مجلة الرسالة/العدد 765/القصص
مجلة الرسالة/العدد 765/القصص
أسطورة الحب الخالد
عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ ماجد فرحان سعيد
كان لأحد الملوك ثلاث بنات. وكان جمال الكبريين رائعاً ساحراً. أما الصغيرة فلقد تفردت بجمال عبقري يعجز البيان عن إيفائه حقه من الوصف الصادق البليغ. وتضوعت فتنة سحرها وجمالها حتى صار الناس يتوافدون عليها من كل صوب وحدب ليتمتعوا بمشاهدتها، ويؤدوا لها فروض الاحترام الذي لا يليق إلا بفينوس - إلهة الحب والجمال.
وغضبت فينوس على هذا التمرد الذي بدا لها من الناس، فهزت رأسها بسخط قائلة: (أمن المعقول أن تقوى هذه المخلوقة البشرية على إهدار كرامتي واغتصابها؟ ولكنني سأجعلها تندم وتتمنى لو لم يكن لها ذاك الجمال الخارق!). ثم دعت ابنها كيوبيد - وهو كما نعلم إله الحب - واستثارته بشكواها قائلة: (كل ما أريده منك يا ولدي العزيز أن تعاقب بسيشي، تلك الحسناء المتمردة؛ أريد أن تنتقم لي منها انتقاماً يطفئ غلتي؛ دعها مثلاً تعلق بحب شخص حقير، يذيقها من صنوف الإهانات أمرها وأقساها!). فتأهب كيوبيد لتنفيذ أوامرها؛ وذهب إلى حديقتها الجميلة، حيث يوجد نبعان، أحدهما عذب، والآخر ملح أجاج. وملأ من كل منهما إناء، وأسرع به إلى مخدع بسيشي، حيث وجدها نائمة؛ وذرف على شفتيها بضع قطرات من الماء الملح؛ ولكن منظرها الفاتن كان قد أثار في قلبه آنذاك كوامن الحب والإشفاق. ثم وخز جانبها بطرف سهمه فاستفاقت مذعورة، وفتحت عينيها لتشاهده، إلا أنها لم تتمكن من رؤيته لأنه كان متخفياً. فاضطرب حركاتها حتى جرح نفسه بطرف سهمه. ولكنه لم يعبأ بجرحه، وكل ما كان يبتغيه أن يخفف من الضر الذي ألحقه بها؛ ولذلك عاد فذرف على جرحها بضع قطرات من البلسم الصافي.
ولم تجن بسيشي نفعاً من سحرها وجمالها بعد أن حل عليها غضب فينوس، لأن أحداً لم يتقدم إليها طالباً الزواج، مع أن أختيها، وهما لا تضاهيانها سحراً وجمالاً تزوجتا منذ وقت طويل. وجلست الحسناء وحيدة في مخدعها، وسئمت هذه الوحدة حتى وهذا الجمال، هذ الجمال الذي نالت به أكبر المدح والإطراء ولكنه عجز عن إيقاظ الحب في القلوب.
وخشي أبواها أن يكونا قد أثارا سخط الآلهة، ولذلك استشارا الكهان في أمرها؛ فعلما إذ ذاك بأنه كتب لها أن لا يكون زوجها من البشر، وإنما هو وحش مروع ينتظرها على قمة جبل قريب. فملأت هذه الكلمات قلبيهما رعباً وحزناً؛ ولكن بسيشي قالت لهما: - (ولم تنتحبان علي الآن؟ لقد كان أجدر بكما لو حزنتما عندما كان الناس ينثرون علي باقات الثناء الذي لا أستحقه، حتى بلغ بهم إجلالي أن دعوني فينوس! إنني أقدر الآن بأنني ضحية ذلك اللقب؛ هيا إذاً أوصلاني إلى الجبل الذي سألقى عليه حظي العازب!).
وتمت جميع الترتيبات؛ وأخذت الحسناء مكانها في الموكب المتوجه إلى الجبل، ما بين نحيب الناس وعويلهم. وهناك تركوها وحيدة، وعادوا إلى بيوتهم.
وقفت الحسناء على حافة الجبل بقلب لاهث من شدة الخوف، وعينين محمرتين من كثرة الدموع. وإذا بالريح الغريبة اللطيفة تأتي وتحملها إلى واد مزهر. وهناك ألقت بنفسها على الضفة الخضراء واستسلمت للنومز ولما استفاقت نظرت حولها، وإذا بها ترى حديقة غناء ضفرت على حفافي ممراتها أكاليل من الخضرة الزاهية؛ فدخلتها، ودهشت إذ رأت في وسطها نبعاً تفيض منه مياه بلورية صافية، وبالقرب من النبع قصراً بهياً، أعمدته ذهبية لامعة، وجدرانه مرصعة بالرسوم والنقوش البديعة التي ترتاح لها العين، وتنعم القلب بالبهجة والسرور.
وعندما توغلت في الحديقة، رأت غرفاً وقاعات فخمة، تغص بالكنوز الثمينة وبثمرات الفن الرفيع والطبيعة الخلابة. وإنها لكذلك، إذ بها تسمع صوتاً يخاطبها قائلاً: (أيتها الفتاة الفاضلة! إن كل ما ترينه ملك لك! وإنما الأصوات التي تسمعينها أصوات جواريك اللواتي ينتظرن تنفيذ ما تأمرين به. فإذا ما أردت الاستراحة فهناك على فراشك الوثير؛ أما العشاء، فإنه ينتظرك في الخميلة المجاورة).
وفعلت الحسناء كما أشير عليها؛ فبعد أن استراحت جلست في الخميلة، حيث وجدت مائدة معدة، عليها من المأكولات ألذها، ومن الخمور أجودها. كما وإنها شنفت أذنيها لسماع الألحان العذبة التي كانت تعزفها فرقة موسيقية خفية.
ولكنها حتى ذلك الوقت لم تكن قد رأت زوجها الموعود، لأنه كان يأتيها في ساعات الظلام، ويغادرها قبل انبثاق الفجر. ولطالما تضرعت إليه أن يمكث عندها لتتمكن من مشاهدته؛ ولكنه لم يكن ليوافق أبداً، بل كان يقول لها: - (ولم ترغبين في مشاهدتي؟ هل تشكين في حبي لك؟ إنني أخشى إن رأيتني إما أن تخافي مني، أو أن يستحيل حبك لي عبادة حارة؛ وكل ما أرجوه أن تقابليني بمثل حبي!).
وكأن هذا الجدال قد هدأها مدة من الزمن، لاسيما وقد استمرأت تلك السعادة التي رتعت فيها. ولكنها عندما كانت تخلو بنفسها، كانت تحن إلى أبويها وأختيها. وفي إحدى الليالي طلبت من زوجها أن يسمح لأختيها بزيارتها. فمنحها ذلك الطلب عن طيبة خاطر.
وأمرت الحسناء الريح الغربية بإحضارهما. فأقبلتا في الحال، وعانقاها وتبادلن القبل مراراً. ثم دعتهما لدخول مخدعها والقصر الذهبي، وأرتهما هناك كنوزها العديدة. فلما شاهدتا ما هي عليه من النعمة ورخاء البال، بدأ الحسد ينخر في صدريهما. ولما استدرجتاهما إلى الاعتراف بأنها حتى ذلك الحين لم تكن قد رأت زوجها، بأتا تغويانها على خيانته، وتوغران صدرها بشتى أنواع الشكوك؛ وفي ذات مرة قالتا لها: - (أنسيت ما تنبأ به الكهان من أن زوجك ليس إنساناً؟ إنه وحش مريع يغذيك الآن بكل لذيذ ليأكلك في النهاية لقمة سائغة! فاعمل فاعمل يا أختاه بنصيحتنا؛ جهزي نفسك في الحال بمصباح وسكين حادة؛ وعندما يكون زوجك غارقاً في نومه، أشعلي المصباح، واقتربي منه، وقفي بنفسك على حقيقة حاله. فإذا تأكدت من صحة ما نقول، فلا تتواني دقيقة في قطع رأسه لتتخلصي منه!)
وقاومت بسيشي هذا الإغراء في بادئ الأمر؛ غير إنها استسلمت له في النهاية. وما إن أضاءت المصباح واقتربت من زوجها، حتى شاهدت بدلاً من الوحش المخيف الذي حذرت منه، إلهاً جميلاً ساحراً، تتدلى على رقبته العاجية ووجنتيه الموردتين، ضفائر ذهبية من الشعر، وينتصب على كتفيه جناحان نديان أبيضان، عليهما ريش لامع كنوار الربيع. وعندما أدنت المصباح من وجهه، سقطت على كتفه قطرة من الزيت الساخن فاستفاق إذ ذاك مذعوراً، وحدق فيها برهة، ثم أطلق جناحيه للريح؛ وطار من النافذة دون أن يفوه بكلمة واحدة. وعبثاً حاولت بسيشي أن تلحق به؛ فلقد سقطت من النافذة على الأرض. وعندما رآها كيوبيد تتمرغ بالتراب، توقف عن طيرانه ورجع إليها ثم قال: - (أكذا تقابلين حبي أيتها البلهاء؟ أهكذا، بعد أن عصيت أوامر والدتي واتخذتك زوجة لي، تذعنين لإغواء أختيك وتحاولين قتلي؟ ولكن ارجعي إليهما وافعلي ما تشائين! واذكري أنني لن ألحق بك أي قصاص سوى أن أهجرك إلى الأبد؛ إذ كيف يمكن للحب أن يأوي ما بين الشكوك؟!) وما كاد ينهي كلامه حتى طار بعيداً وتركها مستلقية على الأرض تملأ المكان بعويلها ونحيبها.
واستعادت الحسناء بعض رشدها ونظرت حولها، وإذا بالقصر والجنان قد تلاشت واختفت؛ ووجدت نفسها على مقربة من مسكن أختيها. فقصدته، وقصت عليهما ما حدث. فتظاهرتا بالحزن والإشفاق، ولكنهما قد ابتهجتا داخلياً، وظنتا بأنه من الممكن أن يختار كيوبيد إحداهما بدلاً منها. غير أنهما لم تجهرا بتلك الخطة، بل صعدتا في الصباح التالي إلى الجبل، ونادتا على الريح الغربية لكي تحملهما إلى كيوبيد. فلما قفزتا في الهواء، سقطتا في الهواية وقضي على حياتيهما.
أما بسيشي، فقد أخذت تهيم على وجهها ليل نهار، باحثة عن زوجها. فوقعت عيناها على رأس جبل شامخ، يطل من فوق حاجبه هيكل بهي، فتنهدت وقالت في نفسها: - (أليس ممكناً أن يكون حبيبي هناك؟!). وأسرعت صوب قمته. وما كادت تدخله حتى رأت فيه أكواماً كبيرة من الحنطة والشعير، نثرت حولها المناجل وآلات الحصاد. وأرادت أن تسترضي فينوس، ولذا عمدت إلى فصل هذه الأشياء بعضها عن بعض. فلما رأتها سيريس - إلهة الحصاد - منهمكة في العمل، خاطبتها قائة: (مسكينة أيتها الفتاة! ولكن لا تكتئبي، فسأرشدك إلى طريقة تهدئين بها غضب فينوس , اذهبي إليها، وأظهري لها كل خضوع واحترام، تنالي عفوها، وتسترجعي زوجك المفقود) فوافقت بسيشي على هذا، وتوجهت إلى هيكل فينوس. فلما رأتها الإلهة، لمعت عيناها ببارق من الغضب، وقالت: - (أتذكرين الآن فقط بأنني سيدتك، أم جئت ههنا لتزوري زوجك المريض؟ سأختبرك الآن لأرى ما إذا كنت صالحة لأن تكوني زوجة له!)، وأمرت أن تتبعها إلى مخازن الهيكل حيث توجد كميات كبيرة من القمح والشعير والفول والذرة، وقالت لها: - (أريني اجتهادك الآن في فصل هذه الحبوب، بعضها عن بعض، على أن تنتهي من ذلك قبل حلول المساء!). فلما أجالت بسيشي النظر فيما حولها، وقفت بدهشة ويأس وذهول أمام تلك الكومة الكبيرة التي تحتاج إلى عمل مضن طويل. وأثار كيوبيد الشفقة في نفوس جيش من النمل؛ وإذ ذاك توجه نحو الكومة حيث فصل كل نوع على جانب؛ ثم اختفى كيوبيد ومن معه في أقل من طرفة عين.
وعند حلول الغسق، جاءت فينوس تميس بقدها اللطيف، وتتيه بتاجها المحلى بالزهور. ولما رأت العمل قد تم، لم تصدق أن بسيشي هي التي أنجزته. ولذا عزمت على اختبارها مرة ثانية. فدعتها في الصباح التالي وقالت لها: (أترين تلك الحديقة الممتدة على حفافي النهر؟ هناك ستجدين قطيعاً من الخراف، عليها أصواف ذهبية لامعة. اذهبي في الحال وأحضري إلي عينات مختلفة منها)
وذهبت بسيشي إلى ضفة النهر عازمة على تنفيذ ما أمرت به ولكن إله النهر أوحى إلى الأقصاب النابتة على ضفتيه بغمغمات موزونة انسابت تخاطبها قائلة: - لا تحاولي أيتها الحسناء أن تقتربي الآن من النهر لئلا يغمرك فيضانه العظيم! ولا تقربي أيضاً من الكباش لئلا تقتلك بقرونها الطويلة! ولكن انتظري إلى ما بعد الظهر، فيستريح القطيع تحت ظلال الأشجار وتستطيعي آنذاك أن تجوزي بأمان، فتجدي قطع الصوف الذهبي عالقة على الأشواك وعلى جذوع الأشجار؛ وما عليك آنئذ إلا أن تجمعيها وتعودي بها إلى سيدتك!) فعملت بسيشي كما أشير عليها، ورجعت ويداها مملوءتان صوفاً لامعاً براقاً. وللمرة الثانية لم تحظ بسيشي برضى سيدتها التي أرادت أن تختبرها في ما ستؤول إليه تجربتها الثالثة والأخيرة؛ فقالت لها: - (خذي هذا الصندوق واذهبي به إلى بروزرباين - مليكة عالم الأموات - وقولي لها: إن سيدتي فينوس ترجوك بأن تضعي لها في هذا الصندوق شيئاً من جمالك، كيما تستعيد بواسطته ما فقدته من حسنها وروائها في أثناء اعتنائها بابنها المريض. . .
ولكن حذار من أن تتأخري عن الرجوع به قبل حلول المساء!). فظنت بسيشي أن هذا واسطة للقضاء عليها، إذ كيف تستطيع الوصول إلى الظلال الجهنمية مشياً على الأقدام؟ ولذا صعدت إلى برج عال لتقذف بنفسها عنه، فتهبط إلى الظلال الخانقة في أقصر وقت. ولكن صوتاً من البرج صاح بها قائلاً: (ولم تعمدين أيتها الحسناء إلى الانتحار بهذه الطريقة المريعة؟) ثم دلها الصوت على طريقة تستطيع بها إلى العوالم الجهنمية بأمان؛ ولكنه حذرها من فتح الصندوق. فعملت بموجب إشارته ووصلت بسلام إلى قصر الإلهة بروزرباين حيث ملئ لها الصندوق بأثمن نوع من الجمال، ثم أغلق وأعيدإليها؛ فرجعت به قانعة مسرورة؛ ولكن ألحت عليها في الطريق رغبة حافزة في فتحه، لتأخذ شيئاً من الجمال الإلهي، فتطلي به وجنتيها، وتظهر أمام حبيبها بمظهر فاتن أنيق، وفتحته؛ وبلغت بها الدهشة أقصاها عندما لم تجد فيه شيئاً من الجمال قط، وإنما انبعث منه نوم جهنمي استولى عليها وأسقطها في الحال على قارعة الطريق.
أما كيوبيد فقد برح به الشوق للقاء حبيبته؛ فذهب إليها، وجمع النوم عن جسمها، وأعاده إلى الصندوق، وأيقظها بوخزة خفيفة من طرف سهمه، ثم قال: (أهكذا يعود بك حب الاستطلاع فيغويك مرة ثانية ويكاد يودي بك إلى الهلاك؟! ولكن ما عليك من بأس؛ أتمي الآن فقط ما فرضته عليك والدتي، وستنسى الماضي ثم طار كالبرق وحلق في أجواء الفضاء، وطلب من المشتري - إله السماء العظيم وملك الآلهة جميعاً - أن يتوسط لدى أمه لتوافق على زواجه من بسيشي وتباركه. ففعل المشتري كذلك وعندما نال موافقتها، أمر بإحضار بسيشي إلى القصر السماوي حيث قدم لها شراب الآلهة ثم قال: (تشربين منه فتصبحين خالدة وسيدوم زواجكما إلى الأبد!
وهكذا استطاعت بسيشي بعد أن طهرتها المصائب والتجارب من أدران الخطيئة أن تتحد مع كيوبيد، وأن تنعم معه بسعادة الحب الخالد.
ماجد فرحان سعيد