مجلة الرسالة/العدد 748/رحلة إلى الهند
مجلة الرسالة/العدد 748/رحلة إلى الهند
11 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
ضريح همايون
إلى الغرب والشمال من دلهي تقوم أبنية كثيرة هي بقايا الأحداث والغير من مقابر الملوك التيموريين. وأعظمهم تمثال المجد المائل على ضريح نصر الدين همايون.
همايون الملك الثاني من هذه الأسرة المجيدة العظيمة التي سيطرت على الهند قرونا. وهي سيرة عجيبة من الهمة التي تحقر الصعاب، والعزم الذي ينكر الاهوال، والامل الذي يكفر بالمستحيل.
أبوه ظهير الدين بابر ورث إمارة في سمرقند وفرغانة وهو صبي في الثانية عشرة. فلما غلب عليهما مد خطوب طويلة، وجه همته إلى أفغانستان ففتحها واستولى على بدخشان ثم كابل وقنهار ومدن أخرى. واستعاض عن الإمارة الصغيرة التي فقدها إمارة اعظم. وأحال الهزيمة انتصارا، وزوال الملك وسيلة إلى ملك اكبر، واليأس من سمرقند يقينا بفتح كابل. ثم وجه أمله وهمته وعزمه وعقله وعبقريته في السياسة والحرب، إلى الهند فلم يثبت لجيشه جيش، ولم يقم لدهائه دهاء، ولم يصد تدبيره تدبير. فامتد به الفتح شمالا وجنوبا.
ومات بابر بعد خمس سنوات من انتصاره الهائل في معركة باني بات التي فتحت له أبواب الهند، وما رسخت قواعد الملك، ولا اطأدت أساطين الدولة، بل ما قر نجاح الحروب، ولا فارق الأسماع صدى السلاح. فورث ملكه ابنه همايون وسنه تسع عشرة سنة. فاستأنف فتوح ابيه، ولكن شير شاه أمير بهار استطاع أن يصد السيل ثم يرده صوب الغرب شيئاً فشيئاً حتى اضطر همايون إلى السند. ثم أخرجه إلى إيران مغلوبا قد فقد ملك أبيه كله فعاذ بملوك الدولة الصفوية وبقى همايون خمس عشر سنة لاجئا لا ملك له ولا وطن.
ولكن العزيمة التي سخر بها بابر أفغانستان والهند ليفتحها ويسترد ملكه كأنه لم يغلب عليه، ولم يطرد منه، ولم يلبث خمسة عشر عاما بعيد عنه في حماية ملوك إيران، ففت سنة 962 بعد ثلاثين عاما من فتح بابر إياها. وبعد سنة مات همايون وسنه خمس وأربعون سنة.
بنى خزانة كتب عظيمة وصعد عليها يوما فزلت قدمه فسقط فمات. ومن العجيب أن تاريخ وفاته في هذه الجملة: (الملك همايون سقط من السطح) (همايون بادشاه آزبام أمتاد).
حزنت زوجه حميدة بانو بيكمم على زوجها بل ولهت فخرجت إلى الحج ورجعت مستصحبة مهرة البنائين والصناع لتبني لهمايون ضريحا يكافئ عظمته، ويمثل مكانته في قلبها، ويخلد ذكراه على الأرض. وبنت هذا الأثر الرائع. وهو أول نموذج لمقابر الملوك المغول التي افتتنوا فيما بعد حتى بلغ ذروته في تاج محل.
وفي جانب حديقة المقبرة دار خربه تسمى عرب سراي (دار العرب) يقال إنها كانت دار الصناع الذين قدموا مع السيدة من البلاد العربية.
كان هذا أول قبر على هذا الأسلوب في الهند. وأما بابر أبو همايون فلم يدفن في الهند بل قبره في كابل.
وقد حدثني الأديب الكبير سرور كويا أستاذ الأدب الفارسي في جامعة كابل - وقد سعدت بلقائه في إيران قبل ثلاث عشرة سنة وفي الهند هذا العام قال كنت في صحبة الشاعر العظيم الفيلسوف محمد إقبال حينما زار قبر بابر في كابل. فالتفت إلى قائلاً يا سرور أكتب وأملي علي هذين البيتين بالفارسية:
خوشا نصيب كه خاك تو آرسيد اينجا ... كه اين زمين ز طلسم فرنك آزاد ست
هزار مرتبه كابل خوش است ازدلي ... كه ابن عجوزة عروس هزار دامادست
وترجمتها:
طوبى لك إذ استراح ترابك هنا ... فهذه الأرض منزهة عن سحر الفرنج
إن كابل خير من دهلى ألف مرة ... فتلك العجوز عروس لألف زوج
والشطر الأخير شطر معروف لحافظ الشيرازي في وصف الدنيا.
ورحم الله إقبالا! كأنه رأى بظهر الغيب غدر هذه العجوز بالمسلمين. فهي اليوم تطردهم وتفتك بهم ولا ترعى عهدهم وقد سيطر عليها سلطان المسلمين ثمانية قرون عدلوا فيها واحسنوا ورحموا رعاياهم وتركوهم أحرارا فيما يدينون. فبقيت الكثرة لغير المسلمين في دار الملك الإسلامي حتى زالت دولتهم.
تدخل حديقة واسعة جدا في وسطها بناء تفضي إليه طرق أربعة مبلطة فيها قنوات وأحواض. وكل طريق يمتد بين باب للحديقة وهذا البناء. سرنا من المدخل في إحدى هذه الطرق إلى دكة رقينا إليها ست درجات. وفوقها دكة أخرى عظيمة عالية مربعة في كل ضلع منها خمسة عشر عقدا أوسطها يفضي إلى خمس وعشرين درجة تصعد إلى القبة الحانية على الضريح - كما يرى في الصورة.
وعلى الدكة العالية بناء مربع الجوانب وسطه قبة شامخة من الرخام الأبيض تحيط بها حجرات متواصلة في هندسة محكمة جميلة. وفي هذه الحجرات قبور قيل لي أنها ست وخمسون لأمراء الدولة وأعيانها.
ودخلت فإذا قطعة من المرمر جاثمة في الوسط تحتها رفات همايون وفوقها قبة تقوم على ثمانية عقود. ولا تبدوا القبة عالية من الداخل لأنها قبة مزدوجة أي قبتان إحداهما فوق الأخرى. وهي أول قبة من هذا النوع في الهند. وقد رأيت في مسجد الشاه بأصفهان قبة عظيمة فوق القبلة مزدوجة يتردد صدى الصوت تحتها عشر مرات او اكثر، ولكن قبة همايون لا تردد الصدى كأنما أخرسها جلال الموت، أو هيبة الملك.
خلعت نعلي وخطوت خطوات إلى القبر فوقفت واجما خاشعا حينا ورافعا بصري إلى القبة حينا. فقلت: قبر عظيم ولكن ذكرى همايون اعظم. إن عزمك الماضي أيها الملك الهمام، وهمتك العالية طويتا في هذا اللحد. لا بل هما ملئ التاريخ.
قرأت الفاتحة خاشعا وخرجت.
ثم صعدت إلى السطح المحيط بالقبة فإذا هذا التناسق الكامل الذي يميز لبنية السلاطين التيموريين كلها. في كل جانب قباب يصعد إليها درج. وفي الزوايا قباب اصغر منها في تناظر تام وتناسب لا يتسع المجال لتفصيله.
نزلت وخرجت مع الرفاق والتاريخ يمر أمامي سريعا فأرى همايون فاتحا، وهمايون دفينا، وارى الأحداث تتوالى فتشمل الدولة أرجاء الهند كلها ويجمع البلاد سلطان واحد لأول مرة في تاريخها ثم يجزر البحر فتضعف الدولة ويتسلط الإنكليز.
وتتوالى الخطوب حتى أرى بهادر شاه آخر السلاطين من ذرية همايون يحتمي بحرم جده، بهذه المقبرة وهو يحارب الإنكليز قبل تسعين عاما فيؤسر وينفى. ويؤخذ من هذا الحرم بنوه الثلاثة مغل وخضر وأبو بكر فيقتلون صبرا على مشهد من الناس.
قلت: ما دفن هنا همايون وحده ولكن دفن كل تاريخ الدولة التيمورية. فيا لك أول ضريح للدولة العظيمة في الهند وآخر ضريح.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام