انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 735/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 735/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1947



اشتراك في الإثم

للشاعر القصصي (بول بور جيه)

بقلم السيد كمال الحريري

(تتمة ما نشر ف العدد الماضي)

وفي الصباح صحت عزيمتي، على الكتمان. لا أبداً لن افضح امرأة صديقي، ولن يعلم صاحبي عن خيانتها شيئا: فما هو أول زوج ولا أخر زوج تخونه زوجته، ويعيش مع ذلك هادئا قريرا شارل صديقي، يذهب في حب امرأته أنزه المذاهب وأقربها من التقديس، لذلك سيكون في اطلاعه على خزيها وشنارها. وضع للسلاح في يده ليقبل نفسه به. فمن الخير إذا أن يجهل الأمر كل الجهل أما فيما يتصل بي، فإني أرجو أن أتناسى مشهد هذه المصادفة الغريبة، ولا سيما أن (مرغريت) لم تراني أبداً وتجهل اطلاعي على أمرها وسوف تجهله إلى الأبد. فمن الحتم على أن ارحل بقطار معاكس لقطارها يبرح (جه ن) في نفس الساعة. ولقد عولت على تأخير ذهابي إلى المحطة كيلا أتعرض لملاقاتها هناك برغم تحقيقي من أنها ستأتي المحطة بمفردها، فليس من الجائز أن تكرر مخاطرة الأمس الحمقاء فتبرز للملأ مع عشيقها على إني لم اقدر نشوة الخطر الخبيثة التي تدفع بالمحبين إلى أن يقتحموا كل خطر مهما كان نوعه أو زمنه. ذلك أن في المرأة التي تستهيم بصاحبها وتتدله بهواه فتهبه سرا جسمها وقلبها شهوة طاغية للظهور في ملأ من الناس، مستندة إليه معقودة الذراع بذراعه، كأنها تبغي الإعلان للناس عن أنها امرأته الشرعية؛ ترى لماذا تفعل هذا؟ إني لا أستطيع لذلك تفسيرا ولكنه يقع غالبا. والمآسي العرضية التي تقوض سعادة الأسر بنسبة 99 في المائة ليس له من سبب إلا ما ذكرت. مع أن شدة الحذر واليقظة من الزوج كافية لمنع حدوثها. واحسن مثال على ذلك واقعة صديقي، على إني في تلك الليلة المؤرقة خرجت باكرا من الفندق وفي نيتي إلا ارجع إليه إلا متأخراً حين أكون مرغريت قد غادرته إلى المحطة، فبعد أن جلست فترة في المدينة ذهبت في الساعة العاشرة إلى زيارة (القصر الأحمر) (باله روج) لمشاهدة لوحات الفنان (فانديك) وادع لك أن تحكم على مقدار ذهولي ودهشتي حين طرق مسمعي مجددا، في صالة هادئة من صالات ذلك المتحف، جرس الصوت نفسه الذي هزني وزغرني البارحة مساء تحت أشجار البستان. لقد كانت هي نفسها هناك نعم وبرغم تخوفي واحتسابي من ملاقاتها ولو بمفردها. حبذا لو كانت حقا وحدها! ذلك أن صوتا كان يحاورها، هو صوت رفيقها في أمسية البارحة. وكنت أمام لوحة المركيزة (باؤل) المشهورة. الاتذكرها؟ أنها تمشك بكفها البيضاء قرنفلة حمراء وترتدي فستانا اخضرا غامقا كان العاشقان يدنوان مني شيئا فشيئا. كنت أحس ذلك من وضوح حديثهما بالتدريج في اذني، فهما يتخاطبان بصيغة الجمع وكان هذا التحفظ القليل منهما تنبيها لمن عساه أن يسمعهما أو يعرفهما من الأصدقاء والمعارف. عند ذاك يكون في مقدورهما تبرير نزهتهما المنفردة مع بعضهما بانتحال مصادفة ملاقاتهما في بهو المتحف، وسكتا فى حين غرة ولكني بفضل حاسة السمع اليقظة التي ترهف في مثل هذه اللحظات، ميزت وسوسة هامسة فيما بينهما لقد خافا فجأة من صوتهما لان ماري أبصرتني ولا ريب عندي في أنها أسرت حينذاك لعشيقها هذه الكلمات المخيفة الهائلة لديها (صديق لزوجي) ومع ذلك لم تغادر الصالة بل كانت خطواتهما تقترب قيلا قليلا مني ووقعهما على بلاط الصالة يجعل صمت الأصوات أكثر وضوحا وجلاء. هناك تساءلت وعيناي مثبتتان في اللوحة وذراعاي معقودتان إلى صدري في متأملة غارقة: أليس الأولى بي الزوغان عنها وتجنب محنة ملاقاتها المربكة؟؟

ليس من المعقول على أي حال استمراري هكذا جامدا دون حراك، لأني بذلك أتخذ هيئة من يراها فعلا، ويتظاهر بعدم رؤيتها، وتلك وقاحة بلا مراء ذلك أن عدم إرادتي النظر إليها هو الإقرار بأنها تصاحب رفيقا أما إذا حييتها فلسوف أفسح لها المجال لكي تشرح موقفها وتتلل بعذر من واجبي التظاهر بتصديقه ومع إني فكرت وقدرت كل هذه الحلول لوقفي فإني لم ارم مكاني. ووقف الحبيبان أخيراً ورائي. لا جرم أن المرأة كانت تتساءل عما إذا كنت امثل دورا. وعلى أي حال لم ترد أن تكون هي البادئة بالاقتراب مني غير أنها اجترأت أخيرا اجتراء المرأة التي تبغي حماية هنائها فجهرت بصوتها لكي تضطرني إلى الالتفات إليها قالت لصاحبها:

- انك لعلى حق يا سيدي فهذه الصورة من أروع وأبدع الصور في الرواق كله، ولن أنسى لك جميل تعريفي بها وإظهاري على جمالها. وإني لجد سعيدة بالمعاونة الطيبة التي جمعتني بك، وأمل أن ألقاك في باريس. . أما الآن فينبغي لي أن أعود سريعة إلى المحطة كي لا يفوت موعد القطار. لقد كان من المحال إلا اسمع صوتها، ولكني أم أتحرك حركة ولم انقل قدما ولم أكلمها كلمة. فترددت (مرغريت) لحظة ثم ابتعدت وكأنها هي أيضاً لم تبصرني (مع أن خطابها المرتفع لم يكن موجها إلا إلى) واقتفى الفتى أثرها بعد بضع لحظات كنت أثناءها ما أزال على هيئة استغراقي الذاهل غير المعقول في صورة (لادام) للرسام (فانديك) ولما ابتعدت خطوات حبيب مدان رددتيه عن الصالة واستأنفت سيري المعتاد انتابتني نوبة من الندم والألم من الصعب وصفها: إني بتظاهري عدم مشاهدة مارغريت عرفتها بجلاء بهائها ودللتها على جرمها. ولا ريب في أن أول عمل سيقوم به الفتى حين رجوعه إلى الفندق هو مراجعة قائمة النازلين فيه. وماذا بعد عثورهما على اسمي إلا أن يستخلصا أمر اكتشافي وجودهما في هذا الفندق! أن عدم التفاتي إليهما في صالة (القصر الأحمر) يعني إني لم أجد في مرافقتهما مفاجأة غريبة، وإلا كانت المباغتة دفعتني إلى بعض الحركات والإشارات وإذا فالنتيجة المنطقية هي: إني لا أستطيع أبداً الاستمرار في تظاهري أمام امرأة (شارل) إني اجهل علاقتها بعشيقها. هي تعلم إني ادري لها عشيقا وهي تدرك إني اعلم من هو جيدا ليت شعري كم ضيقة هي المسافة التي تفصل الواحد منا عن الآخر في العالم. . لقد كنت أشفق كل الإشفاق من اشتراكي في الإثم، وإذا بي الآن احشر نفسي فيه حشرا. والمجرم حين يستوثق من معرفتنا بجرمه ومن حمايتنا إياه بسكوتنا عنه، له كان الحق أن يعتبرنا متواطئين معه على الجرم لقد كان الحزم والحكمة يقضيان على أن اشترك (في الملهاة) التي دعتني إليها جملتها. فلو كنت ملتفتا إليها ببساطة، لقلت لها: أهي أنت يا مدام؟؟ حينئذ كانت تعرفني بصاحبها معلنة مصادفته في (جه ن) ولكانت أنبأت بصاحبها بذلك زوجها بكتاب كما كان في مقدوري أن اكتب أنا إليه أيضاً على حين أنها ملزمة بالسكوت أمام زوجها كيلا يناقض قولها ما لعلني أتحدث به أنا إليه (هذا إذا كان في عزمي أن أتكلم) لسوف تسمم هذه الرعونة التي ارتكبتها انا، علاقتنا إلى الأبد فهذا الحزم في غير موضعه مني هو أشد شئ يدعو إلى الاتهام. لهذا كان من اثر هذا الموقف الخاطئ. أن بات من المحال على الرد على كتاب صديقي شارل، طيلة الأيام التي استغرقتها سياحتي. ولعلها المرة الأولى منذ طفولتنا التي لبثت فيها مدى أسبوعين دون إثباته بصحتي وأخباري أو أنبائه عن صحته وأخباره. وحين حللت باريس بقيت أسبوعين أيضاً دون أن أكلف نفسي زيارته مع ثقتي بان ذلك التغيب هو اشد مخالفة للصواب من مسلكي في رواق (القصر الأحمر) فليس من المعقول أن لا يندهش شارل من انقطاعي عن زيارته، فلا يستفسرني عن الأسباب التي كنت مصمما على كتمانها عنه، وإذاً فأي معنى لتأخري عن زيارته!

كل هذا كنت أعلله واستخلصه ولكن التفكير في إني سأشترك في قذف افحش شتيمة يمكن لرجل أن يتعرض لها في عرضه كانت تثني خطاي إلى أن كنت ذات يوم في منزلي أفكر في الوقت الذي يجب فيه استئناف علاقاتي مع أسرة (شارل) وإذا بخادمي ينبئني بان سيدة ترغب في لقائي فأمرته أن يدلها. وإذا بي ابصر (مرغريت روية) تدخل غرفة الاستقبال وكانت أول كلمة لقيتني بها (إني هالكة) ولم تزد عليها شرحا واو تفسيرا. ثم انفجرت كالمجنونة قائلة: المصادفة وضعت سري بين يديك، وأنا اعلم انك لم تش بي إلى (شارل) وبسبب هذا وحده كان انقطاعك عن زيارتنا. ولكن بين جنبيك قلبا نبيلا، يرثى لحال امرأة تعسة. . أعيد عليك القول باني من الهالكات. . . نعم وإني حامل. . . لم تكن الشقية تطلب مني الاشتراك السلبي في الآثم فحسب، بل الاشتراك الإيجابي أيضا. فلقد عادت من إيطاليا منذ ثلاثة أيام موقنة من أنها حامل لشهر. . . وينبغي لي إضافة ما أقرت به أيضاً خلال العبرات والشهقات، قالت: أنها من حين تعلقها بصاحبها أخذت تنتحل الأعذار باختلال صحتها كي تعيش بعيدة عن زوجها. ولقد تهددتها هذه الأمومة اللائمة في الوقت الذي كنت فيه أنا صديق بعلها الوفي وخله الأمين، هناك في النزل ولماذا؟ لكي اكتفى فقط بما رايته وسمعته. . . . أما هي فقد فكرت بالفرار مع عشيقها، وحاولت أن تسلكه في طريقها بأساليب شتى، لم تزدها كلها إلا معرفة بالعواطف الكاذبة التي يكنها لها ذلك الرجل حتى الانتحار فكرت فيه، لولا أن غريزة صون الحياة ردتها عن فكرتها لأجل هذا جاءت إلى في نوبة من نوبات هواجسها وهذيانها تستجدي عطفي وتستنجد رحمتي.

ماذا؟. . آه! ما أوهي ذلك الحاجز الذي يفصلنا عن الجريمة؟ لقد أتت تبتهل إلى أن أرافقها إلى طبيب لستعطفه وتتوسل إليه لماذا؟ بمساعدتها في الإجهاض. . . أراني محتاجا إلى أن أحدثك عن جوابي ونصيحتي لها ورجائي أن تحفظ شبابها وتبقى على ذلك الطفل الذي تحمله في أحشائها؟! لقد سمعتني اردد في إلحاح:

- الأولى بك أن كنت ترجين لأمرك خلاصا أن تعترفي (لشارل) بكل ما حدث. . . وبهذا تحتفظين بطفلك وثروتك وتجدين الوسيلة إلى طلاقك ذلك خير من تحمل جريرة القتل وبينما كنت أكلمها هكذا، كانت إمارات الهدوء تعاودها قليلا قليلا فانسحبت من عندي بعد إذ أعطتني ثقتها من أنها لن تقترف جريمة الانتحار ولا قتل طفلها. وفي الغد وضعت حدا لترددي في الذهاب إلى منزل (شارل) صديقي. فلم تحن الساعة العاشرة حتى كنت عنده، بعد وثوقي من لقائه في ذلك الوقت لقد أشعرني استقباله لي بأنه كان فارغ البال من المأساة الأليمة التي كان منزله لها مسرحاً قال لي بلهجة المعاتب وهيئة المداعب.

- انك لا تستأهل مني أن أعرفك بعد الآن ما معنى هذا التصرف الغريب؟ أن (مرغريت) لم تعد من هناك بل أبت من (إيطاليا) مبتهجة بسياحتها. . .

ولكن قل لي بحقك، ما الذي حدث لك أنت؟؟ أظنها مغامرة غرامية جديدة. . لعمري أليس في نيتك الاستقرار والانتظام في حياتك. . .

ومع ذلك فالسعادة في الزواج. . . نعم وكل السرور والنعيم فيه، ثق بذلك وصدقني يا صاحبي. . أما أنا فلن أعيد عليك الأسباب التي ادعيتها لذل الزواج المخدوع تبريرا لسكوتي وغيابي عنه. . . وفي مساء ذلك اليوم كنت أتعشى معه بجانب امرأته، التي كان في وجهها الساكن الجامد ما ينم على أنها نسيت تماما نوبة الألم التي جازتها وهول الخطر الذي كان يتهددها. . . على إني فهمت أي حل حلت به عقدة هذه المشكلة المؤسية. . . وذلك إني كنت عند صديقي (شارل) بعد شهر من زيارتي الأولى، وكنا ندخن منفردين حين بدرني قائلا:

- أني لجد مغتبط يا صديقي: لقد كاد حلمي أن يتحقق فأنا أمل بعد مدة أن أغدو أبا. . . لوليد ستكون لا شك أنت (إشبينه). . .

لم تكد تمضي على هذا ثمانية شهور، حتى ولد ذلك الطفل الذي اخبرني ابوه (المدعي) عن زنته لبالغة. فقال في كبرياء وافتخار لم يخطر لي وفتئت أن اسخر منهما.

- نعم يا صديقي، انه يزيد كيلو غراما عن وزن الطفل. العادي ثم انه ولد قبل الميعاد المنتظر لولادة الأجنة. . . ستة شهور ونصف فقط. . . أليس ذلك عجيبا!؟ لقد تملكني الخوف منه بادئ الامر، ولكن الطبيب طمأنني وهو طبيب من النوع الممتاز عرفت (مرغريت) عنوانه على سبيل الصدفة بواسطة إحدى صويحباتها لدن عودتها من (إيطاليا). . . (واحفظ عني يا صديقي. . . لقد تألمت المسكينة بالوضع اشد الألم، حتى إني لم أمل أن اصبح أباً. . . بيد أن ذلك لم يكن له كبير خطر لان الطبيب عرف كيف يعتني بها الاعتناء المطلوب. . . وبينما كان شارل يفضي إلى بسعادته الكاذبة، كنت أذوب خجلا وأملاً في نفسي. وفي الواقع لم اكن واحدا من أولئك الذين ائتمروا به حتى يثبتوا في ذهنه الوهم الفاحش الخادع الذي سيعيش ويموت على لضلاله وبطلانه؟

على إني علمت من ذلك أن مرغريت حين بارحت منزلي، ذهبت فورها إلى طبيب من الأطباء وعرضت عليه عملية الإجهاض، ولكن الطبيب نصح إلى (زبونته) المرتاعة بالعودة إلى زوجها، وبأن تزن نفسها حين تقترب ولادتها بإقناعه بتاريخ لحملها منه. . . يكون. . بعد ذلك مقاربا للحقيقة أكنت على حق أم في ضلال بعيد لعدم إفشائي الحقيقة في حينها؟؟ أمصيباً كنت أنا بالسكوت أم مخطئا؟ إني وقد تعاقبت على هذه الحادثة سنون عدة ما افتأ أتساءل وأقاول نفسي بكل هذه الأسئلة. ولكن دون أن اظفر لها بجواب. . . ترى هل أصبت أم أخطأت بغمسي في ماء (التعميد) لذلك الطفل الذي أنا اعرف الناس بابيه؟! لم تمض خمسة شهور على ولادته حتى وجدت أمه الوسيلة إلى إفساد ما بيني وبين زوجها الذي لم أجر أنا منع نزعي معه، لان التردد على ذلك المنزل كان يسبب لي كثيرا من الغصص والندامة.

ولعلك تفهم جيدا علة عدم مرافقتي لك إلى ذلك المنزل في (جه ن). أمن اللازم اعترافي أنا الآخر بان عدم حلولي في ذلك الفندق مراعاة لشعور صديقي رايموند؟. . . ومع ذاك لم انفك أسائل نفسي منذ ذلك الحين، ترى ما عساني كنت فاعلا لو أني مكانه؟! تجاه صديق صدوق، يعد الصمت عن مثل هذه الجريمة جريمة ابلغ وأنكر كما يعد إفشاؤها فظاعة ما بعدها من فظاعة.

وفي هذا، ما يبرهن على انه يجعل أحياناً أن يجهل المرء أسرار غيره أن من أمن شئ واسلم عاقبة في هذه الحياة الدنيا، أن تغمض عينك فلا ترى وتسد أذنك فلا تسمع شيئا عن مثالب ونقائض الآخرين ذلك السبيل الأوحد كي يظل الإنسان على خالص طهره ونقائه ولكن هل ذلك مستطاع؟

حلب

كمال الحريري