انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 766/هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 766/هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1948



للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي

- 3 -

ولا يفوتني بمناسبة الرد على هذا الدليل بشقيه - أن أوجه النظر بوجه عام إلى أن القرآن الكريم ليس مجرد مجموعة تشريع بل للمشرع الأعظم إلى جانب ذلك - كما قدمنا - أغراض ومقاصد أخرى يبلغها بأسلوبه الخاص مما لا يدخل مثله في نطاق مهمة المشرعين الوضعيين فحرام أن يحاول أحد إخضاع نهج القرآن الفذ لنهج هؤلاء المشرعين القائم على مجرد السرد الجاف لمواد مبوبة. فيقال مثلاً في مقام الاعتراض على المعاني والأغراض الواضحة من آية تعدد الزوجات؛ لماذا عبر بكذا ولم يعبر بعبارة (بسيطة موجزة)، ولماذا يعبر عن مدلول الآية في ضمن آية أخرى لها تعلق بموضوعها، أو لماذا عبر عن هذا المدلول في سياق غرض آخر لا أعلق له بموضوعه وجواباً لعبارة شرطية عن هذا الغرض، ويجعل مثل هذا التحكم في الأسلوب القرآني الرفيع أساساً للتأويل البعيد للنص صرفاً له عن معناه الصريح في حل التعدد؛ هذا المعنى الذي ظاهرته الأحاديث والأخبار وإجماع الأمة قاطبة قولاً وعملاً منذ عصر النبوة حتى الآن

7 - أدلة العنصر الثاني: واستدل معاليه لرأيه في تفسير الآية الثانية بالدليلين الآتيين:

الدليل الأول - أن لفظ العدل وارد في هذه الآية والآية السابقة بحروفه فلا يمكن أن يكون معناه فيهما إلا واحداً على حقيقته الشاملة للماديات ثم المعنويات العاطفية جميعاً، وأن الآيتين متكاملتان أوجبت أولاهما الاقتصار على الواحدة وجوباً لا انفكاك منه.

والرد: أن هذا الدليل إنما يجري فيما يتكرر من (المعرف بأل) من الأسماء، فيكون المراد بالسابق واللاحق واحداً. وأساس هذه القاعدة اللغوية أن المعرف بأل إذا تكرر كانت (أل) فيه للعهد، فيدل على أن المراد بالاسم اللاحق عين المراد بالاسم السابق المعهود. والتعبير عن العدل لم يرد (اسماً) بل ورد (فعلاً) في الآيتين وأبان الشق الثاني من الآية الثانية وهو المبدوء بقوله تعالى (فلا تميلوا) أن المراد بالعدل في الآية الأولى هو العدل المستطاع وبه في الآية الثانية العدل المطلق على ما قررته في مقالي السابق وما سأزيده بيناً فيما يلي:

الدليل الثاني - أنه لو صح أن الشق الثاني من الآية الثانية مبين أن المراد بالعدل الذ جعل شرطاً لجواز التعدد هو العدل المستطاع ليتعارض هذا النص مع قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولكان في ذلك إشكال شديد يضطرب له قلب المسلم وتصطرع فيه ذمة من يريد السير على مقتضى شريعة الله القائمة؛ إذ كيف يأمر سبحانه بالاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل، ومع حكمه بتحقق هذا الخوف حتماً لعدم إمكان العدل يسقط عمل مقتضى هذا الحكم فيجعل الرجل حراً في تعديد الزوجات بشرط مراعاة (العدل المستطاع) بينهن؟ إن هذا يستلزم أن قوله تعالى: (فلا تميلوا) ناسخ لقوله: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولا يجرؤ أحد أن يقول بهذا النسخ.

والحقيقة أن الأمر أيسر من ذلك، فلا تعارض بين النصين ولا حاجة إلى القول بالنسخ، وما الإشكال الذي بدا لمعالي الباشا شديداً إلا نتيجة لأخذه جزء الدعوى في الدليل مما يعتبر مصادرة على المطلوب وهي من مفسدات الدليل كما هو معلوم. فدعوى معاليه - فيما استقر عليه رأيه أخيراً - ذات شقين: الأول أن العدل الوارد في النصين واحد وهو العدل المطلق، والثاني أن العدل المستطاع المعبر عنه بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها) هو مجرد حكم وقتي خاص بالزوجات الموجودات وقت نزول هذه النصوص. ومعاليه أقام دليله على أساس ثبوت الشق الأول مع أن الدعوى بشقيها هي محل النقاش وهو في مقام الاستدلال لها. فقد استدل إذن على الدعوى بالدعوى نفسها وهذا باطل.

8 - أدلة العنصر الثالث. الواقع أن هذا العنصر من رأي معالي الباشا الذي اضطر إلى تكلفه - كما قدمنا في التمهيد - دفعاً لما استشعره من تضارب ظاهر بين تأويله للآيتين وركه تشوب النظم الحكيم نتيجة لهذا التأويل، لم يقمه على سند من دليل عقلي أو نقلي، وإنما افترض افتراضاً حالة محنة وقع فيها المسلمون لما نزلت الآية مقتضية بجملتها - فيما يرى معاليه - تحريم التعدد، وإن المسلمين هلعوا وجأروا هم والنبي إلى الله متململين من هذه المحنة الراهنة، فلطف بهم فبين مراده بأن أنزل قوله (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) لا تنظيماً للمستقبل الأدبي كما يقولون (أي كما يقول أصحاب الرأي المخالف لرأي معاليه) بل تنظيماً للحالة الوقتية الناشئة عن تلك المحنة التي وجدها المسلمون حائفة بهم، وهي حالة الزوجات المتعددات الموجودات فعلاً عند نزول هذا القول. . . ما الدليل على وقوع المسلمين في مثل هذه المحنة وجأرهم هم والنبي بالشكوى، وإن الآية الثانية نزلت للتخفيف من ذلك؟! لا دليل!! وإنما يصرح معاليه بأن هذا الاستنتاج يؤيده فيه قوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) مع أن هذه الآية لا تؤيد استنتاجه في قليل أو كثير، فقد كان دأب المسلمين سؤال النبي واستفتاؤه في كل شأن من شؤونهم بوصفه صاحب الرسالة والتشريع الجديدين، فسألوه عن الخمر والميسر والمحيض والقتال في الشهر الحراموالمواريث والساعة والروح وعن المولى جل وعلا وغير ذلك من مختلف الشؤون المتعلقة بالتشريع والعقائد والأمور الغيبية، كما سألوه عن النساء أيضاً، فلماذا يختص معاليه السؤال عن النساء بالدلالة على وقوع محنة وجأر بالشكوى واستجابة للتخفيف الخ! أم أن ذلك كان قاعدة مطردة في كل ما سألوا النبي عنه في هذه الموضوعات فوجب القول بحدوثه أيضاً في سؤالهم عن النساء؟!

وهل كان شأن المسلمين في الصدر الأول التململ والجأر بالشكوى هم والنبي من كل ما ورد به الشرع مخالفاً لعاداتهم كقاعدة عامة يمكن طردها في جميع في جميع جزئيات التشريع - ومنها ما يختص بتحريم تعدد الزوجات - بغير ما حاجة إلى دليل خاص؛ أم أنهم كانوا وعلى رأسهم النبي عليه السلام على العكس من ذلك يتقبلون كل ما يرد به الشرع عن رضى وإيمان بأن فيه صلاحهمفي الدنيا والآخرة وتطهيرهم من أوضار الجاهلية وأرجاسها؟ ثم لماذا يجعل معاليه هذه الآية دالة على تململ العرب من التعدد خاصة مع أنه ليس سوى أحد الشؤون المتعلقة بالنساء والواردة هذه الآية وما يليها مباشرة من آيات يبين السياق أنها معها نزلت معها للرد على الاستفتاء في هذه الشؤون؟.

وإذا نحن ضربنا صفحاً عن المطالبة بالدليل على وقوع المحنة والشكوى أفلا يحق لنا أن نطالب بالدليل على أن المقصود بقوله تعالى (فلا تميلوا. الآية) ليس سوى حكم وقتي، مع أن الظاهر هذا النص دال بطريق الإشارة على أن إمكان مراعاة العدل المستطاع مجزئ بصفة عامة في حل التعدد المشروع وليس ثمة ما يصرف النص عما يدل عليه بظاهرة؟ (بيان ذلك أن الحكم بتحريم الميل كل الميل مرتب على وصف الرجال بعدم استطاعة العدل ولو حرصوا، فما ورد في عبارة هذا النص هو من قبيل ترتيب الحكم على الوصف بالفاء، ولفظ (النساء) الوارد في الوصف عام مما يجعل النص مفيداً بظاهرة جريان الحكم في جميع النساء، فلا يمكن قصره على الموجودات في عصمة الرجال وقت نزول الآية إلا بمخصص؛ وأين هو المخصص؟). وإذا كان ما استنتجه الباشا مراداً للشارع بهذه الآية فكيف يعبر جل وعلا عن ذلك بعبارة يخالف ظاهرها مراده فيقع الناس بسبب ذلك في لبس تشريعي لم تكن لهم عنه مندوحة القرون الطوال يقارفون فيها المحرم نتيجة لهذا اللبس؟! وكيف لم يدل بأي طريق من طرق الدلالة على حقيقة المراد بهذه العبارة غير المقصود ظاهرها وبخاصة أنه دل على ما هو أهون شأناً لتعلقه بالماضي لا بالحاضر حينذاك وذلك بتعقيبه تحريم نكاح كل من زوجات الأب والأختين باستثناء ما قد سلف؟ ثم أين بيان النبي في ذلك ومهمته عليه السلام أن يبين للناس مل نزل إليهم، وبخاصة في مثل هذا الذي وقعوا فيه في أشد اللبس إذا نحن تمشينا مع رأي الباشا؛ أين الدليل على هذه النقطة التي هي حجر الزاوية في نظرية الباشا الجديدة والتي أراد معاليه أن يجعل منها حلقة اتصال بين تأويليه المتعارضين للآيتين فكانت بحق (الحلقة المفقودة)؟! فليتفضل علينا معالي الباشا بهذا الدليل - إن وجد - فنكون لصنيعه من العارفين، ونسلم له رأيه على طول الخط. إذ ليس رائدنا - علم الله - سوى التزام جانب الحق.

(يتبع)

إبراهيم زكي الدين بدوي

المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات

الأزهر وباريس وفؤاد