انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 764/قصة فتاة. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 764/قصة فتاة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 02 - 1948


يوم الاثنين 7 مايو 1945:

عرفت من بين الرسائل الكثيرة التي ألقيت إليّ صباح اليوم رسالة الآنسة (س) من غلافها الوردي الأنيق، فوضعتها ناحية ريثما أفرغ من بريد الرسالة، ثم عدت إليها فشققت كمامها عن أربعة أسطر تقول فيها: إنها حضرت القاهرة منذ يومين، وإنها ترجو أن تراني في الساعة الخامسة من مساء الخميس المقبل بمحْلى (جروبي) الجديد، وإنها ستضع مجلة (الرسالة) على المائدة التي ستجلس إليها، لتكون دليلاً عليها؛ فإننا تعارفنا منذ عام بالكتابة نفساً لنفس، ولكننا لم نتعارف إلى اليوم باللقاء وجهاً لوجه

كيف أفلتت هذه الفتاة الغريرة من ربقة التقاليد الصعيدية المحكمة فتركت عزبتها إلى المدينة، وبيتها إلى الفندق، وحديقتها إلى جروبي؟ هل أقدمت على ما كانت تسوله له نفسها الطموح من الانعتاق والانطلاق، فخرجت مما كانت تسميه (قبراً) لتدخل فيما كانت تسميه (دنيا)؟ سؤالان ألقيتهما على نفسي ورسالتها عالقة بيدي، وحياتها ماثلة في ذهني، فلم تدر نفسي ماذا تجيب. قد أستطيع بما نمت عليه رسائلها من أخبارها وأسرارها أن أخمن بعض الأسباب التي أقدمتها إلى القاهرة، ولكن بين التخمين واليقين ثلاثة أيام، فلأنتظر حتى ألقاها

ألقى إليّ البريد أولى رسائلها من الصعيد الأوسط في أوائل إبريل من سنة 1944 حين سرى الروح الإلهي في همود الطبيعة فأيقظ الراقد وأنعش الخامد وأعلن المستكن. كانت في تلك الرسالة متهينة متحفظة، كالغريب الطارئ يقرع الباب بلطف، ويدخل البيت في استحياء، حتى إذا وجد من أهل الدار بشاشة القبول وكرم المثوى، علّق العصا وخلع المعطف. وما كان لكاتب نصب نفسه للتوجيه والإرشاد أن يذود عن بابه المفتوح فتاة تلتمس نفَساً من كربها وسندها لضعفها وسبيلاً لهداها

لم تقل في رسالتها القصيرة أكثر من أنها آنسة في الخامسة عشرة فقدت في السن الباكرة أبويها فكفلها أخوها. وأخوها على طباع أهل الصعيد شديد الحفاظ صارم النخوة لم يسمح لها بالمضي إلى غاية التعليم الثانوي فضمها إليه في العزبة. والعزبة حديقة تتوسطها دار يسكنها الأخ وزوجه وابناه الصغيران، ثم الدوار وبيوت الفلاحين يفصلها عن حمى المالك طريق واسع وسور مرتفع، ثم حقول مترامية الأطراف يغشاها السكون وتلفّها الوحشة. وزوجة أخيها امرأة ضيقة الفكر واسعة العمل حيية الطبع لا تحب الاجتماع ولا تحسن الحديث. فهي لا تمتلك في هذه البيئة وهذه الطبيعة إلا أن تزجِّي فراغها الثقيل بقراءة قصة أو كتابة رسالة أو رسم صورة أو نسج قطعة. ولكن وجهة آمالها وحديث أحلامها أن تكون يوماً ما أديبة. وقد قرأت لي (آلام فرتر) و (رفائيل) فراقها الأسلوب وسحرها الروح. وهي تطمح أن تبلغ من الفن الكتابي مبلغاً يهيئها أن تعبر عن نفسها هذا التعبير، وأن تكشف عن روحها هذا الكشف؛ وتطلب مني في ابتهال وضراعة أن أجيب عما ترسل إليّ من رسائل، فأوجهها إلى ما تقرأ، وأحاسبها على ما تكتب، وأناقشها فيما تفكر، وأملأ يومها الفارغ الطويل بتحرير الكتب إليّ، وانتظار الأجوبة مني؛ وذلك فيما تزعم جزء من رسالة الأديب الذي اصطفاه الله ليجمّل بفنه قبح الحياة، ويخفف بعلمه شقاء الناس.

إن الرد على ما يأتيك من الرسائل واجب، وهو بالطبع على رسائل السيدات أوجب؛ ولكن هناك - ولا أكْذِبك - دافعاً أقوى من الواجب، هو تلك اللذة الطبيعية التي يجدها الرجل في الحديث إلى المرأة أو عن المرأة. لذلك لم أكد أقضي حاجة النفس من جمال تلك الرسالة، بإجالة الفكر في الأسلوب، وإطالة النظر في الخط، حتى كتبت الجواب عنها إلى الفتاة بأسلوب أب يحاول أن يكون لابنته كما تريد، ويجتهد في أن يفتح أمامها باب الأمل من جديد.

للقصة بقايا

أحمد حسن الزيات