مجلة الرسالة/العدد 732/هذه بلادنا
مجلة الرسالة/العدد 732/هذه بلادنا
للأستاذ محمود محمد شاكر
هذه بلادنا: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين وشرق الأردن، وجزيرة العرب، واليمن، ومصر والسودان، وبرقة، وطرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش - هذه بلاد العرب التي ينطق أهلها اللسان العربي ويدين أكثرهم بالإسلام، فهما من أجل ذلك جبهة واحدة ممتدة من الشرق إلى الغرب، وتملأ رحابها أكبر قادرة على وجه هذه الأرض. وهي جميعاً أرض بكر لم ينبش العلم ذخائرها المدفونة تحت ثراها الغني، ولم تنل يده إلا قليلا مما تقله أرضها من حيوان ونبات، ولم تنفطر روحها بعد عن الإنسان الجديد الذي انساح فيها من قبل يوما ما، فملأها عدلا وكانت ملء جنباتها ظلماً وعدواناً وبغياً وكفراً بالله ثم بالطبيعة البشرية المطهرة من أدران الحقد والأثرة والجشع وقلة الإنصاف.
فلنلق نظرة عليها جميعاً بلداً بلداً، لنر ماذا فعل الله بأهلها، وماذا كتب عليهم، وماذا قدر لهم.
فالعراق أغنى مشارف الجزيرة العربية وأكرمها تربة، وقد نزلت عليه بريطانيا محتلة وسامته الخسف سنين حتى عقدوا معه معاهدة لم تمنع بريطانيا من التدسس بسلطانها إلى جميع مرافقه، فهو لا يستطيع أن يؤدي حق أرضه عليه كما يجب، وسلطان بريطانيا هناك سلطان جائز عنيف لا يزال كما كان على أول عهد الاحتلال، ويخشى أن يزداد فيه سلطانها وسلطان شريكتها ووارثتها أمريكا، بما جد من شئون النفط والبترول وما إليهما.
وأما سورية ولبنان، فقد جلت عنهما فرنسا جلاء تاماً على أثر الأحداث العالمية التي جاءت مع الحرب الماضية، فاستردتا استقلالهما بغير قيد ولا شرط. ولكن يخاف عليهما ما يخاف على سائر البلاد العربية من تسرب السلطان البريطاني والسلطان الأمريكي، وطغيان هذا السلطان بالضرورة الملحة الملزمة، إذا قدر لهما أن تظلا محاطتين من جميع النواحي بالمواقع التي فيها لهذا السلطان أثر قوي.
وأما فلسطين، فهي الأرض المظلومة المضطهدة التي أراد بغي بريطانيا وأمريكا أن يجعلاها وطناً لأعوانهم من نس إسرائيل، ومعنى ذلك أن تصبح فلسطين كهف الجشع البريطاني الأمريكي، يعمل له وفيه جيل من خلق الله الذي عرفوا بالخسة وقلة المبالاة وعدم الورع فيما يأتون وما يذرون، وهم ولا ريب يؤيدون، سياسة بريطانيا وأمريكا في فرض سلطان القوة وسلطان المال على هذه البقعة من الأرض المقدسة، وعلى كل مكان آخر يحيط بها من قريب أو بعيد.
وأما شرق الأردن، فقد كفتنا المعاهدة التي عقدت بينه وبين بريطانيا أن نقول فيه قولا يصفه بأفضل مما وصفته هذه المعاهدة، وهو أنه أرض بريطانية في قلب البلاد العربية.
وأما جزيرة العرب، فقد تدفق عليها سلطان بريطانيا وأمريكا من كل مكان، لأنه فرض أن آبار البترول تكاد تكون حقاً خالصاً لهما، يدفعان في سبيل أخذه مالا قليلا زهيداً، ثم ينقلانه إلى بلادهما ليكون ذخيرة من ذخائر القوة التي تحرك الآلات، وتنتج المصنوعات وتمد أمريكا وبريطانيا بكل أسباب القوة والغلبة في هذه الدنيا الجديدة التي لاحظ فيها إلا للقوي الغاضب. واستقلال جزيرة العرب أصبح اليوم مهدداً بتغلغل نفوذ ملوك البترول الذين يخدمون ولاشك سياسة بلادهم على أي وجه كانت هذه السياسة.
وأما اليمن فلبريطانيا هناك بعض السلطان، ويخشى بعد قليل أن يتدسس إليه سلطان أمريكا أيضاً وتصبح اليمن مضطرة إلى الخضوع لما خضعت له جاراتها العربية من سلطان هؤلاء الأقوياء.
وأما مصر والسودان، فمن الذي يجهل سلطان بريطانيا في أحد شقيه، وهو مصر، إنه سلطان قد ظلت السياسة البريطانية تمهد له منذ ستين عاماً بكل أسلوب من أساليبها في اتخاذ الصنائع، وإضعاف الأخلاق، وابتزاز الأموال، وفتح أبواب الهجرة لصعاليك الأمم، وقذف الأرض بكل سخافة من سخافات المدنية، وحجبها عن كل جد وكل عمل يراد به خير هذه البلاد. وأما السودان، فلم يزالوا به حتى كادوا ينتزعونه جملة واحدة، وحتى قسموه إلى جنوب وشمال، وحتى حرموا على أهل الشمال أن يخالطوا أهل الجنوب، وحتى حرموا على أبنائه أن ينالوا قسطهم من العلم والحرية والتجربة في هذه الدنيا المملوءة بالعلم والحرية والتجربة.
وأما برقة وطرابلس فقد انتهت بها الحرب إلى أن صارتا تحت سلطان بريطانيا المباشر، ولا يدري أحد ماذا يجري فيهما هناك الآن على وجه التحقيق، ولكنهما على كل حال تحت سلطان بريطانيا وشريكتها أمريكا.
وأما تونس والجزائر ومراكش فهي أسوا بلاد العربية كلها حالا بوقوعها تحت سلطان فرنسا. وفرنسا هذه أمة أهل جبروت وحماقة وجهل، فهي تتخذ العسف وتصطنع القسوة في كل عمل تعمله في تلك البلاد. ولكن ليس يدري على وجه التحقيق ما الذي تضمره بريطانيا وأمريكا لفرنسا وحكمها في تلك البلاد. أنريد حقاً أن تؤازر فرنسا مرة أخرى على استعادة بعض مجدها وسلطانها في هذه الدنيا، وبذلك يزداد طغيانها وبغيها على أهل تونس ومراكش والجزائر؟ أم تراهما يريدان أن يحتالا حتى يزيلا فرنسا عن تلك البلاد ليفرضا معاً عليها سلطاناً بريطانياً أمريكياً - إما متعاونتين وإما منفصلتين؟ ومهما يمكن من شيء فالذي فيه هذه البلاد اليوم، أو الذي يخشى أن يقع عليها غداً هو أن السلطان الأجنبي هو السائد فيها قوة واقتداراً.
فأنت ترى غير مرتاب أن هذه الأمة العربية التي تعيش في كل هذه البلاد العربية، قد أصبحت هدفاً لأطماع دولتين متحدتين في أغراضهما وأهدافهما: هما بريطانيا وأمريكا. فهل يشك في هذه الحقيقة أحد؟ كلا ولا ريب، وإذن فنحن أمة واحدة مقسمة اليوم إلى أمم متعددة تواجه في الميدان جبهة واحدة لها أغراض لا تختلف ولا تفترق. وهذه الجبهة الوحدة لم تزل تتعاون بأسلوب بعد أسلوب في تنفيذ أغراضهما في كل بلد من بلادنا، وتتآزران على فرض سلطانهما مجتمعاً أو مفترقاً، وتتوسلان لي ذلك بالوسائل التي تتاح لكل منهما في كل بلد من هذه البلاد.
فالآن وقد تبين أننا أمة واحدة مقسمة إلى أمم، وأننا نلقى عدواً واحداً هو بريطانيا وأمريكا مجتمعتين يضربان بسلاحهما غدراً هنا وهناك وثمة بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانية، فقد أصبح لزاماً علينا وفرضاً لا مخلص لنا منه أن ننظر إلى الحقيقة الواحدة التي لا يختلف عليها إلا من نزع الله من قلبه البصيرة الهادية إلى سبل الرشاد، ألا وهي الاتحاد التام في لقاء هذا العدو.
ومنذ سنوات أجمعت طائفة من أمم العرب على تكوين الجامعة العربية، واشترطوا في الأمة التي تصير عضواً في هذه الجامعة أن تكون مستقلة. ومعنى ذلك هو الاستقلال المعترف به دولياً، لا الاستقلال الحقيقي، فإنهم لو طلبوا ذلك لما كان في الجامعة العربية عضو واحدة من هذه الأمم التي ذكرنا. فالجامعة العربية كما هي الآن لا تفي البتة بحاجة العرب، ولا تقوم على الأساس الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه. نعم إن الجامعة العربية لم تقصر في الدفاع عن حق العرب تقصيراً
تلام عليه، وهي تبذل غاية جهدها في صد عدوان المعتدين عليها، وتبذل أقصى جهدها في أم المشاكل العربية، وهي مشكلة فلسطين التي سوف تكون يوماً ما، أول شرارة تنطلق في تاريخ العرب الحديث لتنير لنا الطريق السوي الذي ينبغي أن يسلكوه.
ولكن لابد منذ الآن أن تعمل الجامعة العربية على ضم سائر البلاد العربية الأرض واللسان، لتكون شعوب هذه البلاد كلها جبهة واحدة، ذات سياسة واحدة، وأهداف واحدة، وقيادة واحدة، حتى نلقى في الميدان ذلك العدو الواحد المتآزر على هلكة العرب، وهو بريطانيا وأمريكا. وإنه لا معنى لأن تبقى فلسطين وتونس ومراكش والجزائر وبرقة وطرابلس غير ممثلة في جامعة الدول العربية تمثيلا صحيحاً كسائر الدول العربية، فإن مهمة الجامعة هي أن تعمل على أن تجعل هدفها الأول أن تتخذ كل وسيلة لتضم شتات العرب في هذه الدنيا، كما فعل اليهود من أهل الأجناس المختلفة في توحيد قيادتهم وجعل قضيتهم قضية واحدة، وهم معتدون على أرض ليست لهم، ونحن أهل أرض واحدة، وهم معتدون على أرض واحدة نملكها نحن العرب ملكا لن ينازعنا فيه أحد. وليس من الرأي ولا من الحكمة أن نترك هذا العدو الواحد يلقانا في أكثر من جهة واحدة وهو صاحب القوى الطاغية الباغية، وأن نظل نحن متفرقين ليس يجمعنا نظام واحد تحت قيادة واحدة تعمل لهدف واحد هو تحرير البلاد العربية كلها جملة واحدة من هذا النير المضروب عليها. وكما قلت من قبل إننا شعب واحد، وقضيتنا قضية واحدة، فلا معنى لأن نجعل هؤلاء يتلاعبون بنا، ويقسموننا ويفرقون بين قلوبنا، ويشغلوننا حيناً بهذه القضية، ثم يعملون فينا حتى نيأس، فإذا بقضية أخرى تستنفد جهودنا، ثم أخرى ثم رابعة. كلا! هذا فساد في الرأي وضلال قديم قد جربناه فألفيناه وبالا علينا ونقضاً لقوانا وتمكيناً للعدو من أنفسنا.
إنه لابد من تجديد النظر في شأن الجامعة العربية، فإن العرب قد هبوا بعد هذه الحرب من رقدة طالت عليهم، وهم مقبلون على العالم شعثاً غيراً كما أقبل آباؤهم من قبل، وهم ينظرون إلى مدينة عظيمة قد بلغت غايتها وهي اليوم في سبيل الانحدار إلى الهوة العميقة التي طمرت فيها مدنيات سالفة لم تكن أقل منها شأناً ولا أضعف خطراً. وينبغي أن تعلم جامعة الدول العربية، أو الجامعة العربية، أن عملها ليس سياسة محضاً بل هو أيضاً حض وتحريض وبعث لهذا الجيل من الناس المعروف باسم العرب، حتى تتم يقظته وحتى يعرف أي شيء يستقبل وأي شيء يستدبر، ليرث هذه المدنية التي أوشكت أن تزول عن وجه هذه الأرض.
إنه قول جرئ، ولكنه حق ملء السمع والبصر، حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلنأخذ أهبتنا قبل أن تأتي الساعة التي نضطر فيها إلى العجلة التي كان لنا عنها مندوحة، إن كل عربي قد فرض عليه واجب هو أقدس الواجبات في هذه الدنيا - ألا وهو الأمانة التي يرث بها الأرض ويكون فيها خليفة يصلح فيها ولا يفسد ولا يسفك الدماء ولا يأكل حقوق الناس بالبغي والعدوان. والجامعة العربية إذا بنيت على هذا الأصل وقامت على هذه الفكرة، فقد أدت للبشرية أكبر خير أدى إليها على وجه الدهر، وقد استنقذت حضارة الإنسان من الهلاك المحقق على يد الجنس الأوربي، بل لعلها لم توجد في هذا الوقت من هذا العصر إلا لتؤدي هذه المهمة وحدها بعد أن تجمع شمل العرب وتقف بهم وصفاً واحداً يقاتل طغيان عدوها المستبد الذي يلقاها بسلطانه الجائر، ويقاتل أيضاً ذلك السلطان الذي انفجر من ملتقى القارتين، أوربة وآسية، لكي يكون دماراً لنفسه وللحضارة الأوربية الفاسدة الضحلة.
ونحن العرب - فيما أرجو - لن نباع منذ اليوم في سوق الرقيق التي يسمونها (هيئة الأمم المتحدة)، فقد عرفنا بالتجربة كيف فعلت هذه الهيئة في مسألة فلسطين وسواها من عربدة القوى الذي أطارت صوابه نشوة السلطان المسكر.
محمود محمد شاكر