انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 745/أساطير الآخرين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 745/أساطير الآخرين

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . . . الزهاوي يعتقد أن الله هو الأثير

ما لِكل الأكوان إلا إله ... واحد لا يزول وهو (الأثير)

أرجوا أن أقرأ رأيكم في ذلك على صفحات الرسالة أو الهلال وأشكرك سلفاً. . . .)

موصل. عراق

لؤي النوري

لا أدري ماذا قصد الزهاوي في هذا البيت بكلمة الإله وماذا قصد بكلمة الأثير.

فإذا كان يقصد بإله الأكوان خالق الأكوان فليس في جميع التعريفات التي عرّفوا بها الأثير ما يسوّغ نسبة الألوهية إليه، وإنما يجوز أن يسمى الأثير بالمادة الأولى - أو الهيولي - على رأى الأقدمين - في بعض تلك التعريفات.

ولم يثبت للأثير وجود فضلا عن أن يقال أنه موجد الوجود، وخالقه الوحيد!

فهو فرض عقلي عند الرياضيين والطبيعيين:

فرضوه ليعللوا به ما يستعصي عليهم تعليله، كانتقال الجاذبية بين الكواكب، وانتقال الضوء في الفضاء.

وقال به (نيوتن) قديماً لأنه لم يستطع أ، يفهم كيف يجذب الكوكب كوكباً آخر في هذا الفضاء مع امتناع الواسطة بين الكوكبين، وقد سمى هذه الواسطة في بعض كلامه بالروح ليسترح إلى تعليله للجذب والانجذاب.

وقال به المحدثون ليعللوا به مسير الضياء في أجواز الفضاء وقال ماكسويل العالم الطبيعي الكبير (إن أنواعاً من الأثير اخترعت لتسبح فيها الكواكب، ولتنشأ منها أجواء كهربائية ودفعات مغناطيسية، ولتنقل الإحساس من جانب الجسد إلى جانب آخر حتى ازدحم الفضاء مرات بهذا الأثير).

وعقّب جيمس جينس على ذلك في كتابه عن الكون الخفي فقال: وخلاصة ذلك أن لدينا أنواعاً من الأثير بمقدار ما لدينا من مسائل غير محلولة في علم الطبيعة! والذي يبدو لنا أن هذه الفروض قد بنيت على خطأ في فهم الفضاء أو المكان. لأنهم اعتقدوا أن الفضاء خلاء، وأن الخلاء عدم، فوجب أن يملئوه بالأثير.

وقد اتفق جلة الفلاسفة الأقدمين على أن الفضاء ليس بخلاء أو ليس بعدم، لأنه يقاس ويقدر، ولأنه يحتوي الموجودات.

يقال شبر من الفضاء، وذراع من الفضاء، ولا يمكن أن يقال أن عدماً أطول من عدم، وأن هذا العدم أقل من ذاك.

ونحن نعيش في الفضاء ويحتوينا الفضاء، والمعدوم لا يحتوي الموجود.

فالفضاء ليس بعدم وليس بخلاء.

وكان أسلم من فرض الأثير أن يقال أن مادة الفضاء لا تزال قيد البحث والاستفسار. فإن ذلك أسلم علماً وعقلا من الجزم بنفي الحركة في الفضاء، ما لم يكن مملوءاً بما يسمى الأثير.

وقد حاولوا أن يجدوا للأثير هذا خاصة تميزه من الفضاء بحركة أو كثافة أو تقدير فلم يجدوا تلك الخاصة في تجربة واحدة من تجاربهم الكثيرة.

فليس للأثير سرعة تزداد أو تنقص بمرور الأجسام فيه، وليس في الحالات التي تعرض للمادة كلها حالةٌ تتناوله بشيء من التغيير!

ومؤدّي هذا أن الأثير والقضاء مترادفان، فلا فرق بين قولك أن الضوء يسير في الفضاء وقولك أنه يسير في الأثير.

وقد نبه اينشتين إلى ذلك فقال في تعقيبه على نظرية لورنتز عن المغناطيسة الكهربائية والأثير إنما هم اسمان لمسمى واحد!

وقد انتهى الرأي باينشتين إلى تقرير فرضه الجديد الذي يلاقي به مذهب الأقدمين في حقيقة الفضاء، وهو فرضه المشهور عن الجوهر الفضائي أو جوهر الفضاء

فألقى في شهر يونية من سنة 1930 محاضرته التاريخية بجامعة توتنجهام، وأجمل فيها أطراف هذه النظرية التي يوشك أن يستخرج منها العلماء صلة علمية بين تركيب الفضاء وتركيب المادة، وهي ليست بالصلة البعيدة بعد ما عرف عن حركة الضوء في الفضاء، وعن رجوع المادة كلها إلى الإشعاع.

ولا نعتقد أن الأستاذ الزهاوي كان يمحص ما يسمعه عن الأثير وأقوال العلماء فيه، وفي أمثاله من الفروض العلمية.

ومن أمثلة ذلك أنه يقول في رسالة نشرت له حديثاً في مجلة الكاتب المصري أن (اينشتاين يحسب أن الفضاء خاصة من خواص الجسم ثم يدعى أنه عدم محض، والمشاهد أن الفضاء يقاس بالمتر والأقدام ويطول ويقصر بين سديم وآخر وشمس أخرى، والشمس وسياراتها على التفاوت فكيف يقاس العدم؟).

ولا ندري أين قال اينشتين أن الفضاء عدم. وإنما المعروف أن مذهب النسبية يعلل انحناء الضوء بالقرب من الأجرام السماوية بانحناء الفضاء نفسه، فكيف يقول بعدم الفضاء من يقول بانحنائه، ثم يقول بأنه جوهر لعله أصل الجواهر جمعاء.

وقد أشار الزهاوي قبل ذلك إلى مذهب اينشتين في هذا فقال أنه: (فتح باباً جديداً في الفلسفة جعل العلماء يفكرون فيها تعليلا لغوامض الكون على أن أكثر قضاياها لا يرضى لمنطق وأن أرضى الرياضيات على زعمه. أما كون النور في قرب الأجرام يسير في خط منحن عليها فصحيح، ولكني لا أرى أن السبب هو انحناء طريقه في الفضاء. . .).

وقد كان خليقاً بما رواه عن اينشتين أن يصحح فهمه لمذهبه في الفضاء وفي الأبعاد على العموم، ولكنا نحسبه طالع بعض كلامه على نسبية الأبعاد ونسبية السرعة فيها فخطر له أن القياس النسبي ينفي الوجود الحقيقي، وجعله كله مسألة تقدير واختلاف. . . وإنما كان اينشتين يفرق بين تقدير الفضاء في الهندسة الاقليدسية وتقدير الفضاء في رأى ديكارت وتقدير الفضاء إذا أخذ فيه بمذهب البعد الرابع، وهو مذهب اينشتين نفسه في المكان والزمان.

وعلى هذا القياس ربما طالع الأستاذ الزهاوي بعض ما كتب عن الأثير وامتلاء الأكوان به فقال إنه هو الوجود الثابت في جميع هذه الأكوان، وأن ماعداه من الوجود فرض من فروض الأديان.

وقد تخلى عنه الأثير آخر الأمر فإذا هو الفرض الذي ابتدعه الخيال، وإذا به في رأى العلماء هو والفضاء سواء.

وغاية ما يقال إذن في هذا الإله الذي خلقته فروض الخيال أنه أسطورة من أساطير الآخرين. . . .

عباس محمود العقاد