انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 779/زعيمان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 779/زعيمان

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1948


للأستاذ عباس محمود العقاد

والزعيمان هما أحمد عرابي المصري، وإبراهام لنكولن الأمريكي، وكلاهما كان صاحب دور حاسم في تاريخ وطنه، وكلاهما كانت سيرته موضوع كتاب من تأليف كاتب واحد، وهو الكاتب المحقق الأستاذ محمود الخفيف.

تقرأ في الصفحات الأولى من كتاب أحمد عرابي: (مهما يكن في الأمر فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة، وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصاً فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة نجم من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية من القضايا الوطنية الكبرى).

ثم تقرأ الكتاب إلى صفحاته الأخيرة فتخرج منه بهذه الصورة التي إرتسمها المؤلف وثبت ألوانها وظلالها بالوقائع والأسانيد وجمع لها من الوثائق ما لا غنى عنه في فهم هذا الزعيم، ولا في فهم مصر الحديثة وعوامل نهضتها ودخائل تاريخها في الجيلين الأخيرين:

ومما لا شك فيه أن زعيم الثورة المصرية في القرن التاسع عشر قد أصاب وأخطأ، وقد نجح وأخفق، وقد أحسن وأساء. ولكنه لم يكن قط خائناً متواطئا مع الإنجليز على مصلحة وطنه كما افترى عليه خصومه، وإنما خانه التوفيق كما خانه بعض أعوانه، وكان تصرف الإنجليز معه بعد إخفاقه تصرفا طبيعياً لا غرابة فيه إذا رجعنا إلى المعهود من سياستهم ومن خططهم في معاملة أمثاله، فهم لم يرفعوا عنه العقوبة القصوى لتواطؤه بينهم وبينه قبل الثورة العرابية أو بعدها، ولكنهم فعلوا ذلك لأنهم لم يعاقبوا أحداً من الزعماء الوطنيين بعقوبة أشد من عقوبته كما رأينا في مصر والهند والسودان وأفريقية الجنوبية وغيرها من البلدان التي كانت لهم يد في محاسبة زعمائها، ولأنهم من الجهة الأخرى كانوا يسوغون احتلالهم لمصر بفساد الأحوال فيها، فلم يكن في وسعهم أن يحكموا بأقصى العقوبة على رجل يثور على فساد الأحوال.

وليس تمحيص التاريخ المصري، ولا تمحيص الزعيم المصري، كل ما يستفاد من قراءة كتاب الأستاذ الخفيف عن فترة الثورة العرابية، فإن أساليب السياسة الأوربية في القر العشرين، وأساليب الاستعمار الأوربي على العموم، بعض ما يستفاد من هذه الكتاب الذي يعد في بابه قليل النظير.

أما سيرة إبراهام لنكولن فهي السيرة الوحيدة التي ظهرت في اللغة العربية لهذا الرجل العظيم، وهي سيرة لم يستوعبها كتاب واحد ولا كتب عدة في اللغة الإنجليزية بين المتكلمين بها أو القادرين على الاطلاع فيها، حيث يعلم الناس كثيراً من تاريخ الولايات المتحدة، فيستغنون عن إقحام هذا التاريخ في سيرة هذا الزعيم أو ذاك.

والواقع أنه لا توجد في التاريخ كله فائدة أو عبرة لا تستخلص من سيرة إبراهام لنكولن في حياته الشخصية أو حياته العمومية سواء تعلقت هذه العبرة بأطوار العظماء أو بأطوار الأمم في نشأتها، أو بأطوار السلم والحرب، أو بعجائب الأخلاق ونقائض الأراء.

فقد يستغني القارئ بسيرة مستوفاة لإبراهام لنكولن عن سير مئات من العظماء ومئات من الحوادث، ولا يفوته شيء ذو بال.

وهنا موضع الصعوبة في استيفاء كتاب عربي لهذه السيرة الجامعة، وقد كانت صعوبة قائمة أمام كل مؤلف تعرض لهذه السيرة من الغربيين فضلا عن الشرقيين.

ويستطيع القارئ أن يعرف لنكولن معرفة صحيحة من كتاب الأستاذ محمود الخفيف، لأنه يعرفه كما كان عظيما غاية في البساطة، بسيطاً غاية في العظمة، أميناً في السياسة، سياسياً في الأمانة، فكها يضحك الثكالى، وحزيناً لا يفارقه حزنه مدى الحياة، كريماً في الصداقة والخصومة: يقف جلسات الوزارة ليستقبل فلاحاً صديقاً من رفقة صباه، ويقهر خصومه كل القهر فلا ينتقم منهم ولا يفكر في إذلالهم، بل يعرف لهم حقهم ويصون عليهم كرامتهم، ويسعى في ذلك كأنه يسعى في مكافأة ولي من أوليائه يدينه بالحب والوفاء.

تلك صفات لهذا الرجل العظيم تعرفها من هذا الكتاب، ولكنك مع هذا لا تحيط بكل شيء ولا تعرف كل شيء، بل تعرف ما لابد منه ويبقى من وراء هذا التعريف الضروري مجال واسع للمزيد.

ومن المباحث التي تجاوزها الكتاب، ما يساعد القارئ كثيراً على تعليل هذه الصورة الصادقة التي تتجلى له من سيرة هذا الزعيم العجيب.

فليس في الكتاب تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه، وليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه، يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.

ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات.

فقد كان لنكولن مديناً بتعليمه لأمه، ولولا هذه العناية من أمه لعاش ومات فلاحاً لا يسمع أحد باسمه في غير بلده الذي يعيش فيه.

وقد كانت هذه العناية وراثة من أعجب الوراثات، لأن أمه كانت من سلالة غير شرعية لفتاة بلغ من رغبتها في العلم - على خلاف عادة النساء والرجال في زمانها، أنها أقبلت على دروسها الخاصة فأحبت أستاذها واستسلمت له وتعرضت للمهانة في سبيله.

وكان لنكولن يعلم هذا ويتحدث به على دأبه من الصدق والصراحة، وكان يعزو إلى هذه السلالة كثيراً من خلائقه وميوله، ولاسيما الميل إلى المعرفة والاستزادة منها ولو لم تكن من لوازم عمله، كاقباله على تعلم الهندسة والفلك ودراسة شكسبير وبعض الآثار اليونانية، وهو محام لا يحتاج إلى هذه المعلومات.

وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح.

وعمل المصادفة في تواريخ العظماء يفتقر إلى توضيح هذه المواقف وتحليل أسبابها وملابساتها، لأننا نرى فيها عمل العظيم وعمل البيئة في توجيه أكبر الحوادث التي اشتغل بها التاريخ.

أما مقتله فلا يفهم على حقيقته من التاريخ الأمريكي إلا إذا عرف القاتل وعرفت دواعيه إلى اقتراف هذه الجريمة، وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية؛ ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق.

والذي يبدو للوهلة الأولى من كتابي الأستاذ الخفيف أنه موفق في تحقيق معلوماته وفي وزن أبطاله.

إلا أنه حين يحتاج إلى الميزان المشترك بين أبطال متعددين، يضطرب في الميزان بعض الاضطراب.

ومن أمثلة ذلك في تاريخ لنكولن أن كلامه عن بطله صحيح، وأن كلامه عن دوجلاس مزاحمه صحيح؛ ولكنه إذا عرض الرجلين على (الميزان المشترك) لم يبلغ من الدقة ما يبلغه من وزن كل منهما على انفراد.

ومن أمثلته في تاريخ أحمد عرابي أنه لم يحرر الميزان كل التحرير عند الحكم على عرابي ومن يمده مثلا، أو عند الحكم على سائر النابهين الذين اشتركوا في حوادث الثورة العرابية.

فقد يكون عشرات من الرجال في الحادث الواحد مختلفين متنابذين، ويكون لكل منهم حقه في الرأي، وحقه من العذر وحقه من التعظيم.

ولكننا نلاحظ هذه الملاحظات العابرة وننتهي منها إلى تقدير لا شك فيه لكتابي المؤلف عن هذين الزعيمين، وذاك أنهما على التحقيق مصدر لا غنى عنه للعمل بكلا الرجلين في اللغة العربية، وإن الصعوبة التي واجهت مؤلفهما الفاضل لا تغمط الجهد الكبير الذي توفر عليه، فاستحق به ثناء الناقد وإقبال القارئ واستزادة المستزيد

عباس محمود العقاد