انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 738/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 738/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1947



لصوصية أدبية:

كان صاحب مكتبة. . . في بيروت قد انتهب ديوان (الجداول) للشاعر المعروف الأستاذ إيليا أبو ماضي فطبعه وباعه وربح منه دون أن يرجع إلى صاحبه أو يستأذنه أو يرد عليه شيئاً من الربح، فعمد الشاعر إلى مقاضاته وعهد إلى أحد المحامين في بيروت يرفع دعوى عليه أمام المحاكم ولكن المحكمة ردت الدعوى لأن القانون لا يتضمن نصاً بشأنها ولكن الأستاذ الشاعر كلف محاميه باستئناف النظر في مقاضاة هذا السارق الجريء.

وكان أن عمد ناشر عراقي إلى هذا الصنيع عينه، فأخذ ديوان (الجداول) نفسه وطبعه طبعة ثانية وباع وربح منه دون أن يرجع إلى صاحبه أو يستأذنه أو يرد عليه شيئاً من الربح فعهد الشاعر إلى أحد المحامين في بغداد لمقاضاة هذا السارق الجديد. . .

ثم كان أن غنى الموسيقار المصري الأستاذ محمد عبد الوهاب مقطوعة في إحدى رواياته من شعر إيليا أبو ماضي دون أن يستأذنه أو يرجع إليه فغضب الشاعر أبو ماضي لهذا الغبن وأعلنها حملة شعواء في جريدته (السمير) التي يصدرها بنيويورك على لصوص الأدب والمنتهبين للآثار الفنية في غير تورع ولا رعاية للعرف والقانون والذوق، وقال إنه سيحاسب الموسيقار المصري ويقاضيه قانونياً على استثماره لشعره كما يحاسب صاحب مكتبة العرفان، إذ قد حان الوقت لوضع حد للصوص الأدب في كل مكان كما يقول.

وقد تناولت مجلة (كل شيء) البيروتية هذه القصة وأوردت طرفاً من فصولها نقلاً عن (السمير) ثم علقت عليها قائلة: (إن صاحب الجداول واحد من كثيرين يُغزون في عقر كتبهم كل وقت في العالم العربي، وليس من المعقول أن يكون للأشياء المادية حرمة وحصانة لا تتمتع بهما القضايا المعنوية ومسائل الفكر وليس من المعقول في شيء أن يحكم القاضي على سارق سطل الحليب بستة أشهر يقضيها في السجن ولا يجد في القانون ما يحكم به على سارق نتاج الفكر ومستثمره دون إذن صاحبه ورضاه. بل ليس من المنطق في شيء أن يحكم على سارق الكتاب كقطعة مادية من الورق بالسجن ولا يحكم على سارق الكتاب كقطعة معنوية من الفكر والرأي والبحث). . .

والواقع أن هذه السرقات التي نحن بصددها ليست بسرقات أدبية، فالسرقة الأدبية على م هو مألوف أن يأخذ الشخص أثر غيره وينسبه لنفسه، وهؤلاء الثلاثة قد نسبوا إلى الأستاذ أبو ماضي شعره وأثره ولكنهم انتفعوا بما أخذوا وربحوا منه مادياً ولم يشركوه في هذا الربح، بل إنهم ربما فوتوا عليه بهذا العمل ربحاً أكبر وأجزل حتى لو أشركوه معهم، وإذن فالسرقة سرقة مادية كسرقة المتاع.

وليس من قصدي أن أكيّف هذه السرقة من الناحية القانونية، ولكني أقول إنها على أي حال لصوصية جريئة يجب أن يعاقب مقترفوها كما يعاقب سارقو المال والمتاع، وإذا كانت قوانين الدول العربية كلها قد أغضت عن اعتبار هذه المسألة وتقديرها فإن من الواجب على الأدباء ورجال الفكر في العالم العربي أن يفزعوا لحماية أنفسهم وصيانة آثارهم بأن يتداعوا لوضع مشروع يدفع عنهم هذا الاستهتار، ويقرر عقاباً رادعاً لأولئك المستهترين أو فليتوجهوا إلى الجامعة العربية لإنجاز ما هي بسبيله من وضع قانون عام في الشرق العربي لحماية الملكية الأدبية.

لا تنتظروا حتى ينتصف لكم رجال القانون أيها الأدباء، بل بادروا أنتم بالانتصاف لأنفسكم، فنحن في زمن يدفع فيه كل إنسان عن نفسه.

أليس من العجيب أن ترجع الجامعة العربية إلى رجال القانون وإلى موظفي الحكومات العربية في وضع القانون الذي تريده لحماية الملكية الأدبية ولا ترجع إلى الأدباء وهو الذين يعرفون الأبواب المفتوحة للسطو على هذه الملكية؟!

يا قوم حسبكم:

في أواخر القرن الماضي كتب الشيخ أحمد فارس الشدياق وصفاً للبيئة المصرية وطبيعتها قال فيه: (وإن من خصائص البيئة المصرية البارزة أن الطربوش فيها يضيق، وأن البرنيطة فيها تتسع وتتسع ثم تتسع).

والمعنى في هذا التعبير الطريف أن المصريين مغفلون بلهاء، فهم يعيشون في بلادهم غرباء، على حين ينعم الأجانب الوافدون بكل ما فيها من خيرات ومبرات. . .

ولقد مضى أكثر من نصف قرن على هذا الكلام ولقد تطورت الدنيا وتنورت الأذهان وأصبحت كل أمة تبحث عن نفسها وكل فرد يعمل على تقويم شخصيته، ولكن يظهر أن المصريين لم يتحرروا من تلك الطبيعة القديمة، فهم لا يزالون يؤثرون أن يعيشوا في بلادهم غرباء، ولضيوفهم كرماء، أو قل أرقاء، ومصداق ذلك ما بدا من بلدية الإسكندرية الكريمة الموقرة إذ قررت إقامة تمثال في حديقة مكتبة الإسكندرية الجديدة للشاعر اليوناني قسطنطين كفافي. . .

وقد يعنيك أن تسأل: ومن يكون ذلك الشاعر اليوناني وماذا أسدى للثقافة وأجدى على مصر أو بذله في خدمتها حتى تؤثره بلدية الإسكندرية بذلك التخليد على أبناء مصر من العظماء والأفذاذ ولكنك لا تلمس أي مبرر من تلك المبررات، ولعل الأمر لا يخرج عن اقتراح تقدم به عضو يوناني في القومسيون إكراماً لواحد من بني جنسه فسارعت البلدية بالموافقة على ذلك نزولاً على قاعدة: كرماء لضيوفنا!

لقد أذيع أن رابطة أدباء الإسكندرية غضبت لهذا التصرف العجيب واحتجت لدى وزارة الداخلية على قرار البلدية (بإقامة تمثال لشاعر يوناني لا أثر له في خدمة القضية المصرية ولا الثقافة المصرية ولم يكتب كلمة واحدة لمصلحة مصر قديماً أو حديثاً) وقالت في احتجاجها (لقد كان الأولى بالبلدية أن تقيم في ساحة مكتبتها تمثالاً لشوقي أو حافظ أو البارودي أو المنفلوطي أو مصطفى صادق الرافعي أو غيرهم، فإن لديها الكثير الثمين من تراث عظماء المصريين قديماً وحديثاً الذين جملوا لواء الاستشهاد في سبيل مصر وإذاعة فضل بلادهم وهم أولى بالتخليد وأجدر بالتكريم. .)

ونحن على يقين من أن وزارة الداخلية ستتلافى هذا القرار، ولكنا نرجو أن لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل الواجب أن نؤدب تلك البلدية الغريبة عنا، والتي لا تحترم كرامتنا، ولا تعتز بقوميتنا، فكأنها بلدية أثينا لا بلدية الإسكندرية. .

فيا قوم حسبكم، اتقوا الله في وطنكم إن كنتم مواطنين، واتقوا الله في مصر التي آوتكم إن كنتم وافدين. .

(الجاحظ)