انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 763/طرائف من العصر المملوكي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 763/طرائف من العصر المملوكي:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1948



ابن حجر الأديب

للأستاذ محمود رزق سليم

أعني بابن حجر هنا، شهاب الدين أبا الفضل أحمد العسقلاني المصري. المنسوب إلى عسقلان من بلاد الشام، والمولود بمصر - الفسطاط - والذي عاش بين سنتي 773هـ، 852هـ. فإن هناك ابن حجر آخر، وهو الهيثمي من علماء العصر العثماني.

أما ابن حجر العسقلاني فهو أشهر من أن يشار إليه، وأجل من أن تكتب عنه عجالة، وأحرى أن تؤلف فيه رسالة مسهبة فياضة تنم عن علمه وتحدث عن فضله. فإن آفاق علمه واسعة، وفجاج فضله رحيبة. وهو في الجبهة الأولى بين علماء العصر المملوكي. وفي الصف الأول بين نابغيه، وممن نبه العصر بنباهته، وسما بسمو مكانته.

أخذ العم على أئمة زمانه كالزين العراقي، والسراج البلقيني، وابن الملقن والإيناسي، والعز بن جماعة، والمجد الفيروزابادي، والعماري والبدر البشتيكي - وطوف في آفاق مصر، وربوع الشام، وجال في نواحي حلب، وحج إلى بلاد الحجاز، وزار اليمن، فأفاده التجوال علماً غزيراً وأدباً جماً وخبرة صائبة ومعرفة سديدة.

وفره في العلم حتى تصدر للإفتاء وقعد للتدريس وعكف على التأليف. ووكلت إليه مناصب عدة من مناصب الدولة من بينها قضاء الشافعية، فنبه فيها شأنه بكفايته ومهابته. فعظم في عيون أهل جيله وعلى رأسهم السلطان الملك المؤيد المشهور، الذي كان ابن حجر في مقدمة هيئة التدريس فيه.

لم يقتصر بروز ابن حجر على مادة علمية واحدة بل تجاوزها إلى غيرها. فقد أغرم بالحديث النبوي الشريف فتلقاه عن حفاظه. وظل يجمعه ويحفظه حتى غدا أحفظ أهل زمانه. وعني بالتأليف فيه وفي تاريخ رجاله، فوضع كتباً عدة منها كتابه المشهور (فتح الباري) الذي شرح فيه صحيح البخاري، وقدمه بمقدمة جليلة سماها (هدى الساري). قال بعضهم (لو وقف عليه ابن خلدون القائل بأن شرح البخاري إلى الآن دين على هذه الأمة، لقرت عينه بالوفاء والاستيفاء). وقال عنه السخاوي في الضوء (إن هذا الكتاب لم يسبق نظيره وكان أمراً عجباً). والحق أنه كان فتحاً مبيناً في تاريخ شرح الحديث - ولابن حج عشرات الرسائل في الحديث ورجاله ومصطلحه.

ودرس ابن حجر فقه الشافعي حتى نبغ فيه وأصبح رأساً بين فقهائه، واختير لذلك قاضياً لقضاة الشافعية وظل بين تعيين وعزل قرابة إحدى وعشرين سنة، بعفة وجدارة.

وأقبل على التاريخ وعلى التأليف فيه حتى كون بعض مؤلفاته حلقة هامة من حلقات تلك السلسلة الفريدة من كتب التاريخ التي صنفها مؤرخو مصر في تاريخها وتاريخ رجالها. ومنها (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).

وتخرج به طائفة من الفضلاء ومنهم تلميذه الأثير شمس الدين السخاوي صاحب (الضوء اللامع) ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهكذا جمع ابن حجر الفضل من أقطاره، والمكارم من آفاقها. وإذا ذهبنا نعد مؤلفاته وأعماله وننوه بخطرها وجلال قدرها ضاق المقام وأعيا الكلام.

وما بنا من رغبة هنا إلا أن نعرض لميزة من مميزاته قد يكون انتابها شئ من الخفاء، فاحتجب خبرها وتمنع ذكرها، وتلك هي أدبه.

لقد كان ابن حجر أديباً له نفسية الأديب وحساسيته، وله عاطفته وشعوره، وله تأثره وإنتاجه. . . ولكنه انساق بدافع من روح عصره إلى طلب الحديث ودراسة الفقه وعلوم الدين، فبرز في ذلك كله بروزاً تطامن أمامه بروزه في فنون الأدب.

لقد كان بالعصر تجهم للأدب وانصراف عن الأدباء. ولولا ثقة انبثت في نفوس الأدباء بأدبهم، وولوع شاع فيهم بفنهم، لتجهموا للأدب في المتجهمين، ولانصرفوا عنه مع المنصرفين. ولقد كان ابن حجر من هؤلاء الأدباء. . . ولكن كانت به إلى جوار ذلك نزعة طاغية إلى المجادة، ورغبة جامحة إلى معالي الأمور؛ وشعر حينذاك أن الأدب لا يبل أوام أديب ولا يؤدم لقمته، فضلاً عن أن يسدل عليه أردية المجد ضافية، ويرخي فوقه أثواب الجاه سابغة، فإذا ركن إلى الأدب وحده اعتاص عليه السبيل إلى المجد وانسد أمامه الطريق إلى الجاه. لذلك عدل ابن حجر من الأدب إلى غيره، وطلب المجد من باب غير بابه. فحفظ الحديث ودرس الفقه. . .

شعر ابن حجر وهو في حداثة سنه بميله الفطري إلى الأدب، فعكف على دراسته ومعالجته، ونظم الشعر حتى بلغ في نظمه مبلغاً محموداً. ثم تفتحت فيه زهرات الآمال، وقوى حب المجد في نفسه، ورأى للبارزين من علماء الدين وفقهاء المذاهب في عصره منازل دونها منازل الأدباء والشعراء، فاشرأبت عنقه إلى منزلة من منازلهم، ورجا أن يكون في آتي أيامه واحداً منهم، لذلك سلك طريقهم ونهج نهجهم، وعدل عن الأدب فحفظ الحديث ودرس الفقه. . . ورأى أن يستغل فيهما ذكاءه ومواهبه. فكان له ما أراد.

ولكن هل أزال هذا النهج الجديد نزعة الأدب من نفسه، كلا! بل ظلت كامنة فيها كمون العطر في زهرته، متربصة تربص اللحن في وتره. فإذا مرت عليها نسمة وانية رفيقة استجابت لها فمطرت الأرجاء بأرجها: أو هزتها يد حانية رقيقة لبتها فأطربت النفوس بنغمها. وهيهات هيهات أن تصدأ نفس الأديب الموهوب.

وبعد، فأين نجد أدبه ومظاهره؟ نجد ذلك في كتابته وخطبه وفي شعره.

وحقاً إذا أنت قرأت في مؤلفاته رأيت أسلوبه الكتابي علمياً فيه من مصطلحات العلم لفظها وأسلوبها كما أنه يغلب عليه في كتب التاريخ سرد حديثه وقص تراجمه في غير تأنق. غير أنك يصادفك كثيراً في تضاعيف هذه التراجموغيرها سطور من الأدب الخالص يعود إليه فيها طبع الأديب فيتأنق، ويتخير اللفظ ويحسن في الأسلوب وتبدو عليه سيما عصره من مراعاة البديع، ولكن في غير إغراق ولا استكراه.

وقد كان ابن حجر خطيباً دينياً يعظ الناس فوق المنابر وغيرها، وولي خطابة جوامع عدة منها الجامع الأزهر وجامع عمرو.

ولعل شعره أوضح مظاهر أدبه. وقد كان يظن أن شعره هذا سيتأثر بالاتجاه العلمي البحت الذي اتجهه، فيسمج ويتخاذل وينوء بالمصطلحات. ولكن الحق أنه بقي له شئ كثير من طرب الأديب وأنسه وإيناسه ومرحه ودعابته. وقل أن مرت به مناسبة من مناسبات الأدباء لم يدل عندها بدلوه في الدلاء. فمدح وهنأ وتغزل وشكا ورثى وعاتب وتشوق وحن، ووصف، ونظم في المديح النبوي وألغز وحاجى وتفكه وراسل وساجل ودبج القصائد الطوال، وقطع المقطعات الصغار. وأولع في رفق وكياسة ولطف وسياسة بما أولع به أدباء عصره ممن شغفوا بتعاليم القاضي الفاضل أو تخرجوا في مدرسة ابن نباتة، فورى وضمن واقتبس وطابق وجانس. إلى غير ذلك.

وفضلاً عن ان شعر ابن حجر قد انتثر في بعض مؤلفات ابن حجة الحموي كخزانة الأدب، وترى منه طرفاً في حسن المحاضرة للسيوطي، فإن له ديوان شعر مخطوطاً، لما يطبع - كما نعتقد -

قال جميل العظم إن ديوان شعر ابن حجر اسمه (الدرر). وقيل في فهرس دار الكتب إن صاحب كشف الظنون قال (إن لابن حجر ديوان شعر كبيراً انتخب منه قطعة ورتبها على سبعة أبواب وسماها (السبعة السيارة النيرات) وهي ديوانه الصغير) ثم قيل في الفهرس (لعل هذا الأخير هو الذي بأيدينا). ويؤيد كلام الفهرس خطبة هذا الديوان التي كتبها ابن حجر في مقدمته فهي ناطقة بأن ما في هذا الديوان جزء من شعره لا شعره كله.

شعر الديوان إذن، جملة مختارة من الديوان الكبير. وقد جمع فيه ابن حجر بعض شعره المبكر إلى بعض من شعره المتأخر. ومن محاسنه ذكر تاريخ بعض القصائد بالسنة واليوم، وذكر أسماء ممن وجهت إليهم من ملوك أو إخوان، فمنهم الملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن، وعبد العزيز صاحب تونس، والعباس ابن محمد الخليفة العباسي بمصر، مدحه ابن حجر بقصيدة بارعة لما ولي السلطنة المصرية عام 815هـ، قال في مطلعها:

الملك أصبح ثابت الأساس ... بالمستعين العادل العباسي

رجعت مكانة آل عم المصطفى ... لمحلها من بعد طول تناسي

وقد قسم ابن حجر ديوانه المذكور إلى سبعة أبواب. فافتتحه بالنبويات ثم الملوكيات - أي المدائح - ثم الإخوانيات ثم الغزليات ثم الأغراض المختلفة ثم الموشحات ثم المقاطيع.

أما نبوياته فلم يأت فيها بجديد وهي على نمط ممن جاء في بردة البوصيري من ذكر ما عرف من سيرة النبي عليه السلام كالمولد والمعجزات والإسراء والمعراج إلى غير ذلك. ومنها قوله عن النبي عليه السلام:

هو رحمة للناس مهداة فيا ... ويح المعاند إنه لا يرحم

نال الأمان المؤمنون به إذا ... شبت وقوداً بالطغاة جهنم

الله أيده فليس من الهوى ... في أمره أو نهيه يتكلم

فليحذر المرء المخالف أمره ... من فتنة أو من عذاب يؤلم

أما مدائحه الأخرى وهي ما سماه (الملوكيات) فأجمل أبياتها ما بدا في صدرها من غزل. وكذلك كان دأب ابن حجر في أغلب قصائده حتى النبويات يبدأها بأبيات غزلية على سنة القدامى. ولكنها رقيقة لطيفة تنم عن عاطفة جميلة وشعور صادق. وبمناسبة الغزل نذكر أن بعض علماء العصر وفقهائه ممن نظموا الشعر، تغزلوا ووصفوا المؤنث والمذكر، وصرح بعضهم بأن هذا كان منهم على سبيل تمرين القريحة. وما هو إلا حب التقليد أو حب الظهور دفعاهم إلى شعر الغزل. وما كانت بهم من حاجة إلى الاعتذار أو التنصل، فكثير من شعرهم بدا متكلفاً ممجوجاً مستخذي العاطفة ضيق الحيلة ففضح نفسه بنفسه. ولكنا نشعر أن غزل ابن حجر ينم عن عاطفة جميلة وشعور صادق - كما ذكرنا - ولا نستطيع أن نقدم على هذه الدعوى دليلاً غير ما يفيض به غزله دون سائر شعره من رقة ولطف وسلاسة. قال في مطلع مدحة نبوية:

إن كنت تنكر حباً زادني كلفا ... حسبي الذي قد جرى من مدمعي وكفى

وإن شككت فسائل عاذلي شجني ... هل بت أشكو الهوى والبين والأسفا

أحبابنا ويد الأسقام قد عبثت ... بالجسم هل منكم بالوصال شفا

كدرت عيشاً تقضي في بعادكم ... وراق مني نسيب فيكم وصفا

ومنها:

وكنت أكتم حبي في الهوى زمناً ... حتى تكلم دمع العين فانكشفا

سألت قلبي عن صبري فأخبرني ... بأنه حين سرتم عني انصرفا

وقلت للطرف أين النوم بعدهم ... فقال: نومي وبحر الدمع قد نزفا

وهذه الأبيات أليق بباب الشكوى منها بباب الغزل، غير أن الشكوى هنا هي من صميم الغزل بل هي لبه وجوهره. وهي أدل على صدق العاطفة من الوصف الصريح. ومع هذا فاسمع قول ابن حجر من غزلية رقيقة:

طيف لمن يهوى ألما ... يطوي ذيول الليل لما

أهلاً به لو أن طر ... في للمنام يذوق طعما

حتام يا ريق الحبيـ ... ب أراك موروداً وأظما

وإلام يا قلب الكئيـ ... ب بأسهم الألحاظ ترمى

هلا صحوت من الغرا ... م فلم أراجع فيه عزما

وصبرت عمن لا يطا ... وع ما تشا نهباً وغرما. الخ وبعد فلعل القارئ معي يلحظ في هذا الشعر ما لحظته فيه من رقة ولطف. ويضيق المقام دون الحديث كما ينبغي وكما نشتهي عن شعر ابن حجر. وليس به ما يشوب إلا هنات قليلة شاعت في فرسان عصره كخطأ لغوي أو استعمال عامي.

وإذ آن لنا أن نختم هذه الموجزة، نذكر أن ابن حجر كان يتخذ حكماً في المباريات الأدبية، مما يدل على علو كعبه في ذوق الأدب وتمييزه. حكوا أن ابن نباتة المصري مدح الكمال ابن الزملكاني القاضي بتائية بارعة صدرها بغزل مليح، ومنه في مطلعها:

قضى وما قضيت منكم لبانات ... متيم عبثت فيه الصبابات

فعارضها كثير من الشعراء، ومنهم برهان الدين القيراطي، قال في مطلع قصيدته:

ما لابتداء صباباتي نهايات ... يا غاية ما لعشقي فيه غايات

ثم جاء ابن حجة الحموي من بعدهما فعارضهما بقصيدة أخرى قال في مطلعها:

لعجبه ولذيل الهجر شمرات ... وللقلوب من الأجفان كسرات

ثم احتكم ابن حجة في التائيات الثلاث إلى ابن حجر، فحكم له ابن حجر وفضله عليهما وسجل ذلك في مكاتبة أدبية طريفة قال في صدرها: (لله الأمر من قبل ومن بعد. الحكم بين النظراء إنما يحسن ممن يماثلهم فيما به يرتفع الحكم. وفي إقدام من لم يرتق إلى تلك الطبقة نوع من الظلم. ولا يرتاب لبيب في أن كلاً من الثلاثة رأس هذا الفن في ومانه، وأنه لا يوازنه أحد من أقرانه.

وثلاثة كثلاثة الراح استوى ... لك لونها ومذاقها وشميمها). الخ

وبعد فهذه أثارة من أدب ابن حجر نوهنا بها أملاً في أن تثير الرغبة في دراسته بتفصيل وروية.

(حلوان)

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية