انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 761/مسابقة الفلسفة الطلابية للسنة التوجيهية (3، 4، 5،)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 761/مسابقة الفلسفة الطلابية للسنة التوجيهية (3، 4، 5،)

مجلة الرسالة - العدد 761
مسابقة الفلسفة الطلابية للسنة التوجيهية (3، 4، 5،)
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 02 - 1948


3 - الحرية

للأستاذ كمال دسوقي

1 - جون استيوارت مل:

تضافرت ظروف (مل) الشخصية على أن تخلق منه رجلا متعدد نواحي الكتابة، فالتربية الشاقة التي أخذه بها أبوه كما رايت، وتدرجه حتى الرياسة في العمل بشركة الهند منذ السابعة عشرة حتى الخمسين، ثم رفضه الاستمرار في أي عمل بعد أن انحلت شركة الهند الشرقية فيما عدا عضوية البرلمان عن وستمنستر (1865 - 1868) قد أتاح له حتى وفاته سنة (1873) من الفراغ ما تمكن معه من نشر مذهب واسع. يتضمن - عدا كثير من المقالات في مجلة وستمنستر، ونشر مذهب بنتام وأبيه طائفة من الكتب - تكون مذهبا عاما - وان يكن لكل منها فكرته الخاصة.

تعدد شخصية استيوارت مل العلمية من خطر طلاب المسابقة، فانه لن يتحتم عليه أن يلموا بملء المنطق الكبير في مؤلفه الضخم (1843) ولا بملء الاقتصادي بحكم دراسته الأولى في كتابه: الاقتصاد السياسي (1848) ولا بملء الفيلسوف والإنجليزي النزعة في كتابه (النفعية الذي جمع مقالاته (1861) ولا بملء السياسي في كتابه: تأملات في الحكم النيابي (1861) ولا بملء الاجتماعي في كتاباته عن المرآة والدين والمنفعة - إلى آخره - اعني أن الكتاب الذي عن سيدرسه طلاب المسابقة يمكن تفهمه وحده في حدود معلومات عامة عن مل - كما يمكن - ابتغاه الاتفاق والتعميق فصل هذا الكتاب عن بقية آثار مل)

ومع هذا فلن يستطيع طالب المسابقة إلا أن يربط بين (الحرية) وكتاب (النفعية) على الأقل لأن هذا يبدأ حين ينتهي ذاك ومع أن الحرية قد تم نشره أولا (1859) بعد أن كانت فكرته منذ 1854 موضع الدرس والتمحيص والنقد من المؤلف وزوجته فان كتاب (النفعية) ترجع فكرته إلى مقالات قد نشرها من قبل تنقيحا لمذهب أبيه وصاحبه بنتام - ولكنه لم ينشر إلا (1861) - وفوق هذا فان مذهب النفعية لمل - كما يمثله هذا الكتاب - أوسع نطاقا من الحرية، لأنه يشمل الحياة الفردية والاجتماعية والخلقية والنفسية، كما يدخ السياسة والاقتصاد ولذا تجد أن الناشرين الإنجليز يقدمون بين يدي مؤلفات (مل) بكتابه (النفعية) وإن كان كتابه عن الحرية أوفرها حظا من الدقة والعناية في دراسته وبالتالي أهم معبرا عن آراء الفيلسوف الخاصة واكثر كتبه ذيوعا.

لقد كان (مل) الصغير. وهو يسمى بذلك تمييزا له عن مل الكبير - أبيه جيمس من اتساع العقل ونفوذ الفكر بما لم يكن كثير من المؤلفين، فحقق الأمل الذي عقده عليه أبوه في اصطناع مذهب النفعية التي ورثه وصاحبه بنتام إياه وان يكن قد خرج به عما قصد إليه بعض الشيء فان المذهب بعد تعديل فيلسوفنا له قد قبله العامة اكثر من ذي قبل، مع انه لم يخل من الغموض والتناقض.

وخلاصة هذا المذهب في كلمة واحدة هي ما يتسع لها المقام هنا - ما تقول به نظرية المنفعة أو مبدأ السعادة من أن الأفعال تكون صوابا بمقدار ما ترمي إلى تحقيق السعادة، وخاطئة بقدر ما تؤدي إلى نقيض السعادة - ويعني بالسعادة هنا تحقيق اللذة وتجنب الألم كما يعني بالشفاء، تحقيق الألم، وامتناع اللذة. ويقوم هذا المبدأ على فكرة اللذة النفسية التي تفترض رغبة الإنسان بفطرته في أن يحقق لنفسه اكبر لذة ممكنة وأن يجتنبها كل ألم، على إلا يتعارض في رغبته مع رغبات غيره، وعلى أساس التضحية بالسعادة الفردية في سبيل سعادة المجموع، والسعادة، العاجلة انتظار لسعادة اكبر منها أجلة. اي تقديم الكيف في نشدان هذه السعادة على الكم وأخذها بأوسع معانيها بالنسبة لكائن متطور.

ولكي تفهم هذه النظرية - وغيرها من نظريات مل - ينبغي أن تقرنها بالنظرية التي يعارضها بها المؤلف قديما وحديثا - فإن مؤلفنا كل حريصا اشد الحرص على أن يميز نظرياته عما يسبقها، وأن يبين وجوه الشبه والخلاف بينها وبين غيرها - كما كنت طريقته في الكتابة أن يشرع بعد تعريف موضوع كتابه - وربما قبله - في نقد النظريات التاريخية السابقة، وتفنيد الآراء الحديثة الشائعة، ثم يعرض لنظريات بنتام وابيه، فيقد من هذه ويعدل ما استحق النقد والتعديل.

فهو في مذهبه النفعي الذي يؤكده ويحوم حوله في كل كتاباته، ويخصص له هذا الكتاب، إنجليزي حق، يتشبث بالواقع والتجربة المستمدة من التاريخ في تطوره والأمور في حقيقتها، ويحمل على المبادئ المثالية العقلية والافتراضات الميتافيزيقية القبلية (السابقة على التجربة ونظريته هذه في النفعية تعارض - اشد ما تعارض - نظرية (كانت) الأخلاقية، التي تجعل من الضمير والواجب والحدس الأخلاقي أساسا للفعل، فبينما هذه النظرية مثالية تزن السلوك الخلقي بالدافع عليه الذي هو أوامر قطعية يفرضها الضمير والواجب؛ إذا بهذه الأخرى واقعية مادية تزن السلوك بمقدار ما تحقق لنا غايته من سعادة ولذة ومنفعة.

2 - كتاب الحربية:

ولن يعنينا أن نتبع نفعية (مل) اكثر من هذا، ولكنا نعود إلى حيث قلنا انه حيث ينتهي قوله في هذه يبدأ مقاله عن (الحرية) فقد انتهت به مناقشاته لهذه النظرية إلى توكيد مبدأ على جانب كبير من الأهمية في فلسفته السياسية لأنه لما جعل من المنفعة مقياسا عاما ليقيم الأفعال، والحكم عليها بالخطأ والصواب بما تحمل في غايتها من تحقيق اللذة وتجنب الألم، تبين له أن تمت منافع جماعية هي اكبر أهمية من المنفعة الفردية بكثير، وأنها أولى بأن تكون مقدمة وقاطعة وأن هذه المنافع العمة - مع أن القانون والسلطة يقومان على حمايتها - لابد لها أن تستند إلى تأييد شعور الفرد وعاطفته وتفضيله بمحض أرادته أي إلى حريته.

ولم تنحل المشكلة بذلك حلا حاسما، بل أن النزاع لا يزال قائما منذ اقدم العصور فيما بين الحرية الفردية، والسلطة الاجتماعية نتيجة لتعارض المنفعة الشخصية والمنافع العامة المشتركة بين المجموع، واتخذ هذا الصراع بين المنافع مظاهر شتى يعرض لها بالتفصيل.

فالكتاب ككثير من الكتب قبله لأفلاطون وأرسطو وهوبز وغيرهم التي تبحث في فلسفة السياسة والحرية التي يقصدها المؤلف هنا ليست حرية الإرادة التي ضدها الجبرية في الميتافيزيقا والأخلاق بل الحرية الفردية التي ضدها السلطات الحاكمة في السياسة والاجتماع ومدى ما لهذه الأخيرة من سلطان على الأولى؛ فما نشا عنه على طول التاريخ - كما قلنا - صراع نجد اهم مظاهره عند اليونان والرومان وفي إنجلترا، بين طبقات الأهلين والحكومة أو بين الأهلين أنفسهم.

ذلك أن مشكلة الناس - حين يعيشون في جماعة - انه يلزمهم الخضوع لقانون وضعي، أو لسلطان المجتمع، حتى يحترم بعضهم حق بعض، وهذه المشكلة الأساسية في الحياة، وإن لم يحسن الناس حلا فيما يرى (مل) وذلك لتعدد الأهواء الشخصية وتعارض المنافع الخاصة والمنفعة العامة، ثم لسعي السادرة وراء مصالحهم الشخصية ومحاولة المسودين تملق هؤلاء السادة بفعل ما يحبون، وما يظن انهم يحبون وبغض ما يكرهون أو يبدو انهم يكرهون ما تزال مشكلة كل عصر وإن كانت تبدو في صور جديدة متغيرة.

وقد تتساءل: ولم تتعارض رغبات الفرد ورغبات المجتمع، وما دخل السلطات الحاكمة في هذا التعارض؟ فاعلم إذن أن الناس يختلفون في رغباتهم كما وكيفما، وأن الناس وإن أتحدث رغباتهم أفرادا، فأنه يتكون من مجموعهم (مجتمع) له هو الآخر رغبته الخاصة التي تختلف عن رغبة كل فرد على حدة - مع انه في حقيقة الأمر ليس إلا مجموع هؤلاء الأفراد - فثمة تعارض أبدا بين رغبات الفرد وبين (مجتمع) الأفراد وتمتد هذه العداوة إلى الحكام أنفسهم بوصفهم ممثلي هذا المجتمع والمعبرين عن رغباتهم، بمعنى أن عداوة الفرد للمجتمع الذي ينازعه لذته ومنافعه تتجسم شخص الحكام أنفسهم القائمين على حمايته وتنعقد المشكلة اكثر حين تتدخل في الأمر رغبات الحاكم نفسه كفرد - بان تكون له لذاته ومنافعه وأهواؤه الفردية - إلى جانب ما يقوم عليه باسم المجتمع.

وباسم هذه الحرية الفردية في التفكير والنقاش واستقلال الشخصية وصلاح المعيشة يتحدث (مل) في الفصول الثلاثة الوسطى من كتابه، فيمهد لها بمقدمة، ويلحق بها تطبيقات مما سيفصل القول فيه في المقالتين التاليتين.

كمال دسوقي