انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 733/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 733/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

مجلة الرسالة - العدد 733
من ذكرياتي في بلاد النوبة:
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 07 - 1947



إلى عُنيبة!!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

ما كاد القطار يتحرك من أسوان متجها إلى الشلال. حتى أحسست وزملائي براحة لا تدانيها راحة، وهدوء لا يماثله هدوء فقد مكثنا بأسوان خمسة أيام بلياليها على الرغم منا، إذا إننا لم نجد أمكنة في الباخرة التي ستنقلنا إلى هذا المكان النائي البعيد في بلادنا المصرية.

وعجيب أن نشعر بالراحة والطمأنينة، ونحن في طريقنا إلى بلدة لا نعرف عنها شيئاً، ولا ندري من أمرها لا ما يرغب عنها مما استمعنا إليه من أفواه المتحدثين - ولكن هذا دائما شعور كل مسافر فانه يود أن يصل إلى غايته بأي ثمن.

ولا يمكنني بوجه من الوجوه أن اعبر عن مقدار الرهبة التي سيطرت علينا، والخوف الذي ملا قلوبنا عندما وصل القطار إلى الشلال. وعندما شارفنا النيل، باتساعه وروعته. . . ووقف القطار وزكمت أنوفنا رائحة الشواء العجيب. . شواء السمك، والطعمية وألوان مختلطة الملوثة بالتراب، والرمال التي تهب مع الريح من فوق السفح والجبل من هنا وهناك. .

وركبنا الباخرة البطيئة (توشكي) وهي إحدى البواخر المصرية التي استولت عليها الحكومة السودانية ظلما سنة 1925، وأخذنا أماكننا في ثلاث مقصورات متجاورة، وسارت الباخرة في الثانية مساءاً رويداً رويدا، تشق صفحة الماء في بطئ، وكأنما هي شيخ محطم أثقلته الخطوب، وآدته فوادح الزمن، فمضى يعدو، ويجمع قواه المتهدمة ويلهث ويحشرج، ومع هذه تخونه دائماً قواه، ولا يحصل من هذا كله إلا على ما يكفيه ليسير بطيئاً متئد الخطا، كأنما يجر وراءه جبال الدنيا بأرسان من حديد. .!

يا لله: إننا لا نري من هنا أو هناك، سوي جبال شامخة، ينهي تلول من الرمال. . ما أروع هذا المنظر العجيب. . جبال مسراء، وأخري حمراء قانية، وبينها رمال مناسبة منحدرة، تخالها أنهار من الذهب الوهاج.!!

وهنا وهناك على الشاطئ من الجانبين نجوع تختلف باختلاف طبيعة الأرض، فهذا نجع يرتفع عن شاطئ النيل بمتر أو مترين على الاكثر، ويحتضنه الجبل في حنان ودعة، كما يحتضن الأب الرحيم ولده في حرارة الشمس اللاذعة خشية أن تفتك به، وتضربه ضربة لا يفيق منها مدى الحياة.

وهذا نجع آخر يسير مع الشاطئ في تتابع وتناثر. . بيوت متواضعة متفرقة أن صح أن تسمي هذه الأكواخ المتواضعة بيوتا وتسير مع الشاطئ ألفي متر أو تزيد، بيد إنها ليست عريضة عامرة بالسكان، آهلة بالناس، ولكنها ضيقة لا تكاد ترى فيها أثراً من الحياة، اللهم إلا أشباحاً هزيلة ضعيفة، تبدو عليها آثار الفاقة، وسيما الضنى واللوعة، والأسى والهمود.

وهذا نجع ثالث تخاله ميتا لا يتنفس فيه حي، ولا يعيش فيه مخلوق، ولكن الباخرة إذا توقفت وارتفع صفيرها في الجو، انبعث الرجال والنساء من كل حدب وصوب يتلقون (القافلة). التي تسير في عرض النيل على بركة الله، تحمل لهم الزاد والمؤن، والكسى والمتاع. . أنهم ينتظرونها مرة في كل أسبوع قادمة من الشلال، ومرة أخرى قادمة من حيفا، وفيها البريد. . حتى إذا أرتفع لها في الهواء دخان، وعلى لها صوت، انطلقت الحناجر مدوية من هنا وهناك، في فرح ومرح وبشر وسرور، فهذا موعد الرسائل من الأحباب والأزواج. . . والأباء والأعمام.

أجل فأهل هذه النجوع يحيون وأكثرهم نساء مترملات أو في حكم المترملات، فهن لم يفقدن العائل بالموت، ولكنهن فقدنه بالبعد والفراق، وطول المسافة التي يضل فيها الرسول، والنوى الذي يكاد تتقطع معه في سبيل الوصول واللقاء. .

وهذا نجع رابع - ومثل كثير - مرتفع جدا، فهو على ارتفاع خمسين مترا تقريبا من سطح النيل، على ربوة مرتفعة صخرية، عليها المساكن شامخة على الرغم من حقارتها، عزيزة مع ما هي فيه من ضآلة الشان، وقلة القيمة. أن الباخرة لتقف أمام هذا النجوع كأنما هي ليست حقيرة تستجدي الاكف، وتطلب من الناس المعونة والإحسان.!

يا لله! ما اعجب هؤلاء الذين يقبلون من فوق الجبل من الرحال والنساء، والبنات والأولاد الصغار في سرعة عجيبة، يقفزون من فوق الصخور، على مسافات شاسعة، بسرعة توقعك في الحيرة والخوف، تضن بأن أحدهم سينحدر إلى الهوة العميقة لا قيامة له منها، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل. كأنما بينهم وبين هذه الصخور المحدبة الدقيقة عهد وميثاق، لا تؤذي أحد منهم أو تناله بمكروه. وما اعجب مظهرهم وهم يفدون زرافات ووحدانا في ثياب بيض، وعمائم مثل الثياب. تتماثل كلها في طرازها وهيئتها وحياكتها. . وما الثوب إلا قميص له جيب واسع، وأكمام فضفاضة والعمامة مكورة في ضخامة تأبى القلة، وتأنف من البخل والتقتير، ومن تحت العمامة ترى هذه الوجوه السود، وتلمع تلك الأسنان الناصعة البياض، وتلك العيون الحوراء. وتلوح من جيب القميص تلك الصدور السود. ومن اسفل القميص تلك الأرجل المفلطحة. . إنه لمنظر يستهوي الأفئدة. ويسبي العقول، وخاصة تلك السذاجة التي تدفعك دفعا لاحترام هؤلاء، أو بالحرى الرثاء لحالهم، والإشفاق بهم، والعطف عليهم اجل. فانك إذا تفقدت احوالهم، واطلعت على مواردهم، أخذ العجب منك كل مأخذ وملكت الدهشة عليك عواطف. ووجدت تنفسك متسائلا في إلحاح: من أين يعيش هؤلاء؟

لن تجد جواباً شافياً على تسائلك، سوي الإيمان المطلق والتسليم المطلق. الإيمان بالله الخالق الاكبر، والتسليم المطلق الذي لا ينسي، ومحال أن ينسي عبدا خلقه وسواه، وشق سمعه وبصره، فخالق الكون كفل الرزق والحياة لكل فرد، مادام له عمر ممدود، أجل محدود، كان من كان، صدق الله العظيم. (وفي السماء رزقكم وما توعدون).

وكأني بهذا الشيخ المقبل من نجع (السبوع) لغاية في نفسه، فما هي يا ترى هذه الغاية؟ أن منظره ليثير في النفس عوامل الأسى واللوعة، والشفقة والحزن. . إنه قد جاوز الثمانين دون ريب. . أحناه الدهر فكأنما هو قوس متحرك. يتوكأ في بطئ شديد على عصاه. وكأنما هذه العصا رجل ثالثة يدب بها على الأرض، لارتيابه في رجليه واعتقاده أنهما لم يحملاه إلى ما يريد، ومع ذلك فهو يهرول بشدة، ولكنه لا يبلغ السرعة التي يريدها ويتمناها، فأن أنفاسه منقطعة، وعبثه شديد الوطأة، اليم الخطر. .

ويلاه. . لقد وصلت الباخرة ورست على الشاطئ أمام نجع (السبوع) ووصل الشيخ المتهدم إلى المرفأ، وجلس متكئاً على عصاه أيضاً، واعتمد برأسه عليها في اطمئنان عجيب. . ولكنه لم يسافر؟ ولم ينزل إليه من الباخرة أحد؟ حتى من نزل لم يعرج عليه. . ترى أكان ينتظر بريداً؟ أم تموينًا؟ أم عزيزاً لديه من ولد أو حفيد؟ لم يبدو عليه شيئاً من ذلك، يبدو أن ملامحه كانت تنطق بشيء خفي غريب ذلك إنه يأنس بالباخرة وأصوات من فيها، ويطرب بذلك الهرج الذي يحدثه الركاب حينما تقف بين حين وحين. إنها تذكره بعهد الشباب والصبا، يوم كان يقفز هنا وهناك دون حاجة إلى سند أو معين، ولا افتقار إلى تلك العصا اللعينة التي تضيق عليه الخناق فهي تلازمه في كل مكان وزمان. . ومن يدري فربما تذكره هذه الباخرة بابن قد افتقده في ميعة صباه فهو يحن إليه كلما ترسو، فيقبل وكأنما ليلقي فيها أبنه الراحل، وفلذة كبده العزيز. . وأرتفع صفير الباخرة وأخذت تبتعد عن المرفأ فجمع الشيخ أطراف نفسه، وقام متحاملاً عليها، وعاد كما جاء، ولا يزال بصره عالقاً بالباخرة ومن فيها وكأنما يودعهم الوداع الأخير.

عبد الحفيظ أبو السعود