انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 733/القسم السادس:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 733/القسم السادس:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 07 - 1947



فرنسا ومستعمراتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

بدا الفرنسيون تنفيذ برنامجهم الإصلاحي على مراحل في مراكش، فقد نقلت إلينا الأنباء البرقية طرفا من أخبارهم وهي تتلخص في بعض تغييرات إدارية أدخلوها ذراً للرماد في العيون فقالوا أن الوزارة ستتألف من عشرة وزراء مراكشيين وعشرة من فالفرنسيين واختير مستشار فرنسي يبحث القوانين واللوائح قبل عرضها على السلطان، وصرح فرنسي مسؤول بأن فرنسا تريد تحويل مراكش إلى دولة ديمقراطية حديثة كما ترغب بإخلاص في زيادة مسؤولية المراكشيين في حكم أنفسهم. وهذه نواح جديرة بالبحث والتأمل.

ولقد كنا أول من أذاع شيئاً عن اجتماع الدار البيضاء الذي حضره روزفلت وجيرو وديجول الفرنسيين وقلنا أن أراضي تونس والجزائر ومراكش كانت وديعة بيد الحلفاء، وقد أعيدت للسلطات الفرنسية بعد أن تعهد رجالها لروزفلت أن تسير هذه البقاع في ركب الحضارة نحو الحرية وتقرير المصير؛ ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وإنما تحت ستار الإصلاحات الجديدة وتحويل مراكش إلى دولة حديثة وزيادة مسئولية المراكشيين في حكم أنفسهم، تقدم فرنسا للعالم المتمدين مشروعا استعماريا له خطورته لأنه ضربة جديدة موجهة إلى استقلال مراكش وحريتها ومستقبلها، ولذلك لم نستغرب أن رفض الأحرار المراكشيون هذه السياسة ونددوا بها وقالوا عنها (إنها تريد أن تغتصب البقية الباقية من مظاهر وجودهم. ونحن الذين تابعوا قضية المغرب من يوم أنزل الحلفاء جنودهم، وأنصتوا طويلا إلى أقوال قواد الحلفاء وبعض رجال السياسة الذين تحدثوا عن مستقبل هاتيك البلاد وعرفوا الكثير من تحمس رجال فرنسا وتمسكهم بوحدة إمبراطوريتهم ورفضهم الدخول في أي حديث يشتم منه طلائع الحرية والاستقلال لشعوب المغرب، ولم نتردد في أن نجهر بالقول لإخواننا أهل المغرب أن الخطر الذي يبدو لنا هو أن نوفق فرنسا لإقناع العالم أن سياسة الاتحاد الفرنسي مشروع إنساني يدعو إلى رفع مستوي الشعوب ويعد تنفيذه تحقيقا لما وعدوا به روزفلت في اجتماع الدار البيضاء أو إنه مرحلة في طريق الرقي الاجتماعي.

ومراكش ليست دولة في مجاهل الدنيا حتى تدرب على حكم نفسها. وقد عاصرت القرون وكانت أمجادها وبطولتها مضرب المثال، فهي دولة مستقلة ذات سيادة وصولة وتاريخ وشخصية قبل أن تعرف فرنسا شيئاً من ذلك، وهي أمة موحدة قبل أن تحقق فرنسا وحدتها الإقليمية في قارة أوربا، ولإخواننا المراكشيين جولات في أفريقيا وفي القارة الأوربية، وبين ملوك مراكش وملوك فرنسا مكتبات ومعاهدات قديمة عامل فيها كل واحد الآخر معاملة الند للند.

لهذا كله دهشنا من موقف فرنسا ورجالها بعد سنة 1912 وموقفها اليوم في سياسة المقيم العام التي يريد أن يفرضها على دولة قائمة ذات سيادة وسلطان وشخصية دولية. وكنا نؤمل أن تغير دروس الماضي بعد الحرب العالمية الأولي، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، شيئاً من أساليبهم وعقليتهم، ومراكش بلاد لم تفتح وإنما تعاهد سلطانها معهم وحالفهم على شروط معلومة، فإذا هم ينزعون البلاد انتزاعا، ويصبح المقيم العام سلطاناً وحكومة، بجمع السلطات كلها بين يديه من تنفيذ وتشريع وقضاء، ويسيطر رجاله على الشئون المالية والاقتصادية والإنشائية، ويضع يده على الحبوس والأوقاف، وينتزع أملاك الدولة فيوزعها على المستعمرين من الفرنسيين.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ضربت بالمواثيق والعهود التي أخذتها الدول عليها عرض الحائط، فهي لم تحترم ما جاء باتفاق الجزيرة سنة 1907، ولا ما جاء بالاتفاقات التي أعقبت حادث أغادير المشهور، وكلها تنص على احترام سيادة سلطان مراكش ووحدة بلاده وبقائها بلاداً مفتوحة لتجارة الدول.، وميداناً للنشاط الأمم.

ولقد رأينا الأسلوب الفرنسي في حكم البلاد التي نكبت به ينتزع السلطات جميعاً من أيدي الحكام الوطنيين فتصبح الحكومة المراكشية التي يطلق عليها اسم (المخزن) صورة لا تملك من الأمر شيئاً. وإذا بدار المقيم العام بيدها السلطات الفعلية: يتولاها بواسطة مستشاريه على الطريقة الفرنسية المباشرة التي رأيناها في سوريا ولبنان أيام الانتداب. فتصور هذه الدار تتولى الأمن العام والجمارك والضرائب وتدير الأوقاف وتفتح المدارس وتغلق الكتاتيب، وبيدها التشريع والبرق والبريد، وتسيطر على النقد ووسائل المواصلات، وتمنح الأراضي لمن تشاء وتوزع الثروة على شركات الاحتكار والاستثمار.

هذه هي مناطق القانون التي يسود فيها الحكم المدني. أما المناطق العسكرية فهي تخضع لجبروت الجيش وضباطه السياسيين، فهناك يجمع القائد الفرنسي كل السلطات في يده ولا مرد لحكمه: إذا تكفي إرادته لنزع الأملاك وتنفيذ حكم الإعدام والسجن ونقل قرى بأكملها وإخلائها من السكان، ولا يمكن مراجعة حكمه أو الاعتراض عليه أمام سلطة مدنية، وأهالي البلاد من المسلمين حيارى بين براثن الاستعمار الفرنسي في مراكش، هم في حالة حرب منذ عام 1912 لا يرتفع عن كاهلهم سوط الأحكام العرفية ولا يشعرون بالراحة يوماً، تؤخذ أولادهم للحروب، ويرسل بشبابهم إلى المعتقلات والسجون.

لقد آن للعالم أن يفهم حقيقة الحال في أفريقيا الشمالية، وحسنا فعل المجاهدون المراكشيون من المبادرة إلى أمريكا وتعريف العالم بقضيتهم لأنها قضية عادلة: وقد شرحنا أساليبه ومراميه وأهدافه ويؤكد سيطرة فرنسا وتدخلها في شؤون بلادهم أجيالاً من الزمن لا تزال في علام الغيب أو المستقبل.

أن كفاح أهل مراكش سيكون طويلا وصعبا لا هوادة فيه، لأن بلادهم موطن الثروة المعدنية، واليها تتجه أنظار الاستعمار الفرنسي للحصول على المواد الخام من البترول والفحم والحديد، وهذا الاستعمار يفرط - كما قلنا - في ولايات من أوربا ولا يتنازل عن شمال أفريقيا، وهو يعلم تماماً أن أي تساهل أو اعتراف من جانبه باستقلال أو حكم ذاتي يمنح لأهل البلاد المراكشية معناه انهيار الإمبراطورية الفرنسية بأكملها في أفريقيا الشمالية.

فعلى الذين يتصدرون الحركة الاستقلالية في مراكش أن يفهموا أن العراك سيكون شديداً وقاسياً، وعليهم أن يكتسبوا المعركة الخارجية، وهي معركة الدعاية لقضيتهم في أمريكا وفي بقية أنحاء العالم، عليهم أن يظهروا مساوئ الاستعمار وأضاليله، وان يجعلوا الدعاية قائمة في كل مكان، وان تمتاز بالثبات والرسوخ والهدوء والمداومة.

ففي مصر لا يكفي شعور الناس بالعطف على قضيتهم، بل يجب إبرازها كل يوم في ثوب جديد على صفحات الجرائد والمجلات، بل نريد أن نسمع رأيهم وصوتهم، ونرى مناظر بلادهم ومساجدها وأسواقها، ونقرا لأدبائهم وزعمائهم كل يوم، ونود أن نشاركهم أفراحهم وأيامهم، ونسمع أغانيهم، ونرتل شعرهم، ونظهر على مطبوعاتنا صور معاهدهم ورجالهم ومظاهر الحياة عندهم.

إننا في حاجة إلى أن نتعرف على أهل المغرب، لأننا في مصر نحن أهلها اقرب أهل المشرق إليهم.

لقد تلاقت النفوس قبل اليوم، وارتبطنا بهم بروابط لا تنفصم عراها، لأن مصر أسراً بأكملها تنحدر من تلك الأصول العربية التي جاءت من ارض المغرب.

إننا لا تطمئن نفوسنا قبل أن ينال المغرب استقلاله ويحصل على حريته.

أحمد رمزي