انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 747/القرآن والنظريات العلمية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 747/القرآن والنظريات العلمية

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، إن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي يرحمه الله، يقول في الطبعة الثانية من كتابه إعجاز القرآن في هامش صفحة 132 تعليقاً على الآية القرآنية: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. . .

(فجاءت العبارة في الآية الكريمة كأنها سلالة من علم تتسع لمذهب القائلين بالنشوء، ولمذهب القائلين بالخلق، ولمذهب القائلين بانتقال الحياة إلى هذه الأرض في سلالة من عالم آخر. . .).

فإن كانت نظرية دارون صحيحة فإني أريد أن اعرف رأيكم في الكيفية التي يقبل بها القرآن الكريم أن يكون الإنسان من سلالة القردة، وأرجو أن أقرأ ردكم على صفحات الرسالة الغراء، ولكم جزيل شكري والسلام). (مخلص)

والذي نلاحظه (أولاً) أن رواية مذهب دارون على هذا الوجه غير صحيحة. فإن دارون لا يقول بتسلسل الإنسان من القرد، ولا يلزم من مذهبه أن يكون كل إنسان منحدراً من القردة في أصله القديم.

وكل ما يلزم من مذهبه أن الإنسان والقردة العليا تلتقي في جذر واحد، وأن بين الإنسان والقردة العليا حلقة مفقودة لم توجد إلى الآن.

أما الآية القرآنية فهي لا تثبت المذهب ولاتنفيه، ومن الخطأ البين في اعتقادنا أن نجعل تفسير القرآن تابعاً للنظريات العلمية التي تنقض اليوم ما تثبته بالأمس، والتي يجري عليها الجدل بين المدارس العلمية - أو الفلسفية - على أسس شتى لم يتفق عليها العلماء.

ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه بعض المجتهدين المحدثين في التوفيق بين القرآن الكريم ومبادئ مذهب النشوء والارتقاء.

فالنشوئيون يقولون بتنازع البقاء، وهو مطابق للآية القرآنية: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).

ويقولون ببقاء الأصلح، وهو مطابق للآية القرآنية: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

ومن المشاهدات التي سجلها النشوئيون ما هو صحيح لا ريب فيه، ولكن المذهب يشتمل على نتائج وتخريجات كما يشتمل على مبادئ ومشاهدات، وكل ما جاء فيه من قبيل النتائج والتخريجات فهو في حكم الفروض التي تحتمل النقض والإثبات، ولا يصح أن نفسر القرآن الكريم وفقاً لها وهي لا تزال في طور التدليل والترجيح.

والنظرية السديمية مثل آخر من هذه الأمثلة في محاولات التوفيق بين القرآن الكريم والفروض العلمية.

فمن علماء الطبيعة - والفلك خاصة - من يرى أن المنظومات الفلكية نشأت كلها من السديم الملتهب. وأن هذا السديم تختلف فيه الحرارة فيشقق، أو ينفصل بعضه عن بعض من أثر التمدد فيه، فتدور الأجرام الصغيرة منه حول الأجرام الكبيرة، وتنشأ المنظومات الشمسية وما شابهها من هذا التشقق وهذا الدوران.

فإذا ببعض المجتهدين المعاصرين يعتبر هذا القول فصل الخطاب في نشأة الأجرام السماوية، ويقول أنه هو المقصود بالآية القرآنية: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقتاهما وجعلنا من الماء كل شئٍ حي أفلا يؤمنون).

ولكن النظرية السديمية لم تنته بعد بين علماء الطبيعة إلى قرار متفق عليه.

فهل كان الفضاء كله خلواً من الحرارة، وكانت الحرارة الكونية كلها مركزة في السدم وما إليها؟

ومن أين جاءت الحرارة للسدم دون غيرها من موجودات هذا الفضاء؟ ألا يجوز أن يظهر في المستقبل مذهب يرجع بالحرارة إلى الفضاء في حالة من حالاته؟ أليس خلو الفضاء من الحرارة - إذا صح هذا الخلو - عجباً يحتاج إلى تفسير؟ أليس انحصار الحرارة في السدم دون غيرها أحوج من ذلك إلى التفسير؟

فالقول المأمون في تفسير الآية القرآنية أن السماوات والأرض كانت رتقاً فانفتقت في زمن من الأزمان. إما أن يكون المرجع في ذلك إلى النظرية السديمية فهو المجازفة بالرأي في غير علم وفي غير حيطة وبغير دليل.

واظهر من هذا وذاك جدالهم القديم حول دوران الأرض وثبوتها، أو حول استدارة الأرض وتسطيحها.

فقد تعسف بعضهم في تفسير آي القران الكريم فجزم بكفر القائلين باستدارتها ودورانها، وجعل القول بثبوتها وتسطيحها حكماً قاطعاً من أحكام الدين.

فما قول هؤلاء الآن وقد أصبحت استدارة الأرض مشاهدة من مشاهدات العيان؟

وما قولهم وقد اصبح دورانها مسالة من مسائل الحساب الذي يحصي كل حركة لها كما تحصى حركات كل قطار؟

وهكذا يخطئون في النفي كما يخطئون في الإثبات كلما علقوا آيات القران بهذه النظرية العلمية، أو الفروض الفلسفية التي تختلف الأقوال فيها باختلاف الأزمنة أو اختلاف الأفكار.

وقد تكون محاولات التوفيق مأمونة معقولة كقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير الطير الأبابيل بجراثيم الأمراض التي تسمى بالميكروبات.

فالميكروبات موجودة لاشك فيها والإصابة بها محققة كذلك في مشاهدات مجربة لا تقبل الجدال. فإذا قال المفسر كما قال الأستاذ الإمام أن هزيمة أصحاب الفيل ربما كانت من فعل هذه الجراثيم

فذلك قول مأمون على الجواز والترجيح، ولكنه غير مأمون على الجزم والتوكيد، لان الحفريات التاريخية قد تكشف لنا غداً عن حجارة من سجيل أصيب بها أصحاب الفيل فجعلتهم كعصف مأكول. ومهما يكن من فروض العلماء في مختلف الأزمنة فان القران الكريم لا يطلب منه أن بتابع هذه الفروض كلما ظهر منها فرض جديد، وكلما يطلب منه أن يفتح باب البحث لمن يؤمنون به فلا يصدهم عن طلب الحقيقة حيثما سنحت لها بادرة مرجوة، وقد توافر ذلك في آيات القران الكريم كما لم يتوافر قط في كتاب ديني تؤمن به الأمم، فليس اكثر من الحث فيه على التفكير والاعتبار وطاب الحقائق من آيات خلق الله في الأرض والسماء: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار).

وحسب المسلم أن يعمل بما علمه كتابه في هذه الآية وما جرى مجراها ليعطي العلم حقه ويطلب الحقيقة من حيث يطلبها الفكر الإنساني في عجائب خلق الله بين الأرض والسماء.

أما مدلول الآية كما أشار إليه الرافعي فهو يتسع - كما قال - لجميع المذاهب في خلق الإنسان. وسواء قطعنا الصلة بين الإنسان وسار الأحياء العليا أو ربطناها فذلك لا ينفي أنه في اصله من سلالة من طين. وقد جاء في القران الكريم (وجعلنا من الماء كل شئ حي) ولم يقل أحد أن خلق الأحياء جميعاً من الماء يمنع تسلسل الإنسان من مادة الطين، فان الأصل لا ينعدم إذا خرجت منه الفروع على التسلسل والتدريج، أو خرجت منه دفعة واحدة بغير تسلسل ولا تدريج. وحذار أن نقف في هذه المسألة كما وقف المجادلون من قبل في مسألة الأرض واستدارتها ودورانها فانهم يدعون لأنفسهم ما لا يجوز لأحد أن يدعيه باسم العلم أو باسم الدين، وفوق كل ذي علم عليم.

عباس محمود العقاد