انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 734/رحلة إلى الهند

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 734/رحلة إلى الهند

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 07 - 1947


5 - رحلة إلى الهند

غاندي في دهلي وفي المؤتمر

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

(تتمة)

ارتقب الناس قدوم غاندي إلى دهلي أثناء اجتماع مؤتمر العلاقات الأسيوية. فإن حدثا عظيما كهذا يعول عليه الهنادك في الإبانة عن حضارتهم ومكانتهم، والتمهيد لدواتهم في آسيا وفي تأييد آسيا لهم في العمل للهند المستقلة - لا يغيب عنه الرجل الذي يدعوه الهنادك (أبا الأمة) والذي هو اعظم زعيم سياسي وديني بينهم.

وكأن غاندي قبل اجتماع المؤتمر يطوف في إقليم بهار، وهو إقليم في شرقي الهند غربي بنغالة، ثارت فيه فتنة بين الهنادك والمسلمين والمسلمون قلة لا حول لها هناك فصال عليهم الهنادك، وفتكوا بهم وقتلوهم قتلا عاماً لا يفرق بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير. وكأن لهذا المذابح دويها في أرجاء الهند وأثرها في هيج الشر بين الفريقين وقد هاجر كثير من مسلمي بهار فرارا بأنفسهم ويأساً من أن يعيشوا في ذلك الإقليم بعدما شهدوه من هول تلك الوقائع. ورأيت للمهاجرين محلة في كراتشي كأنهم لم يشعروا بالأمن إلا في أقصى الغرب في ولأية السند، حيث للمسلمين الكثيرة والغلبة وهاجر جماعات منهم إلى إقليم أخرى.

ذهب زعماء المسلمين والهنادك إلى بهار حين ثارت الثائرة، وطوف غاندي في أرجائه يسكن الهياج ويطفئ الثائرة، ويحاول أن يصلح ما أفسدته البغضاء والعدوان والقسوة والفظاعة فلبث اشهرا يجول في الإقليم.

ثم جاء إلى دهلي أيام المؤتمر ونزل في محلة الكناسين وهي تسمى بهنكي كولوني (مستعمرة الكناسين). وفيها دور صغيرة نظيفة بنيت لهؤلاء الكناسين وهم من المنبوذين ولغاندي مسكن بينهم في دار لها فناء واسع في صدر معبد صغير وحجرات من الحصير نزل غاندي في واحدة بجانبها عبد الغفار خان زعيم ولأية الحدود الشمالية الغربية الذي يسمى غاندي الحدود.

وكأن الناس يجتمعون إلى غاندي كل مساء قبيل الغروب ليشهدوا صلاته ويسمعوا خطبته.

وقد ذهبت مرة فرأيت إلى يمين الداخل جمعا حاشدا وقوفا وغاندي على منصة مشرقا على الحاضرين وإلى يمينه عبد الغفار خان حاسر الرأس كعادته. . . فانتبذت مكانا أرى واسمع، سمعت صبية هندية تنشد أناشيد بلغات مختلفة منها سورة الإخلاص بالعربية. وسمعتها تقول في أناشيدها راما كريم، راما رحيم بهذين اللفظيين العربيين.

وراما أحد الأبطال أو الآلهة في الدين الهندي.

وهذه الأناشيد من كتب مقدسة مختلفة للهنادك والمسلمين والفرس القدماء الخ ويريد غاندي أن يقرب بين الناس ما استطاع باقتباسه في صلاته من كتب مختلفة.

وقد عارض بعض الحاضرين يوما في تلاوة أي من القرآن فترك الصلاة في ذلك اليوم.

ولما جاء للصلاة يوما آخر قال أنه تلقى رسالة تطالبه بأن يكف عن تلاوة القرآن في صلواته أو يترك معبد بلميكي (حيث يقيم) وسال الحضور أفيهم من ينكر عليه تلاوة آيات من القرآن، فرفع نفر أيديهم قائلين أنهم لن يمكنوه من الصلاة أن تليت آيات من القرآن فترك الصلاة وصمت قليلا وقال أن الصلاة ذكر الله لتطهير القلب ويستطيع الإنسان أن يصلي صمتاً.

ثم قال في خطبته التي يلقيها بعد كل صلاة: أنه ليس بالرجل الذي يحجم عما يراه واجبا؛ ولكن دعوته إلى ترك العنف أوحت إليه أن يترك الصلاة إذا اعترض عليها أحد ولو كان صبياً واحداً.

ولكن هذا لا ينبغي أن يؤول بالجبن. أنه ترك الصلاة ليتجنب الجدال والعنف. أن من عمل الشيطان وقد جاهده طول عمره.

ثم قال: على الذين ينكرون صلاتي لا يشهدوها فإن شهدوا فليقتلوه أن شاءوا. أنه لن يقلع عن ذكر رام ورحيم وهما عنده اله واحد. وأنه يموت مطمئنا ذاكرا هذين الاسمين.

أن كف عن ذكر رام ورحيم فكيف يستطيع أن يلقى الهنادك في توكلي والمسلمين في بهار وهنادك نوكالي ومسلمو بهار قتلوا اضطهدوا في بعض الفتن.

ولما هم بالانصراف تنازع الحاضرون فخطب فيهم قائما خمس عشرة دقيقة وقال فيما قال: أن الغضب لا يجدي نفعا؛ وأن عليهم أن يفكروا كيف يداوون جروح البنجاب دون أن يؤذوا أحداً فإن هذا ليس من دينهم.

وأنصرف غاندي إلى حجرته وتدخلت الشرطة لحفظ السلام. وكأن ذهابي إلى مقام غاندي في مساء الخميس 10 أبريل انتظرت بعيدا حتى فرغ من صلاته وحديثة؛ فجاءني عبد الغفار خان وشاب من أنصاره اسمه محمد يونس ودعواني إلى الدخول على غاندي في حجرته؛ فوجدته قاعدا على الأرض مستندا إلى الجدار وعليه إزراً قصير عاري الصدر والظهر. فتحدث عن اللغة العربية وقال أنه حاول أن يتعلمها وأنها لغة واسعة جدا وقال ضاحكا أن للجمل فيها مائتي اسم. وقال أنه قرا القرآن بالإنكليزية وبالأردية وأنه يؤثر قراءته بالأردية لأن بها كثيرا من الكلمات العربية فهو يقرا فيها كلمات من القرآن يجد فيها روحه.

وسألته: أكشفت في تجاربك الطويلة بين البؤساء عن دواء ينقذ الإنسانية من البؤس؟

قال: لم اكشف عن هذا الدواء ولكني أعدت الكشف عنه هذا الدواء هو الحق وتجنب العنف الحق هو الدواء. قلت أن المسلمين كذلك يجلون الحق ويقدسونه حتى يسموا الله تعالى - كما سماه القرآن - الحق. قال اعلم هذا.

ثم قال أنه يتكلم كثيرا ولا يجد من يصغي إليه. ولذا يود أن يطيل معنا الحديث ولكنه على موعد.

وشهد غاندي المؤتمر مرتين شهد إحدى جلساته وحفلة الختام وتكلم في المرتين في اتفاق أمم آسيا وفي توحيد العالم كله.

عبد الوهاب عزام