مجلة الرسالة/العدد 748/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 748/من وراء المنظار
عجول وأناسي. . .!
- يا شيخ. . . يا معلم. . . صلي عا النبي!
- أصلي عا النبي إيه. . . اسكت يا عم خليك في حالك. . .!
صاح بالعبارة الأولى رجل في المدخل الشمالي لميدان السيدة زينب، ينادي بها فظاً غليظ القلب من بني آدم كان بالليل يسوق أمامه عدداً من العجول الصغيرة قد سلكها جميعاً في حبل، وصار يدفعها بإحدى يديه في غير هوادة إلى حيث تذبح، ويهوي على أجسامها لا يبالي أين يقع ضربه بحبل غليظ معقد كلما أبطأت، أو على الأصح كلما جهدت وتقطعت أنفاسها فاضطرها الإعياء والكلال إلى الإبطاء. . .
ورد ذلك اللفظ في غلظة ووحشية يطلب إلى من يسأله الرفق أن يبقى في حاله فلا يتدخل في شأنه؛ وما ملك هذا إلا أن يحوقل ويستغفر الله ويستعيذ به، ويركن بعد لسانه إلى أضعف الإيمان!
ونظرت فإذا بذلك الغليظ اللفظ يزيد الضرب بحبله على أجسام هاتيك العجول الجاهدة ويزيدها دفعاً ولكماً؛ ووقع أحدها على الأرض فجذب الصف كله وجذبه الصف فانقلب على ظهره وزعق زعقة مثلت لي ألمه بصورة لم يكن ليمثلها في كلامه لو أنه تكلم!. . . زعقة أشبه بزعقة الآدمي يبتعثها منه الألم وفمه مزموم، فهي بين حنجرته وخيشومه. . . وكأنما يقول العجل الصغير آه. . . وخيل إلي كأنما يدعو العجل ضاربه أن يصلي على النبي! وأهوى الغليظ الجلف بحبله المعقد على العجل المسكين وحده، وقد تمدد على جنبيه وهو يحاول أن يضع صدغه على الأرض فتجذبه العجول وقد أضطرب نظامها، وإن جسده كله لينتفخ ويهبط في سرعة من فرط ما يلهث، وإنه ليحاول النهوض من ألم الضرب فما يزيد على أن يبسط أرجله ويثنيها في الهواء تارة، وعلى الإسفلت الجامد جمود قلب هذا الغليظ تارة أخرى. . . ثم جذبه من إحدى أذنيه ومن ذيله جذبة قوية وركله ركلة شديدة، فوقف على رجليه يلهث، ومشى مع بقية العجول، وصاحبه الفظ يمسك بذيله مخافة أن يقع ثانية على الأرض. . .!
وتحرك قلبي لما رأيت، ولكني لم استطع أن أصنع شيئاً، ولا يعيبن القارئ على أضعف الإيمان، فالرجل غليظ وحبله أغلظ، وما تعلمت الملاكمة، أو كانت لي حتى بمخاطبة الغلاظ الجهال طاقة. . . ولم يكن على مقربة مني شرطي استعينه. . . شرطي؟ والله لو وجد لسخر مني أن أدعوه إلى مؤاخذة الرجل على صنعه، ولظن بعقلي الظنون. . .
وأعيذك أيها القارئ أن تعجب أن يتحرك قلبي لمثل هذا المنظر، فما أحب إلا أن تكون رفيقاً، وإذا أنت ترفقت بالعجول كنت حرياً أن تترفق ببني آدم. . . ولقد تداعى لهذا المنظر الأليم في ذهني معنى. . . بل معان. . . فكم من الآدميين من يرتبطون هكذا على خسف ويسقطون من كلال وإعياء، وعلى جنوبهم وظهورهم تهوي أيد خفية بما هو أقسى من الحبل المعقد الغليظ. . . أجل كم من آدمي في الأصفاد والأغلال وإن لم تعض بساقيه سلسلة، أو يخنق عنقه غل. . . كم من البشر من يساقون كما تساق هذه العجول ليكدحوا في لظى الصيف وفي زمهرير الشتاء كي يسعد فريق مثلهم من بني آدم بطيبات الحياة، وأي فرق لعمري بين هذا وبين الرق؟!
آه لقلبي. . . وأف لمنظاري. . . يا عجباً! ما أسرع ما تمثل لي هذا المعنى الذي طاف بخاطري، فإذا هو صورة مجسدة تدب على الأرض، فهاهو ذا عسكري غليظ شديد يسوق أمامه رهطاً من الغلمان، قد ربط ذيل هذا في ذيل ذاك، أو يد هذا في يد جاره، إن لم يكن لهما ذيلان يربطان، وقد التقطهم جميعاً من الشارع، وكان ذلك في نفس الميدان من مدخله الجنوبي، ولا بد أن قطيع العجول قد مر برهط الصبية قبل أن تقع عيني عليهم بدقيقتين أو ثلاث!
وأخذ العسكري الغليظ الفظيع يهوي بكفه الثقيلة المعقدة بما يتحلى به من خواتم غليظة على قفا هذا الصبي الهزيل مرة، وعلى قفا ذاك المريض النحيل مرة، والويل لمن يلتفت وراءه من الصبية؛ وكان هؤلاء المساكين كلما سمعوا وقع الكف الثقيلة المعقدة على قفا أحدهم، رفعوا أكتافهم ونزلوا برؤوسهم ليخفوا أقفيتهم، والرعب ملء جسومهم، وحسبهم ما هم فيه من جوع وعري ومرض وشقاء. . .
ولم أطق صبراً فدنوت من هذا العسكري العاتي، فليس في يده حبل أخاف منه، وإنه لحري أن يغره تدخلي وجرأتي فيحسبني من رجال النيابة مثلاً أو من أولي الجاه على أي حال وقلت في لهجة الآمر لا في لهجة المستفهم (لا تضرب هؤلاء المساكين يا شاويش).
وصدق ظني فقد رفع العسكري يده إلى رأسه بالتحية، وراح يفهمني أن هؤلاء هم سارقو الجيوب وخاطفو الحلي. . . و. . . و. . . فقاطعته وأنا أوهمه أني أحفظ رقمه قائلاً (لا تضربهم مرة ثانية) ونظر إلى هؤلاء المساكين وقرأت في كل وجه من وجوههم الشاحبة معنى أسمى من أن أصفه بالشكر. . . ووقعت نظراتهم من نفسي موقعاً لن ينهض لتصويره أبلغ الكلام. . .
وتدخل شاب حاسر الرأس عليه حلة أنيقة وتحت إبطه مجلات وكتب فخاطب الشرطي في عنف قائلاً: (ألك أولاد يا شاويش؟ أترضى أن يعامل أولادك هذه المعاملة؟) ثم أدار إلي الحديث قائلاً (ومع ذلك فنحن كما نزعم أمة متمدنة. . . في أي بلد متمدن يوجد مثل هؤلاء المساكين في الشوارع على هذه الصورة؟ وأين ما نسمع عنه من أسماء المبرات وجمعيات الإحسان والخير؟. . لقد مر بي منذ لحظة قطيع من العجول يدفعه فلاح عات كما يدفع هذا الشرطي الصبية فاشمازت نفسي لذلك المنظر وتكدر خاطري، ثم ما لبثت أن رأيت هؤلاء المساكين. . . ألا إن بيننا وبين الرقي أجيالاً وأجيالا وإنما تخدعنا العمارات الضخمة والسيارات الفخمة والعواصم الكبيرة).
وانطلق الشاب وقد غاب عن بصره وبصري الشرطي والغلمان، وقلت لنفسي ما أوسع الفرق بين مصير العجول ومصير الصبية، فإنما تساق هذه العجول إلى حيث تريحها سكين الجزار، ويساق هؤلاء الصبية إلى حيث ينتظرهم العذاب الأليم!
الخفيف
رسائل حائرة:
الرسالة الثالثة. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حسبتك تعرفين دواء روحي ... وخلتك تعطفين على جروحي
ولكني وجدتك لم تبالي ... بما يلقى أخو القلب الطليح!
بثثتك ما ألاقي من زماني ... وبحت بما لدي؛ لكي تبوحي
فكان الصمت والإعراض رداً ... أقض مضاجعي، وأمض روحي عرفتك. . . فأذهبي أو كفاك أني ... من الآلام كالعاني الطريح
سأحيا طول أيامي وحيداً ... على الحرمان، واليأس المريح
سأجعل هذه الأيام تهوى ... هوى الصخر من فوق السفوح
وأعزف للغناء نشيد روحي ... ليحملها إلى الأفق الفسيح!
فإن حمل الغناء حطام روحي ... فلا تبكي عليَّ، ولا تنوحي
وإن وارى الثرى ذرات جسمي ... فقري عند ذلك، واستريحي
ولا تضعي ورودك فوق رمسي ... ولا تبكي هناك على ضريحي
فأنت قتلت آمالي جميعاً ... وبعثرت الشباب بكل ريح!
وأنت جرحتني في القلب جرحاً ... أراه غير مندمل القروح
ولو أني وصفتك في قصيدي ... بما تدرين من وصف فصيح
لقالوا إنني إياك أعني ... فمن باغ عليك، ومن نصيح
ولكني سأكتم ما بنفسي ... وأمنعها من القول الصريح
واحفظ في حنايا القلب شيئاً ... بعثت به من الوطن الجريح!
رسالتك التي صورت فيها ... تعارفنا على رغم النزوح!
وما أنا قد نسيت جراح قلبي ... ولا أنا عن جفائك بالصفوح
ولكني أرق لكل أنثى ... وإن جارت على الأمل الطموح!
وأدفع عن صباها كل سوء ... وأحمله بقلب مستريح
سأنسى أنني أفضيت يوماً ... بأسراري إلى قلب جموح
سأنسى أنني منيت قلبي ... بأن يروى من النبع الشحيح!
سأنسى. . . ثم أذكر أن يوماً ... سيأتي قد تطيب به جروحي
إبراهيم محمد نجا
صوت من الشمال. . .
للأديب أحمد هيكل
أشقاءنا هذي لٌحون من الخلد ... وشعر كأنفاس الأزاهير والورد وليست لحوني رجع ناي وإنما ... صدى نبض مصر بالمحبة والود
وما هو شعر بل قلوب تجمعت ... أكاليل من آل الشمال لكم عندي
تحايا أشقاء تناهى حنينهم ... فأضحوا على شوق وباتوا على سهد
تحايا ظماء رَيِّهٌم أن يقبلوا ... أشقاءهم ألفاً على الثغر والخد
تحايا الملايين الذين قلوبهم ... تكن لكم حباً هو النار في الزند
تحايا الوفيين الذين رجاؤهم ... تفيؤكم ظل الزفاهة والسعد
وآمالهم أن تبقوا - الدهر - إخوة ... وغاياتهم أن تبلغوا ذروة المجد
أشقاءنا يا من بلادي بلادكم ... وخالكم خالي وجدكم جدي
ويا من رآنا الدهر شعباً موحداً ... على حين كان الدهر يلعب في المهد
ويا من توحدنا: دماء وألسناً ... وديناً نهينا فيه عن فرقة تردي
ويا من سقانا النيل ماء ووحدة ... ستبقى على رغم الدسائس والكيد
فهيهات أن يقووا على فصم عروة ... تناهت بها عقدا يد الأحد الفرد
أشقاءنا أنا على العهد لم نزل ... وإيماننا أن الجنوب على العهد
فنحن وأنتم مثل جسم وروحه ... يواريهما التفريق في ظلمة اللحد
ونحن وأنتم كالعيون بياضها ... بغير سواد ليس يبصر أو يهدي
أشقاءنا إن الأفاعي توافدت ... علينا من (التاميز) سافرة القصد
خذوا حذركم فاللدغ منها سجية ... وإن خادعت باللين فيء لمس الجلد
خذوا حذركم لا تتركوها سلاسلاً ... مسممة حول الرقاب وفي الأيدي
خذوا حذركم لا تتركوها مقارضاً ... فتشطرنا شطرين كالقوم في الهند
خذوا حذركم لا يقرب النيل سمها ... ليبقى على الأحقاب أحلى من الشهد
فترشف من السلسل العذب اخوة ... يظللنا تاج على مفرق المجد
أحمد هيكل
البنفسج
للأستاذ محمود عماد لك يا بنفسج زرقة ... عيني إليها تستريح
من زرقة البحر استعير ... ت أو من الجو الفسيح
أو من عيون الراهبا ... ت الشقر ترنو للمسيح
كم قلت رغم لسانك المعقو ... د من قول فصيح
وأريجك الوسنان ما ... أحناه في صدري الجريح
مالي إذا أستافه ... يعتادني خدر مريح
يسري بروحي بين أو ... دية من الأحلام فسيح
فأخالني البدويَّ طا ... لع مرج قيصوم وشيح
أو راوحته من حمى ... ليلاه عند الفجر ريح
تدري بسري يا بنف ... سج من صباي وما تبوح
كنت الهدية والتحي ... ة في الدنو وفي النزوح
إني كبرت ولم تزل ... بشبابك الغض الصبيح
تهواك كل مليحة ... وشذى هواك بها يفوح
وبصدرها العالي تح ... لك حين تغدو أو تروح
إذ أنت فوق الصدر ريحا ... ن وطي الصدر روح
عجيباً تصبيت المل ... يح وما تصباك المليح
سيماك تشعر بالوقا ... ر الجم والعقل الرجيح
يا راهب الزهر الوقو ... ر عليه قائمة المسوح
في ديره يرعى عذا ... رى الورد دامية الجروح
هات اسقني من خمر دير ... ك في الغبوق وفي الصبوح
محمود عماد