مجلة الرسالة/العدد 772/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 772/رسالة النقد
(نار ونور)
ديوان شعر للأستاذ محمد مجذوب
شعرنا العربي في العصر الحاضر يعاني أزمة. .
ومعنى ذلك أنن نعاني أزمة شعورية. . . أي أننا لا نستطيع أن نستوحي الحياة لنستمد منها الإلهام، ولا نتعمق النفس الإنسانية نسبر غورها. . . ولا نمد أبصارنا إلى هذا الكون الواسع لنجول بأفكارنا فيه. . أي أننا لا نستطيع أن نخلو إلى أنفسنا ساعة نستوحيها، ولا نعتمد على شخصياتنا لنستقل بأنفسنا، ونؤمن بنظرتنا الذاتية.
نعم! إن الشعر العربي في أزمة محكمة. .
أساسها أننا لا نزال غير متفقين على معنى الشعر. . فكثيرون يحسبون أن كل من سطر أبياتا وقيدها بالوزن وسجنها في (قارورة) القافية شاعرا من شعراء عصرنا المعدودين. .
وشعرنا يتلوى بين فئتين: فئة تغرق في الإغراب، وتولع في الطلاسم والأحاجي، ولا تفرق بين الرموز السحرية، والألفاظ الشعرية، فتأتي بما لا يفهمه الناس ولا يتذوقونه. . ولا يمكن أن ينسب إلى الشعر في أية حال من الأحوال؛ فتختفي العاطفة، وتملأ شعرها بالصور المضطربة المتهالكة التي لا تستند إلى ركن من المعقول. .
وفئة لا تزال تعيش في القرن الرابع الهجري؛ تحسب الشعر تقليد الشعراء القدامى، والسير على مناهجهم، وإحياء المديح والرثاء المتكلف، وتظن الشعر كلمات محنطة، وجملا متراصة، وقوافي مسجونة لا يربطها نظام، ولا تصل بينها وشائج قربى، فترى الناس بالغت، وتعرض عليهم معارض للألفاظ المحنطة التي لا تحمل رصيدا من عاطفة، ولا خفقة من إحساس، ولا ذرة من إدراك. .
ونحن الآن في عصر الذرة، وعصر النور الكهرباء، عصر التيقظ والاندفاع إلى الأمام، وكسر القيود، وإدراك القيم السامية للحياة، والتفكير العميق بالمثل العليا التي يجب أن تكون عليها الإنسانية لترفل في برد السعادة، وتتمتع بثمار الطبيعة، وتنعم بأفياء الجهاد. . . نحن في عصر القومية، عصر الاستقلال الذاتي، فإذا رأينا فئة تلغز فلا نفهم شيئا، وأخرى تعبث ولا تصدر عن شيء، فماذا يكون موقفنا منهما؟ موقفنا منهما أن ننتصر لأمتنا الناهضة الباسلة، ولقوميتنا النامية المتحفزة، ولذاتيتنا التي تريد أن تستقل، وتكون كيانا خاصا بنا. . . نحن أبناء العرب وبني العصر الحاضر. . - فإذا حددنا موقفنا رسمنا خطتنا بازاء من يعتدي على قوميتنا، ويلهو بنا، ويسعى إلى الحط من شعرنا العربي عن قصد أو عن غير قصد.
وديوان (نار ونور) يمثل الفئة الثانية تمثيلا صادقا! ويعبر عن العقلية المحدودة، والنظرة الضيقة، والعاطفة الميتة التي عرف بها شعراء هذه الفئة. فلننظر في هذا الديوان:
الشعر - كما أفهمه - تجربة نفسية صادقة، وتصوير دقيق لهذه التجربة. . فهو نتيجة لاستجابة عاطفية أو فكرية للمؤثرات الخارجية معروضة في تعبير لغوي دقيق. . . فنحن نعيش في هذا العالم محاطين بأشياء كثيرة، أحياء وجمادا. . والحياة التي تحقق بين جوانحنا تدفعنا إلى التأثر بهذه الأشياء إيجابا أو سلبا. فما علينا إلا أن ننقل إحساسنا الصادق إلى القرطاس.
هذا هو الشعر في ابسط تعاريفه ذو ركنين من العاطفة والتعبير الصادق.
فماذا حقق لنا الأستاذ المجذوب من هذين الركنين؟
في الديوان قصائد أملتها المناسبات، وقصائد أخر تعبر عن آراء الشاعر في الناس، ونظرته إلى الحياة.
وأنا أمقت شعر المناسبات لأنه (كالسخرة) الأدبية وكالتجارة التي يلتجأ فيها الشاعر إلى المراوغة والكذب، وإلى الخداع والتضليل، أضف إلى ذلك أن شعر المناسبات يقيد شخصية الشاعر التي يجب أن تظهر واضحة جلية طليقة في كل ما ينظم. . وشعر المناسبات يدفع الشاعر إلى إرضاء الجماهير، وإرضاء الممدوح، وتملق العواطف.
وفي قصائد المناسبات من هذا الديوان تظهر نفسية الشاعر المضطربة: يتكلف المعاني ويسرف في التكلف حتى يخيل إلينا أنه يعبث عبث الصبيان، وينشا من غير عاطفة أحسها، ومن غير شعور اختلج في نفسه. .
وتلك هي النكبة الكبرى في هذا الديوان. فالشاعر يعرف الشعر رصف كلمة جنب أخرى، ووضع بيت تحت بيت، فتراه يرثي رجلا، ويمدح محسنا، ويحتفل بمولد طفل، وينظم برقية تعزية!. . وهذا أعجب ما عرفت في هذا الباب.
فلنفرض على القارئ الكريم شعر المناسبات هذا. . شعر المناسبات الذي دافع عنه الشاعر ولم يحسن الدفاع كما لم يحسن التطبيق. . ولتكن عندنا أناة وصبر لنعرف منزلة هذا الشاعر الكبير. . ولنقرأ مدحه لعلي مظهر باشا رسلان الذي يقول فيه:
آية الفن أن يفيض على الظلم ... سعيرا وفي الجمال فنونا!
فأدرها صهباء في عرس الحق ... ترد الوجود شعرا مبينا
المنى في يديك قاصرة الطر ... ف فمتع بحسنهن (الجفونا)!
لفها النور في وشاح من الخل ... د أراق الدجى عليه الشؤونا (؟)
وذرا فوقه الكواكب حمرا ... ء عليها دم الضحايا سخينا!
أقرأت هذا العبث اللفظي الذي لا طائل وراءه؟. . . أرأيت دم الضحايا (السخين). . ثم اقرأ هذا المدح، وافهم الصفة التي أطلقها الشاعر على ممدوحه:
يا رسول السلام والرحمة الكبر ... ى وترب الجحاجيح المنقذينا
ومنار الهداة للمدلج السا ... ري وغيث السماء للمجدينا
لو بيعت هذه الألقاب في السوق فهل تعرف كم يكون ثمنها؟
إننا نمقت شعر المناسبات لأنه يطلق الألقاب دون استحياء ولا خجل؛ فهذا رسول السلام، وذاك رب الرحمة، وآخر غوث السماء، ورابع إمام الفصيلة والإحسان والجود. . .
ولننتقل إلى الرثاء لنقرأ رثاءه لغازي حيث يقول:
اختنق يا لواء حزنا فإن الشم ... س مخنوقة السنا في الأعالي
اختنق إن في اختناقك معنى ... غصة الدمع في صدور الرجال
اختنق فالمصاب بالبطل المر ... موق (من شرفة النهى والخيال)
اختنق فالشام سكرى وبغدا ... د ثكول والقدس في زلزال!!
ولم يختنق إلا القراء المساكين من هذه المبالغات الغريبة.
إن رثاء الأستاذ المجذوب يذكرنا بشعراء الفترة المظلمة، حين نعوا الفضيلة، وكسفوا الشمس، وخربوا الدنيا، ورثوا الحق والإنصاف والكرم والمثل العليا. . لماذا؟. . لأن صاحبهم مات. . الله يرحمه. . أما سائر شعر المناسبات فلنتركه لمن أصابه السهاد!
ولنأت إلى أشعاره التي تضمنت آراءه في الناس وفي الحياة.
والأستاذ المجذوب في هذا الباب يحاول تقليد الصافي النجفي الشاعر الإنساني الساخر. . وهيهات أن يبلغ ذلك!. . لأن الصافي شاعر دقيق الملاحظة، فياض الإحساس، عاطفي المزاج، إنساني النزعة، يفكر فينفذ إلى الأعماق، ويصدر عن شخصيته القوية التي طبعت شعره بطابع خاص. تلك الشخصية التي كونتها حياة الصافي الخاصة، وظروفه المحيطة به.
أما الأستاذ الشاعر فسخريته مصطنعة، وآراءه غير عميقة؛ فإذا أراد أن يسخر استهزأ بالناس، ولعن القدر والحياة. . كأن السخرية استهزاء بالناس وعبث بالأوضاع.
والهجوم على الناس أصبح (موضة) هذا العصر. . فإذا أراد رجل أن يرفع نفسه، ويسمو متكبرا على حساب الآخرين ذم الناس والدنيا، وكفر بكل شيء. . وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على (مركب نقص). . فالنفس الكبيرة تحترم النفوس وإن كانت صغيرة. وأنا لا أنكر أن في الدنيا شرا كثيرا، وأن أوضاع الناس قائمة على شيء من الظلم والقسوة. . ولكني أود أن لا ننخدع بالمظاهر الكذابة ولا أريد أن نلهو بالفقاقيع. . بل أريد الشاعر أن يختص بالانفعالات النفسية، وبالخلجات القلبية أريد الشعر أن يرتفع إلى أعلى لا ليتحدث عن الصدق والكذب، وعن غرور الناس وضلالهم حديث الحكيم أو الواعظ. . بل أريده تصويرا صادقا للواقع، وعرضا دقيقا للحياة.
والأستاذ المجذوب ينظم باللغة المهلهلة، ولا يفرق بين لغة الشعر ولغة الجرائد اليومية. . والوزن والقافية جنيا عليه جناية كبيرة. . وكثيرا ما يفلت من يديه الوزن فيضطرب. . أما الحشو فكثيرا ما يلجأ إليه الشاعر للمحافظة على الوزن. ومن أمثلة (الزمان النائي، والظلام المبيد، والساحل المنكود). .
والأخطاء اللغوية كثيرة أردت أن أحصيها فمللت. والخلاصة أني تكلمت عن هذا الديوان لأعرض صورة من صور هذه الأزمة الشعرية في أدبنا العربي. . ولا نستطيع أن نظفر في الديوان كله بغير قصيدة واحدة ترتفع إلى منزلة الشعر، وهي (رثاء مستنقع) والحق أنها من أبدع الشعر وأصدقه وأكثره عاطفة وشعورا.
غائب طعمة فرحان