مجلة الرسالة/العدد 767/طرائف من العصر المملوكي
مجلة الرسالة/العدد 767/طرائف من العصر المملوكي
صفى بلاط بني أرتق
للأستاذ محمود رزق سليم
قد نشعر في هذا المقال أننا نبعد عن ديار مصر والشام وهما محور الحديث في العصر المملوكي، وأننا نيمم شطر ديار أخرى هي ديار بني أرتق بماردين وديار بكر. ولكنا مع هذا لا نزال في صميم العصر. فأن الشاعر صفي الدين الحلي من أجل شعرائه، وكان هو وجمال الدين بن نباتة فرسي ميدان فيه، لا يشآهما شاعر آخر من رجال حلبتهما. فإذا تحدثنا عن صفي الدين وعلاقته ببني أرتق فإنما نتحدث عن خاصة بارزة من خواص أحد شعراء العصر، وعن وشيجة أثيرة من وشائجه كان لها أثر كبير في أدبه.
وحقاً ولد صفي الدين بالحلة بالعراق عام 677هـ ويبدو أنها (حلة بابل) التي عناها بقوله بعد انتزاحه عنها وعن قومه فيها إلى ملوك الدولة الأرتقية:
ألا أبلغ - هديت - سماة قومي ... بحلة بابل عند الورود
ألا لا تشغلوا قلباً لبعدي ... فإني كل يوم في مزيد
لأني قد حللت حمى ملوك ... ربوع عبيدهم كهف الطريد
ثم انتزح إلى الملكة الأرتقية وطوف في آفاق الديار الحلبية والشامية والحجازية، ولكنه عرج آنا على مصر وأقام بها ردحاً من الزمن، اتصل من خلاله بسلطانها العظيم الناصر محمد بن قلاوون وكاتب سره النابه علاء الدين تأثر - بلا ريب - بالثقافة المصرية، وتأثر بالمدرسة الأدبية المصرية التي قدست مناهج القاضي الفاضل في الكتابة والشعر، وقدست من بعده مناهج ابن نباتة فيهما، وعنيت اكثر ما عنيت بالتورية والتضمين. غير أن صفي الدين مع هذا كان نسيج وبخاصة في شعره، وافتن في هذا الشعر افتناناً ليس الآن مجال الحديث عنه، سوى أننا نشير إلى أنه سلك البديع فيه، ولج في هذا السلوك حتى لنشعر أن ألفاظ اللغة أصبحت كالعبد رهن يديه يصرفها كيف يشاء. وحتى استطاع أن يكون من مبتكري فن شعري جديد هو فن البديعيات، والبديعيات في الشعر تعادل المقامات في النثر، بلغ بها الفن البديعي أوجه شعراً، كما بلغ بالمقامات أوجه نثراً. وللبديعيات حديث طويل قد نعود إليه في مقال جديد. ويعنينا أن نتحدث عن صلة صفي الدين بب أرتق وأثر هذه الصلة في أدبه.
فمن هم بنو أرتق؟ هم ملوك ماردين وديار بكر منذ أواخر الخامس الهجري. وهم بقايا من الدول التي خلفتها الدولة السلجوقية الناشئة في أواخر القرن الرابع الهجري وامتد ملكها مكن أواسط آسيا إلى غربها، واستولت علة بغداد والعراق في نحو منتصف القرن الخامس الهجري. ثم تشققت فيما بعد وانبثق منها دويلات عدة، كان في جملتها الدولة الأرتقية. وينتسب ملوك هذه الدويلة إلى جدهم أرتق الذي كان أحد قواد السلاجقة. فملك بيت المقدس زمناً ثم ملكها من بعده ابناه؛ فدهمتهما جيوش الدولة الفاطمية عام 489هـ وانتزعت منهما بيت المقدس، فسار إلى الجزيرة الفراتية فملكها بها ديار بكر وقلعة ماردين واستقر بها عام 491هـ. وتتابعت أبناؤهما من بعدهما حتى ملك منهم المنصور وابنه الصالح اللذان عاشا في أوائل القرن الثامن الهجري، وهما اللذان اتصل بهما صفي الدين اتصالاً وثيقاً، وعاش في حاشيتهما زمناً طويلاً.
وكان صفي الدين من قبل هذا يعيش بين قومه في الحلة. ويبدو أن العشائر العربية فيها كانت لا تزال تعلق بها أشياء من الروح القبلية والعصبية الجاهلية. وكان قوم صفي الدين فريقين: فريق أبيه بنو سبنس من طي، وفريق أمه بنو محاسن. وكان بنو محاسن هؤلاء ذوي رياسة وثراء ومنهم (صفي الدين بن محاسن) وأخوه (جلال الدين بن محاسن). نشأ الشاعر بين هؤلاء وهؤلاء فأحس بما لقومه من عراقة في الأصل وفراهة في الحسب فحميت نفسه ووثبها الشباب فنشط شعره في باب الحماسة والفخر وربأ عن التكسب بالشعر. ثم وقعت الوقيعة بين أخواله، وآل أبي الفضل، فغدروا خاله (صفي الدين) وقتلوه بمسجده، فثارت ثائرة قومه وفي مقدمتهم شاعرهم صفي الدين الذي أهاب بخاله (جلال الدين) أن ينتقم. وما زالوا حتى أوقعوا بأعدائهم وأمعنوا فيهم كيداً وإذلالاً، فكان هذا ضراماً جديداً لحماسة الشاعر وفخره.
ويبدو أن الشاعر لم تهدأ ثائرته، ولم تثب أناته، ولم يقنع بهذا الانتقام، فظل يؤلب قومه على أعدائهم ويضري بين الفريقين نار العداوة والبغضاء حتى اصبح شجى في حلوق الأعداء وأصبحوا يتلمسون منه مقتلاً. فملكه الخوف، فآثر الفرار.
فر صفي الدين إلى بني أرتق يتطلب في كنفهم ملجأ يأوى إليه، ودرعاً يستجن بها فأجاروه وأكرموا مستقبله، واستمعوا لحديثه، وأصغوا لشكاته. ورفعوا مكانته ووهبوا له الكثير من النعيم؛ مما الهج لسانه بشكرهم، وأبهج بيانه بذكرهم، ونظم في مديحهم أجود القصيد وأخلده استجابة لداعي الوفاء والولاء.
قال يمدح المنصور وإجارته له.
وأجارني إذا حاولت دمي العدا ... ورأت شفاء صدورها من ورده
من كل مذَّاق تبسم ثغره ... وتوقدت في الصدر جذوة حقده
ولذلك لم يرني بمنظر شاعر ... تبغي قصائده جوائز قصده
بل بامرئ أسدى إليه سماحه ... نعماً فكان المدح غاية جهده
هذه الأبيات من قصيدة له في مدح الملك الصالح بن المنصور تغزل في مطلعها فقال:
دبت عقارب صدغه في خده ... وسعى على الأرداف أرقم جعده
وبدا محياه ففوق لحظه ... نبلا يذود بشوكه عن ورده
ومنها يمدحه:
الصالح الملك الذي صلحت به ... رتب العلاء ولاح طالع سعده
ملك حوى رتب الفخار بسعيه ... والملك إرثاً عن أبيه وجده
متسهل في دست رتبة ملكه ... متعصب من فوق صهوة جرده
فإذا بدا ملأ العيون مهابة ... وإذا سخا ملأ الأكف برفده
كالغيث يولي الناس جوداً بعدما ... بهر العقول ببرقه وبرعده
وهكذا يرى القارئ كيف انساق صفي الدين إلى المديح وإلى التكسب بالشعر وهو الذي يقول: (وكنت عاهدت نفسي ألا أمدح كريماً وإن جل، ولا أهجو لئماً وإن ذل).
ولعل أول مدائحه للملك المنصور فائيته التي يقول فيها:
لاقيتنا ملقى الكريم لضيفه ... وضممتنا ضم الكمي لسيفه
وجعلت ربعك المؤمل كعبة ... هي رحلة لشتائه ولصيفه
يا من اشتبه الصواب أعاره ... رأياً يخلص نقده من زيفه
وإذا أتى أرض العدو فوحشها ... من وفده ونسورها من ضيفه الخ
انضم صفي الدين إلى حاشية الملك المنصور وبنيهن وأصبح من سمارهم وجلسائهم ثم أصبح شاعرهم الأثير، يفيضون عليه بصنوف من النعم، حتى حسده على مكانته أهل ديار بكر. وفي ذلك يقول مخاطباً المنصور:
حسدت أهيل ديار بكر منطقي ... فيها كما حسد الهزار اللقلق
أعيت أكابرها أصاغر لفظها ... ولربما أعيا الرخاخ البيدق
جاءوك بذاك جبلة جبلية ... لكن رأيت الفضل عندك ينفق
قالوا خلقت موفقاً لمديحه ... فأجبتهم أن السعيد موفق
هكذا كانت منزلة صفي الدين عند بني أرتق. وكلما زادوه براً زادهم ذكراً، وكلما جادوه عطاء جادهم بقاء، وكلما آثروه قربا آثرهم حبا، وكان لذلك أثره الكبير في إنتاجه الأدبي؛ إذ نظم عدة من القصائد في مدح المنصور سميت (المنصوريات) وهي من أجود آثاره الأدبية: ونظم تسعاً وعشرين قصيدة مرتبة على حروف الهجاء سميت (الأرتقيات). وكأنما أراد بهذه الأرتقيات أن يطلع ملكية على ضرب من فن النظم الشعري جديد، وعلى منزع من منازع الشعر لم يحوم حوله شاعر من قبل ليدله بذلك على ثبات قدمه في صناعته، وعلو كعبه في حرفته، وعلى امتلاكه ناصية الافتنان إلى حد الافتتان.
والأرتقيات بعدد حروف الهجاء فلكل حرف قصيدة. فواحدة همزية وواحدة بائية وهلم جرا. . . والتزم أن يبدأ كل بيت في القصيدة بحرف رويها، وأن تكون عدة أبياتها تسعة وعشرين. وقد يكون هذا الالتزام كله من عبث الصناعة ومن عبث الفراغ. ولكن إذا علمنا أن الشاعر قل أن سقط في بيت منها، بلغنا به حد العجب وشهدنا بمجادته وإجادته بالرغم من كل هذه القيود التي تعلق بها.
والأرتقيات - وإن كانت مسوقة للمدح - بدت مسرحاً لفنون غير المدح عدة، كالغزل والخمريات، والفخر والشكوى. ومن رقيق أبياتها ما صدر به أرتقيته الكافية حيث قال:
كفي القتال وفكي قيد أسراك ... يكفيك ما فعلت بالناس عيناك
كلت لحاظك مما قد فتكت بنا ... فمن ترى في دم العشاق أفتاك
كفاك ما أنت بالعشاق فاعلة ... لو أنصف الدهر في العشاق عزاك
كملت أوصاف حسن غير ناقصة ... لو أن حسنك مقرون بحسناك
كيف انثنيت إلى الأعداء كاشفة ... غوامض السر لما استنطقوا فاك كتمت سرك حتى قال فيك فمي ... شعراً ولم يدر أن القلب يهواك. الخ
لم يعش صفي الدين في الدولة الأرتقية عيش الشاعر المادح المتكسب، بل تهذيب منزلته، وتوطدت مكانته حتى بلغ مبلغ المشير، وكأنما أصبحت له ضلع في سياسة الدولة وتوجيه ملوكها. تشعرنا بهذا قصائده، فقد رفع إلى المنصور عام 702هـ قصيدة بارعة، وكان المنصور قد أرسل جنوده ليحاصروا أعداءه في (قلعة إربل) ولم يرافقهم في المسير إليها. فحرضه صفي الدين في قصيدته تلك على اللحاق بهم ليشد بوجوده أزرهم ويشحذ همتهم، ويكون خوفاً لأعدائه، ومضطرباً بصفوفهم. ومزج في هذه القصيدة المدح بالنصح، والتحريض الجرئ بالتأدب. واستخلص من الحوادث ما توحي به من حكم وأمثال، مع دقة تمثيل وكثرة تشبيه، وتنقل بالفكرة بين حججها وبراهينها، إغراء بالأخذ بها، ومنها يقول:
أبد سنا وجهك من حجابه ... فالسيف لا يقطع في قرابه
والليث لا يرهب من زئيره ... إذا اغتدى محتجباً بغابه
والنجم لا يهدي السبيل سارياً ... إلا إذا أسفر عن حجابه
والشهد لولا السبيل طعمه ... لما غدا مميزاً عن صابه
إذا بدا نورك لا يصده ... تزاحم الموكب في ارتكابه
ويقول:
قم - غير مأمور - ولكن مثلما ... هز الحسام ساعة اجتذابه
فالعمى لا تعلم إرزام الحيا ... حتى يكون الرعد في سحابه
كم مدرك في يومه بعزمه ... ما لم يكن بالأمس في حسابه
ومنها يغريه بأعدائه ويرسم له طريق معاملتهم:
لا تبذل الحلم لغير شاكر ... فإنه يفضي إلى إعجابه
ويقول:
لا تقبل العذر فإن ربه ... قد أضمر التصحيف في كتابه
فتربة المقلع إثر ذنبه ... وتوبة الغادر مع عقابه
لو أنهم خافوا كفاء ذنبهم ... لم يقدموا يوماً على ارتكابه
ويقول في خاتمتها معتذراً عن التحريض، ومنسلاً إلى الفخر بنفسه على عادته: لم يك تحريضي لكم إساءة ... ولم أحل في القول عن آدابه
ولا يعبث السيف وهو صارم ... هزُّ يد الجاذب في انتدابه
ذكرك مشهور ونظمي سائر ... كلاهما أمعن في اغترابه
ذكر جميل غير أن نظمه ... يزيده حسناً مع اصطحابه
كالدر لا يُظهر حسنَ عقده ... إلا جواز السلك في أثقابه
ولما مات المنصور وولي الملك من بعده ابنه العادل فالصالح، حسنت صلة صفي الدين بالصالح بعد لأي، ومدحه بجملة من الروائع سميت (الصالحيات). وتشعرنا هي الأخرى بسمو مكانته لدى الصالح، بل لتشعرنا أنه كان عنده أقرب وآثر مما كان لدى المنصور حتى سماه صفي الدين بولي نعمته، وتشعرنا أنه كان أكثر دالة عليه، حتى كان في خطابه له أجرأ مما كان في خطابه للمنصور ويشير إلى المنصور في مدحة رفعها إلى الملك الصالح فقال مبيناً سبب ندحه بعد أن كان قد طوى بساط المدح بعد المنصور:
ولقد عهدت إلى عرائس فكرتي ... ألا تزف إلى منعم بعده
لكنك الفرع الذي هو أصله ... شرفاً ومجدك بضعة من مجده
ونجيه في سره ووصيه ... في أمره وصفيه من بعده
ويقول منها:
لله كم قلدتني من ملَّة ... والقطر أعظم أن يحاط بعده
ويقول:
فاستجل دراً أنت لجة بحره ... والبس ثناء أنت ناسج برده
يزداد حسناً كلما كررته ... كالتبر يظهر حسنه في نقده
وقد عاود صفي الدين النصح للصالح كما كان ينصح لأبيه من قبله، ويحرضه على أعدائه ويلحب له الطريق إلى المعاملتهم ويجنبه الحلم والعفو، فيقول من قصيدة:
فيا ملكاً قد أطمع الناس حلمه ... لكثرة ما تهفو فيعفو ويصفح
أعد - غير مأمور - على الضد كيده ... وأذك النار التي بات يقدح
فقد أيقن الأعداء أنك راحم ... فباهوا بأفعال الخنا وتبججوا
ويقول منها: تهن بعيد النحر وانحر به العدى ... فجودك عيد للورى ليس يبرح الخ
عاش صفي الدين ما عاش واتصل بغير بني أرتق من ملوك وأمراء ورؤساء، وافتن في الشعر ما شاء له الافتنان حتى مات عام 750هـ بعد أن ترك أدباً خالداً وتراثاً ماجداً.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
-
من نوادر المخطوطات: