مجلة الرسالة/العدد 789/الفتوة في اللغة وكتب الأدب
مجلة الرسالة/العدد 789/الفتوة في اللغة وكتب الأدب
وحياة الفتيان في الجاهلية وعصور الإسلام
نقص قواميس اللغة العربية وقصورها عن تحديد المعاني
للأستاذ ضياء الدخيلي
في العدد (784) من مجلة الرسالة الغراء انتقد الأستاذ محمد عبد القادر الجمل استشهادي بأبيات المتنبي وابن هرمة لإثبات معنى (فتى) في لغة العرب وهذان الشاعران وإن كانا من المولدين إلا أنهما مما يحتج بهما، وهذه كتب اللغة مفعمة بالاستشهاد بأبيات ابن هرمة في إثبات معاني الألفاظ، وقد قال شارح لديوان الحماسة جمع أبي تمام (إن ابن هرمة آخر الشعراء الذين يحتج بقولهم) وابن هرمة هو إبراهيم بن علي ابن سلمة ابن هرمة بن هذيل جاء في (بلوغ الأرب) أن أبا عبيده كان يقول افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بابن هرمة وإنك لواجد الاستشهاد بشعره في كتب اللغة من ذلك أنهم استشهدوا في مادة سلا السمن إذا طبخه وعالجه فأذاب زبده يقول ابن هرمة
إن لنا صرمة مخيسة ... نشرب ألبانها نسلؤها
وأورد الجوهري في الصحاحفي (هيد) عن أبي عمرو قول ابن هرمة.
حتى استقامت له الأفاق طائعة ... فما يقال له هيد ولا هاد
و (هيد وهاد) زجر للإبل وما رأيك فيمن منحه الجوهري ثقته؟
وإني لم أورد بيته شاهدا باختيار تعمدته، ولكن ذلك جاء ضمن كلام لابن منظور الأفريقي نقلته من كتابه (لسان العرب) فهو الذي احتج بكلام ابن هرمة واستشهد بشعره وفي الأغاني أن ابن هرمة ولد سنة تسعين وأنشد أبا جعفر المنصور في سنة (140) قصيدته التي فيها.
إن الغواني أعرضن مغلبة ... لما رمى هدف الخمسين ميلادي
قال ثم عمر بعدها مدة طويلة وفيه أخبر علي به سليمان النحوي عن ابن الأعرابي انه كان يقول ختم الشعراء بابن هرمة وفيه وفي كتاب (الشعر والشعراء) أن الأصمعي عده في خمسة ختم بهم الشعراء فيرأيه. فها أنت تجد اعتداد علماء اللغة بشعره ولو لم يكن فصيح لما اقبلوا عليه.
وأما المتنبي فالويل لناقده من غضبته، لقد جحدت يا أستاذ آيات المتنبي وكفرت بشريعته الأدبية، فأحذر شواظ غضبة ذلك العبقري الذي تولج بأكاليل الخلود والذي صرخ في العصور
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فآمن من بعبقريته حكيم المعرة وأبصر جلاله على عمايته فأهدى للأدب (معجزة أحمد) ومن قبلنا بأزمان وأزمان قال العباسي في (معاهد التنصيص) لقد كان المتنبي من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل أن الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوما كم لنا من الجموع على وزن فعلى فقال المتنبي في الحال حجلي وظربي. قال الشيخ أبو علي فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة قال العباسيورزق المتنبي في شعره السعادة واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه حتى قيل أنه وجد له ما يزيد على أربعين شرحا وقال فيه أبو القاسم الطبسي:
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان؟
هو في شعره نبي ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
وحكى أن المعتمد بن عباد صاحب قرطبة وأشبيلية، أنشد يوما في مجلسه بيت المتنبي الذي هو من جملة قصيدته المشهورة وهو:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معي المطي ورازمه
وجعل يردد استحسانا له وفي مجلسه بن وهبون الأندلسي فأنشد ارتجالا.
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللُها تفتح اللَها
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها
واللها بالضم العطايا وبالفتح جمع لها الحلق.
وما تقول يا أستاذ في ابن هشام إمام النحاة، لقد استشهد بشعره في كتابه شرح قطر الندى في النحو، واتخذ شاهدا في بحث الندبة قوله في سيف الدولة:
واحر قلباه ممن قلبه شيم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم ولا أكتمك أنه انتقده أيضا وخطأه في بيت له وذلك في بحث (عمل لا النافية عمل ليس) إذ قال وغلط المتنبي في قوله:
إذا الجواد لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً
والشاهد في (لا) في الموضعين فإن المتنبي أعملها عمل ليس مع تعريف اسمها في الموضعين وذلك غلط لاشتراط كون اسمها وخبرها نكرتين، ومع ذلك فإن للمتنبي جلالا لا يهدم في اللغة ونحن لم نستشهد بشعره وشعر ابن هرمة لإثبات المعنى، وإنما جئنا بهما لتأكيد، ما دل عليه شعر طرفة ولا ريب أن ذلك مما لا يؤخذ عليه وفرق بين التأسيس والتأكيد وأنت أيها الأستاذ الناقد المحترم قد أسأت إلى المتنبي عندما أنكرت علينا أن نحتج بروائع أبي الطيب في تفهم لغة العرب الأصيلة المنزهة من تلويث المولدين والأعاجم والمتنبي العربي لو كان حيا لتناولك لهيب انتقامهولسير قصيدة في هجائك ترتعد لهولها الفرائص فكفر عن كفرك بآياته الخالدة وجحودك لعبقريته الفذة، أما سمعت بقصة أبي علي الحاتمي عندما تحرش به وتعرض له إذ قدم بغداد فتاة اعتزازا بأدبه وأبدى من الكبرياء والعظمة ما أسخط عليه البغدادين فانتقده الحاتمي ثم خشي بطشه قال (ثم عمرت ما بيني وبين المتنبي وخفته بالحقيقة أن يشتغل بي دون كل أحد فحداني ذلك إلى كتابة الأبيات من شعره المقابلة لما قال الحكيم أرسطاطاليس وهي الجامعة لجواهر شعره وقدمتها هدية إليه حسن الحال بيني وبينه) وعلى كل فإن أبيات المتنبي يعتمد عليها في تفهم معنى مفردات اللغة، هذا ما أردنا بيانه بالنسبة لما تفضلتم به عن هرمة والمتنبي، أما الأبيات الأخرى فقد استشهد بها كبار علماء اللغة في أهم الموسوعات اللغوية المتداولة، وقد ذكرت كتبهم التي أخذت منها وهم الزمخشري في الأساس وابن منظور في لسان العرب وصاحب تاج العروس، ولا ريب أن ما احتج به هؤلاء الفطاحل يصح لي أن أتبعهم في الاحتجاج به واذكره شاهدا. وإن لم أعرف قائله، وقد غمزتني بأني أوردت تلك الأبيات المجهولة القائل مع ذكر من وثق بها من كبار اللغويين ولا يهمني بعد ذلك أن يكون قائلها جاهليا او مولدا واستثني من ذلك البيت التالي علم آخذه من كتب اللغة وإنما وجدته في (حلبة الكميت) تأليف النواجي شمس الدين محمد بن الحسن إذ أورده ثاني بيتين لم يذكر قائلهما هما:
كن ابن شئت واكتسب أدباً ... يغنيك مضمونه عن النسب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
هذا وليتذكر الناقد المحترم أنني أوردت تلك الأبياتفي نقض قول الأستاذ محمود رزق (وبدهي أن معنى فتى لا يغيد لغة معنى شهم) ومع ذلك يصح لي أن أستند إلى قولي المتنبي وابن هرمة إذا استعملا فتى في معنى شهم فإن لغة عصرهما الأدبية الجارية في الشعر مما يعتد به.
ولإكمال البحث أورد لك نصوصا أدبية أخرى قد لا يأتي جملة منها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وقد استعمل فيها (فتى) في معنى الشهامة، فقد جاء في هامش بلوغ الأدب أن سعد بن مالك بن ثعلبة جد طريفة بن العبد قال:
والحرب لا يبقى لج ... احمها التخيل والمِراحُ
إلا (الفتى) الصبار ... في النجدات والفرس الوقاحُ
الحاجم من الحرب: معظمها وشدة القتل في معاركها، تخيل الرجل تكبر، والمراح الاسم من مرح الرجل إذا اشتد نشاطه وفرحة بطر واختال.
وفي بلوغ الأرب قال عمرو المحاربي من عبد القيس:
سقى جدث (الريان) كل عشية ... من المزن وكاف العشى دلوح
أقام (لفتيان) العشيرة سهوة ... لهم منكح من جريها وصبوح
فيا من رأى مثل الهراوة منكحاً ... إذا بل أعطاف الجياد جروح
(الجدث محركة الفبر والوكاف المطر المنهل والمزن السحاب الواحدة مزنة سحابة، دلوح كثيرة الماء، والسهوة الفرس السهلة، والصبوح بالفتح شرب الغداة) فالشاعر هنا جعل الرابطة بني الفتيان الفروسية والخمر والنساء، وذلك ما اعتبره من الفتوة - طرفة في معلقته قال الألوسي أن الريان هذا الذي رثاه الشاعر كانت له فرس لا تدرك تدعى (هراوة الأعزاب) لأنه تصدق بها على أعزاب قومه فكان العزبمنهم يغزو عليها فإذا استفاد مالا وأهلا دفعها إلى آخرمن قومه فكانوا يتداولونها فضرب مثلا، وهذا ما يريده الشاعر بقوله أنها منكح لهم، وذلك لأنهم يسبون النساء بفضلها كما كانت عادة العرب في الغزو والغارات والسبي.
وروى في بلوغ الأرب عن الأغاني أن كلا بابن أمية هاجر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب (رض) فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة والزبير فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالا الجهاد فسأل عمر (رض) فأعزاه في جيش، وكان أبوه قد كبر وضعف، فلما طالت غيبته قال في قصيدة يصف شوقه وحنين أم كلاب لابنها.
إذا سجعت حمامة بطن وج ... إلى بيضاتها دعواً كلاباً
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك لا تسيغ لها شراباً
فبلغت عمر (رض) فلم يردد كلابا فاهتز أمية وخلط جزعا عليه ثم أتاه يوما وهو في مسجد الرسول (ص) وحوله المهاجرون والأنصار وأنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير علم ... وما تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلة فردي ... كلاباً إذ توجه للعراق
ولم أقض اللبانة من كلاب ... غداة وآذن بالفراق
(فتى الفتيان) في عسر ويسر ... شديد الركن في يوم التلاقي
فهو يرى الفتى ذلك البطل القوى والفارس الذي لا يهاب (واللبانة الحاجة وآذنه بالأمر أعلمه به وقوله سجعت حمامة يعلن وج سجعت الحمامة هدرت وصوتت ووج اسم وادي بالطائف وقوله لا تسبغ الشراب أي لا يسهل مدخل الماء إلى بلعومها ولا تقدر أن تبتلعه لكربها وشجوها قال عبد الله بن يعرب بن معاوية:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الفرات
وروى السيد المرتضى في أماليه لشاعر يبكى على قتلى بدر من المشركين) ولا بدأن يكون جاهليا:
فماذا بالقليب قليب بدر ... من (الفتيان) والشرب الكرام
وماذا بالقُليب قليب بدر ... من الشيزي يكلل بالسنام
قال المرتضى: القليب هي البئر وأهل القليب جماعة قريش منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه والوليد بن عتبة، وقال في المنجد الشرب بالفتح جمع شارب. وفي الأمالي قال بشر بن أبي خازم لابنته عميرة:
فمن يك سائلا عن بيت بشر ... فأن له بجنب الردَم بابا
ثوى في مَلحَد لا بد منه ... كفى بالموت نأياً واغترابا رهين بلى وكل (فتى) سيبلى ... فأذرى الدمع وانحبى انتحابا
وظاهر أنه يريد كل رجل طيب كريم سيناله البلى، وروى المبرد في الكامل قال رجل من الخوارج في قتلي إحدى معارك المهلب والخوارج.
بسلي وسليري مصارع (فتية) ... كرام وجرحى لم توسد خدودها
وقال آخر:
بسلي وسليري مصارع (فتية) ... كرام وعقري من كميت ومن ورد
(قال الأخفش سلي وسليري بفتح السين فيهما موضعان بالأهواز) وقال المبرد ارتحل المهلب والخوارج بسلى وسليرى فنزل منهم فقيل منهم، فقيل ما تنظران بعدوكم وقد هز متموهم بالأمس وكسرتم حدهم؟ الخ وأورد النويري في (نهاية الأرب في فنون الأدب) الأبيات للهذلي.
ألا لله درك من ... فتى قوم إذا رهبوا
قالوا من (فتى) للحرب ... يرقبنا ويرقب؟
فكنت (فتاهم) فيها ... إذا تدعى لها تثب
وفي الأغاني أن أبا زبيد يمدح الوليد بن عقبة:
لعمر أبيك يا ابن أبي مرىٍ ... لغيرك من أباح لها الديارا
أباح لها أبارق ذات نور ... تُرعَّى القف منها والعرارا
بحمد الله ثم (فتى قريش) ... أبي وهب غدت منها والعرارا
أباح لها ولا يحمى عليها ... إذا ما كنتم سنة جزارا
يريد جزارا من الجدب والشدة
فتى طالت يداه إلى المعالي ... وطحطحتا المقطعة القصارا
(الأبرق هو البرقة إذا اتسعت وهي أرض غليظة فيها حجارة ورمل وطين مختلفة، وتنبت إسنادها وظهورها البقل والشجر نباتا كثيرا يكون إلى جنسها الروض أحياناً: والقف م يبس من البقول تناثر حبه وورقه، فالإبل ترعاه وتسمن عليه والعرار نبت أصغر طيب أرائحة. وقيل هو بهار البحر واحدته عرارة: وغزارا جمع غزيرة وهي من الإبل الكثيرة اللين: وطحطح الرجل ماله فوقه، والمقطعة الثياب القصار وهي برود عليها الوشي) وقد قال في الأغاني عن الوليد بن عقبة هذا أنه أخو عثمان بن عفان (رض) لأمه وكن من (فتيان قريش) وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم، وكان فاسقاً ولى لعثمان (رض) الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فشرب الخمر وشهد عليه فحده وعزله وفي الأغاني أن الخطيئة قال يمدح الوليد هذا بعد أن وصله وكان جواداً:
أرى لابن أروى خلتين اصطفاهما ... قتال إذا يلقى العدو نائله
(فتى) يملأ الشيزى ويروى بكفه ... سنان الرديني الأصم وعامله
يؤم العدو حيث كان بجحفل ... يصم السميع جرسه وصواهله
إذا حان منه منزل الليل أوقدت ... لأخراه في أعلى البقاع أوائله
(الشيزى خشب أسود تعمل منه القصاع أي أواني الطعام وبطلق على ما صنع من ذلك، والرديني الرمح نسبة إلى ردينه وهي امرأة رجل اسمه سمهر كان يبيع الرماح بالخط (موضع) فإذا غاب باعت ردينه مكانه وكانا يثقفان الرماح أي يقومانها ويسويانها فالردينه منسوبة إلى ردينه والسمهرية إلى سمهر، والخطية إلى موضعها، وعامل الرمح هو صدره، وقال في المنجد الخطى الرمح المنسوب إلى الخط وهو مرفأ بالبحرين حيث تباع الرماح؛ واليفاع كسحاب التل).
وروى ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الشابشتي أن الحجاج غضب على هند بنت النعمان لكلام خشن وجهته إليه، فأمر بإخراجها من ديرها القريب من الكوفة فأخرجت ومعها ثلاث جوار من أهلها، فقالت إحداهن:
خارجات يسقن من دار هند ... معلنات بذلة وهوان
ليت شعري؟ أأول الحشر هذا ... أم محا الدهر غيرة (الفتيان)
فشد فتى من أهل الكوفة على فرسه فاستنقذهن من رسل الحجاج وتغيب فبلغ الحجاج شعرها وفعل الفتى فقال إن أتانا فهو آمن، وإن ظفرنا به قتلناه فاتاه، فقال له ما حملك على ما نعت؟ قال الغيرة فوصله وخلاه وفي كتاب الحماسة للبحتري قال عمرو بن مالك البجلي:
إذا شئت أن لا يبرح الود دائماً ... كأفضل ما كانت تكون أوائله
فآخ (فتى) حراً كريماً عروقه ... حساما كنصل السيف حلواً شمائله فذاك الذي يمنى لواشيك جده ... ويكفيك من لهو الكواعب باطله
ويحمل ما حملته من ملمة ... ويكفيك طلق الوجه ما أنت سائله
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي