مجلة الرسالة/العدد 789/المصادفة والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 789/المصادفة والتاريخ
للأستاذ عباس محمود العقاد
سبق إلى أذهان الكثيرين من النقاد العسكريين، فضلا عن سواد الناس، أن النازيين احكموا خطط الميادين كلها وفرغوا من إعداد وسائلها قبل هجومها على بولونيا، ومنها خطط الميادين الفرنسية والميادين الروسية.
وظل هذا الاعتقاد عالقاً بالأذهان إلى ما بعد هزيمة ألمانيا واحتلال أرضها.
فلما تم هذا الاحتلال كان أول ما اهتم به الحلفاء جمع الأوراق والأسانيد من محفوظات الدولة، ولا سيما المحفوظات السرية في وزارة الدفاع.
فإذا بذلك الظن يتبدد كله بعد الاطلاع على أوراق القيادة العليا، وإذا بالوثائق المتكررة تدل على أن القيادة العليا فوجئت بعزم هتلر على غزو فرنسا، وإذا بهتلر نفسه يستعجل هذا الغزو على غير سابقة من البحث في خططه واحتمالاته، لأنه كان يظن أن عقد الصلح بعد هزيمة بولونيا ومحالفة روسيا مستطاع، ولكنه رأى من الحلفاء إصرارا على المقاومة، وعلم انه استنفد وسائل استعداده فلا مزيد عليها، وكلما مضى شهر على الحرب نقصت قوته وزادت قوة الحلفاء حتى تتوافر لهم أسباب الرجحان المحقق في النهاية.
وفوجئ القادة باستعجاله فعارضوه أد معارضة، وأطلعوه على حقيقة الخطر من هذه المجازفة، ولكنه سلم لهم رأيهم من الوجهة العسكرية بعض التسليم، وتذرع بما لديه من (المعلومات السياسية) لتصويب البدء بالهجوم على فرنسا من هذه الوجهة.
وجاء دور الخطة التي يعتمدونها في النفاذ إلى الأرض الفرنسية من وراء خط (ماجينو) ومن وراء الحدود المغلقة.
لم يكن هتلر قد وضع خطة لهذه الغزوة ولا هو الذي وضعها بعد موافقة القواد إياه، خلافا لما سبق إلى الظن أيضاً بعد نجاح الخطة على غير انتظار.
إنما كانت هذه الخطة من عمل (هدلار) رئيس أركان الحرب، وقد اعتمدها هتلر بعد مراجعتها، وكانت في مبدأ وضعها شبيهة بالخطة التي غزيت بها فرنسا من ناحية بلجيكا في الحرب العالمية الأولى.
ولكن ضابطا شابا علم بهذه الخطة فانتقدها، وقال إنها مكشوفة يسهل تقديرها واتقاءها، ومن الواجب تركيز الهجوم الأكبر على جبهة غير الجبهة البلجيكية الغربية، وهي جبهة (الأردين) لأن الهجوم فيها غير منتظر، والمفاجأة من قبله أقرب إلى النجاح.
اسم هذا الضابط الشاب فون مانشتين، وقد سخط عليه رؤساؤه لاجترائه على انتقادهم، وحسبوا أنه يشق طريقه على رؤوسهم إلى ثقة هتلر وإعجابه، فنفذوا الخطة مضطرين لأنها أصابت هوى من هتلر، وأبعدوا الضابط الشاب عن كل مشاركة في تنفيذها.
ولم يكن هذا التحول المفاجئ أول المصادفات في هذه الغزوة الضخمة ولا آخرها.
فقد اتضح من الأوراق الرسمية أن النازيين لم يعرفوا قبل الحرب غاية امتداد خط (ما جينو) على وجه التحقيق، ولم يعرفوا المواقع التي كانت لا تزال يومئذ في حاجة إلى التعزيز والامتداد، فدلهم عليها في اللحظة الأخيرة، ضابط نمسوي من هواةتصوير المناظر من الطيارات.
كان هذا عمل المصادفة في اعظم نجاح أصابه النازيون في الحرب العالمية الماضية، او كان هذا عمل المصادفة في انهيار دولة كانت محسوبة في عداد العسكرية الأولى.
وليس هذا كذلك آخر المصادفات في الحرب العالمية، فإن هتلر أقدم على غزو روسيا وهو يقدر أنه سيجتاحها قبل نزول الشتاء، ولو أنه استطاع أن يوغل فيها قبل نزوله لكان من الجائز أن يتغير مجرى الحوادث في هذا الميدان.
ولكن مصادفة صغيرة حالت بينه وبين التقدم في الميادين الروسية كما شاء في الموعد المقدور.
لأن اليونان رفضت شروط إيطاليا وهزمت الجيوش الإيطالية فاضطر هتلر إلى إرسال فرق من جيوشه إلى ميدان اليونان، ليستريح من هذه الناحية ويحمى ظهره قبلالإيغال في الأرض الروسية، مخافة أن يدهمه الحلفاء من خلفه وهو مستغرق في قتال الروس.
ولم تنته المصادفات هنا وهي كافية في تحويل مجرى الأمور، بل اتفق في تلك السنة أن أمطار الشتاء نزلت قبل أوانها، وكان نزولها شديدا قارسا على خلاف المعهود في ذلك الموعد من كل سنة
والمصادفات في الحرب العالمية الماضية أكثر من أن تحصى، وحسبنا أن نزيد عليها مصادفة قريبة منا، وهي مصادفة العلمين وانسياق رومل إلى مطاردة الحلفاء قبل استيفاء حاجته من الوقود واضطراره إلى هذه المطاردة بهذه العجلة اغتناما لفرصة سانحة لعلها لا تعود.
وشأن الحروب الكبرى في الماضي كشأن الحرب العالمية في عنصر المصادفة. فلولا أن المدد البروسي وصل إلى (واترلو) قبل وصول المدد الفرنسي لكان من الجائز جدا أن يختلف مصير نابليون في ذلك الميدان.
ذلك عمل المصادفة في أعظم حوادث التاريخ.
ولا بد للمؤرخ من تسجيله وإعطائه كل حقه، لأنه واقع لا يحسن إغفاله، لأنه نافع للعاملين وفيه عزاء لهم وشحذ لرجائهم
فأما أنه نافع فلأنه لازم في كل تقدير صحيح.
وأما أنه يوليهم العزاء والرجاء فلأنهم ينتظرون بقية مأمولة بعد استنفاد الحيل وبذل الجهود.
ومن هنا كان خليقا بمؤرخنا الأديب محمود الخفيف أن يطمئن إلى نصيب صاحبه لنكولن من التنظيم والإعجاب، بعد ما عرف من أثر المصادفة في نجاحه.
فهكذا الشأن في كل حادث عظيم!
وهكذا الشأن في كل رجل عظيم!
وكل مطلع على التاريخ لن يخرج لن يخرج مما كتبناه عن لنكولن بأنه مدين للمصادفة بكل شيء، ولكنه يخرج منه بأن المصادفة كانت شيئا في تاريخ حياته وفي أسباب نجاحه، وكل شيء في تواريخ العظماء وفي أسباب نجاحهم لا غنى عن تسجيله والتنبيه إليه.
قلنا في قصة سارة إن (الدومينة عندنا أتم الألعاب، لأن الشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيهمكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة. أما (الدومينة) ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، وللغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك، أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أ، تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك).
فنحن لا نريد تاريخا من الشطرنج ولا تاريخا من النرد، ولا ننفي المهارة عن لعبة لاعباً يمد يده إلى الورق المجهول فتصادفه الورقة التي يريدها، أو يضع من يده ورقة فتغلق الباب على خصمه، لأن المهارة في هذه (الدومينة) صفة معروفة على الرغم من هذا الحظ الذي يتفق لجميع اللاعبين.
بقيت حكاية لنكولن وأسلافه.
فالأستاذ الخفيف قد ذكر (أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب، فأصبحت ذات حمل وإن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها، فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم).
ولكن ليس المهم أنها زلت!
وإنما المهم لماذا زلت؟!
فقد كانت عبقرية لنكولن مزيجا من خصلتين: إحداهما المرح وحب النكتة، وقد أخذها من أبيه، والأخرى نهمة المعرفة، وقد أخذها من أمه وجدته، وقد كان حب المعرفة نادرا في الرجال فضلا عن النساء بين المغامرين والمغامرات من أهل القارة الأمريكية. فمن العجب الذي لا ينسى في تاريخ الرجل أن جدته أقبلت على التعليم الذي لا يطلبه منها أحد، وقادها هذا الولع بالعلم إلى التعلق بأستاذها، فاستسلمت له وجاءت زلتها من هذا الطريق!
وذلك هو بيت القصيد!
وذلك ما لم يذكره الأستاذ الخفيف!
ولعلها مصادفة من المصادفات أبعدت مرجع الحكاية من يد الأستاذ الخفيف. . . فلن يفلت إذن من حكم المصادفات!!
عباس محمود العقاد