مجلة الرسالة/العدد 787/أدب المقالة
مجلة الرسالة/العدد 787/أدب المقالة
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشر الكاتب المطبوع الدكتور زكي نجيب محمود جملة من مقالاته في مجموعة سماها باسم إحدى هذه المقالات، وهي (جنة العبيط).
ولو شاء الكاتب المطبوع لسماها (جهنم الحصيف)، ولم يكن في تسميته خطأ ولا خروج عن صدق الدلالة، لأن هذه المقالات في جملتها تدل على هذه (الجهنم) التي يعانيها الحصيف في حياته، فيترجم عذابها وآهاتها في أسلوب يلوح للقارئ كأنه غير أسلوب العذاب والآهات، وهو منه في الصميم. وذاك هو أسلوب السخرية والمزاح.
لا جرم جعل الدكتور زكي شرط المقالة أن يكون الأديب ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل. فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثيرا أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة. و ' ن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية أدسن ما كتب، فلن تجده إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح).
وإذا كانت المقالة كذلك فسم أد المقالة جنة العبيط أو جهنم الحصيف، فأنت على صواب.
ولكننا نريد أن نقول إن (المقالة) أنواع وليست بنوع واحد، وإن اسمها في العربية لا يحصرها في هذا الغرض الذي أحب الأستاذ أن يقصرها عليه، ونريد أن نتفاهم على اسم يطابق المقالة كما يعرفها في مقدمة هذه المجموعة على التخصيص.
يقول الأستاذ: إن المقالة يشترط فيها (أن تكون على غير نسق من المنطق: أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية، منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة). . . ويقتبس رأي جونسن الذي يرى: (أنها نزوة عقليه لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام). . . قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شئ).
ومما لا خلاف عليه أن هذا التعريف يصدق على نوع من المقالة يزداد شيوعا بين الغربيين كلما شاعت الصحافة وشاعت معها أساليب الكتابة العاجلة، ولكنه لا يحصر جميع المقالات الأدبية، ولا يصدق على جميع الفصول التي تكتب في حيز المقالة المستقلة.
فالكلمات التي تطلق على المقالة في اللغات الأوربية يوشك أن تفيد كلها معنى المحاولة والمعالجة. فكلمة وكلمة وكلمة بل كلمة وهي تترجم أحيانا بمعنى الدراسة لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تفيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإيجاز، وكلها مستمدة من أساليب معامل النحت والتصوير، يريدون بها الرسم الذي يخطط الصورة قبل تلوينها، أو النموذج الذي يصب التمثال على مثاله، وينقلونها إلى الموضوعات الأدبية على سبيل الاعتذار لا على سبيل الاشتراط. كأنهم يتقون نقد الناقد بهذه التسيمة، فلا يحاسبهم على كتابتهم بحساب العمل المتمم الذي استوفى نصيبه من الإتقان، كما فعل الفيلسوف مونتاني أبو المقالة الأدبية، حين سمى فصوله بالمحاولات، لأنه يراها دون ما ينتظر من مثله من التحقيق والاستيفاء، لا لأنه يحقق بها شرطا يتقيد بها الكاتب ولا يجوز له أن يخرج عنها.
وكلمة وهي أبعد قليلا من هذا الغرض، تفيد معنى الفاصلة أو الجزء، ويقابلها عندنا معنى (الفصل) الذي يستقل بموضوعه، ولا يشترط فيه أن يكون فصلا في كتاب مطول تتممه فصول.
لكن هذه المعاني لا تستوعب أغراض المقالات كلها في الكتابة الأوربية أو في الكتابة العربية.
فمقالات باكون وماكولي وأرنولد وسان بيف ليست كلها من هذا القبيل. بل مقالات (وليام هازليت) نفسه على مساهمته في أدب المقالة كما يعرفها الدكتور زكي نجيب، لا تجري كلها على هذا النسق، وفيها ما هو أشبه بالبحوث والرسائل في حيز صغير.
ولا يخفى أن البحث لا يشترط أن يكون كتابا ضخما أو كتابا صغيرا في عدد الصفحات، فإذا جاز أن يتم البحث في حيز مقالة، فليس ما يمنع انتظامه في عداد المقالات.
لهذا نقول: إننا في حاجة إلى اسم غير اسم المقالة للدلالة على نوع المقالات التي يعينها الأستاذ نجيب.
فهل نسميها العجالة؟ أو نسميها النبذة؟ أو نسميها الأحدوثة؟ أو نسميها الأملية؟ أو نسميها المسامرة؟ إن اسماً من هذه الأسماء أدل عليها من اسم المقالة على إطلاقه، وقد عرفنا الأمالي والمسامرات والنبذ والعجالات في الأدب العربي فرأينا فيها مسحة من أسلوب المقالة كما شاع بين الأوربيين في العصر الحديث.
على أنني لا أدري هل أقرظ (جنة العبيط) أو أنقدها حين أقول إنها تشتمل على مقالات لا تنطبق عليها الصفة التي قيد بها كاتبها موضوع المقالة الأدبية. ومنها مقالة (أعذب الشعر أصدقه)، ومقاله (عن أدب المقالة) بعد المقدمة. . . فإنهما بريئتان من فضيلة التشعث والخلود من النسق المنطقي وضابط التنظيم إن صح أنها فضائل مشروطة جميع المقالات.
إلا أن فيلسوفنا عدو الفلسفة قد استطاع أن يحرص على هذه الفضائل وأن يتجنب المنطق والنظام في بعض المقالات الأخرى فلم يخطئه التوفيق، لأنه قد استطاع مع ذلك أن يقول شيئا تلذ قراءته ويستجيش الذهن إلى التفكير.
قال في مقال (النساء قوامات):
(إذا عشت في أمة هازلة حملك الناس محمل الهزل إن كنت جادا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحا).
ثم قال: (ولست أرى لك حيلة سوى أن تقسم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء أنك فيما تحدثهم به إنما قصدت إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح).
وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إنني أعرف هذه الخصلة جد المعرفة، لأنني كثيرا ما كنت من ضحاياها.
ومن ذاك أنني اقترحت مرة على مسمع من شيوخ عقلاء أن تعمد الحكومة إلى تجربة نافعة في كفاح الشيوعية، وهي إخراج الشيوعيين مرتين في كل يوم (طابورا) واحدا يمر كل يوم في حي من أحياء المدينة، ليرى الناس بأعينهم أي (خلق مقبلة) هذه التي تريد أن تقلب العالم على من فيه.
فضحك الشيوخ العقلاء!
وكتبت ذلك من قبل ومن بعد، فضحك القراء الألباء. مع أنني والله جاد؟؟ أقترح، ولا أزال مصرا على هذا الاقتراح.
أيرى صديقنا الدكتور نجيب أن هذه مقدمة مطمئنة في صدد الكلام على مقترحاته؟ ليتمهل قليلا. . . أقل من لحظة واحدة، لأنني سأقول له على الأثر إنني أحسبه مازحا فيما كتب، واحسبه محققا لشرط المقالة في تمهيده، ولن يثنيني عن هذا الحسبان قسم بباسط الأرض ورافع السماء، ولا إنذار يلوح به في خاتمة أو ابتداء.
فالأستاذ نجيب يقترح أن تسلم النساء زمام الأمور في الأمة مائة سنة ليعلم الناس بعدها أنهن قوامات على الرجال.
ولا حاجة هنا إلى سؤال أكثر من السؤال عمن يعلق الجرس!
هل تتقدم النساء فيستولين على القوامة أيديهن؟ إن استطعن ذلك فلا حاجة إلى اقتراح، وسقمن بالأمر متى استطعته مئات السنين وأبد الآبدين، ولا ينزل عنه بعد مهلة الاقتراح!
أم يعجزون عن ذاك ويكن مع هذا قادرات على القوامة؟
لا منطق هنا ولا نظام، ولكنه مزاح على شرط المقال في تمهيد (جنة العبيط). . . وحق باسط الأرض ورافع السماء!
وإنما أسوق هذا التعقيب لأخلص منه إلى نتيجة لا تجافي المنطق ولا النظام، فأقول للأستاذ نجيب: اكتب على شرطك أو على غير شرطك، ما دمت على الحالين تقول ما يطيب وتقول ما يصيب.
عباس محمود العقاد