ... يا لأحلامي الحسان!

طوت الغابة شري ... فانطوت معه الأماني

ضاع لما ضاع شيء ... من كياني بل كياني

في صباح مستطير ... كمصباح المهرجان

لبست فيه الروابي ... حلة من ارْجوان

وتبدى الغاب من أو ... راقة في طيلسان

ساقني روح خفي ... نحو ذياك المكان

فاذا بالسر أضحى ... زهرة من أقحوان