انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 732/الفلسفة العربية وكيف تدرس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 732/الفلسفة العربية وكيف تدرس

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 07 - 1947



للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

تعم الشرق العربي نهضة تشمل مختلف نواحي الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولكي نسير بهذه النهضة إلى الأمام يجب أن نقيمها - ونحن في بدايتها - على أسس وطيدة تلائم استعداداتنا العقلية وتقاليدنا الاجتماعية. وذلك يلزمنا بأن نتوجه إلى حضاراتنا العربية نبعث تراثها من جديد؛ ونستكشف من بين ثنايا مخلفاتها مقوماتنا النفسية، واتجاهات ميولنا الفكرية، ومعاييرنا الخلقية، وعاداتنا الاجتماعية. فيجب علينا أن نجد في بحث تراثنا العربي لا نترك فيه علماً أو فناً من غير أن نستوفي دراسته، ونسرع في نشر أبحاثه في جميع أنحاء العالم العربي، حتى يدرك كل عربي ما هي المبادئ المقومة لفكره، وما هي الاتجاهات الثابتة التي ينزع إليها دائماً عقله؛ فيأخذ في تنمية مواهبه، ويشغلها بالموضوعات التي تتفق مع نزعاته الفكرية الصحيحة؛ وكل ذك يؤهل الشعوب العربية لأن تقوم وتؤسس حضارة عالية تنشأ في أحضان الأصول الروحية الشرقية وترتقي بنضوج الخصائص الرئيسية لعقليتنا العربية. . .

علينا إذن نحن العرب واجب مقدس نحو مستقبلنا الحضاري، وهو أن نتعاون جميعاً على تحليل علوم العرب وآدابهم وفنونهم إلى عناصرها الأولية، قاصدين معرفة محتوياتها وأصولها وبواعثها ومناحي مذاهبها. وأحسب أن تحقيق ذلك يتطلب دراية واسعة وفهما عميقاً لكل التيارات الثقافية التي أثرت في العقلية العربية، حتى يمكننا أن نميز بين ما هو أصيل في الحضارة العربية وما هو دخيل عليها، ولذلك قبل أن نقدم على مثل هذه الدراسات، يجب أن نتزود بالزاد الثقافي الذي يعدنا للاشتغال بتراث العرب، وأن نحدد لمختلق العلوم والآداب والفنون البرامج الثقافية التي تعين كل باحث في تفهم مادة بحثه وفي هذا المقال سأحول أن أضع البرنامج الثقافي الذي أرى أنه يفيد كل من يرغب في الاشتغال بالفلسفة العربية. . .

نشأت هذه الفلسفة في بيئة ثقافية معقدة أشد التعقيد، وتطورت في ربوع شعوب متباينة الاتجاهات، وتأثرت بحضارات متعارضة النزعات. فلقد كان العالم العربي يمتد من غرب الهند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وضم بلاد الأندلس والمغرب ومصر والشام وشبه جزيرة العرب والعراق وفارس وما وراء النهر، فتلاقت ثقافات هذه البلاد وتمازجت، كما تسربت إليها الأفكار الهندية، وتأثرت بما ترجم من التراث اليوناني إلى اللغة العربية، وأخذت عن الدين الإسلامي، وعرفت تعاليم الدين المسيحي وتعاليم الدين اليهودي. فنبت التفكير الفلسفي العربي من فلسفة وتصوف وعلم كلام وترعرع في كنف ذلك المجمع الثقافي والمتحف الحضاري، ونحن لا ندري إلى الآن أي هذه الثقافات كان أقوى تأثيراً من غيره في الفكر العربي، وإلى أي حد كان أخذ العربي ومحاكاته لثقافات غيره من الشعوب، ولا نعرف ما هو نصيبه الحق في تراثه الحضاري. . .

لكي نكشف عن حقيقة هذه المسائل العويصة، يجب أن نسترشد بكل ما يقال إنه من العوامل التي أثرت في كل من الفلسفة والتصوف وعلم الكلام إذ قد تدلنا على قسط كل ثقافة في الحضارة العربية، وتحدد لنا نصيب الفكر العربي فيها.

أولاً: يلاحظ على الفلسفة العربية أن هناك من لم يقتنع بوجودها، ويشك في قدرة العقلية العربية على التفلسف، ويرى أن الفلسفة العربية ما هي إلا خليط مشوه من الأفكار اليونانية لا نصيب فيها للفكر العربي؟ وأن هناك من يدعي بأن للعرب إضافات مبتكرة تشهد بأن الفكر السامي في قدرته أن يضع نظريات ويقيم كليات، وأن هناك من يقول بأن هذه الإضافات ليست مبتكرة وإنما هي مأخوذة من الأفكار الهندية والفارسية ولكي نتوصل إلى الرأي الصواب؛ يجب قبل أن نشتغل بهذه الفلسفة، أن نجيد فهم الفلسفة اليونانية، ونتتبع تاريخ تطورها من يوم ظهورها إلى أن ترجمت إلى اللغة العربية، وأن نعرف مراحل تطور الفكر الفارسي من قبل نهضة زرادشت إلى أن استولى العرب على بلاد فارس، وأن نلم بكل الديانات الهندية من هندوسية وبوذية سواء في أصولها أو في صورها التي وصلت إلى العرب. وبعد أن نحيط علماً بكل ذلك يمكننا أن نبحث في الفلسفة العربية، وأن نحدد موقف العقلية العربية منها.

ثانياً: أما عن التصوف فتضاربت الأقوال شتى المذاهب في نشأته وتطوره، فمن يرى أنه هروب من ارتباك الحياة السياسية وانحطاط الحياة الاجتماعية، ورجوع الحياة الصوفي القديمة التي كانت في الهند وفارس، ومن يرى أنه محاكاة للرهبة المسيحية، وأنه استمد تفسيراته للأحوال الصوفية من أفكار الأفلاطونية المحدثة، ومن يرى أن دين الإسلام برئ منه، لأنه دين جاف لا يلين للعواطف الصوفية، بينما يستند الصوفية دائما في أقوالهم إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فكل هذه الآراء تجبرنا وتلزمنا بأن نلم بالأصول الثقافية التي دعت إلى ظهور التصوف وساعدت على نموه؛ وأن نعرف قبل أن نقبل على دراسته تاريخ الإسلام السياسي وأثره في الحياة الصوفية، وتعاليم الدين المسيحي ونظم رهبنته ومدى نفوذه في العالم العربي، ونظريات الأفلاطونية المحدثة، ودين الإسلام وروح تعاليمه في القرآن الكريم والحديث الشريف، وتاريخ التصوف الهندي والفارسي.

ثالثاً: إن كان هناك من يؤكد بأن نشأة علم الكلام دعت إليها الحياة العربية، وحاجتها للدفاع عن تعاليم الإسلام، ومقاومة كل الحركات التي ناهضت الإسلام، وعملت على تقويض نفوذه وهدم تعاليمه؛ إلا أن هناك أيضاً يمن يعتقد أن علم الكلام كان مجرد محاكاة للجدل اللاهوتي المسيحي، وأن حججه وبراهينه كلها مأخوذة من الفلسفة اليونانية. ولكي نمتحن هذه المزاعم يتطلب منا أن نحيط علماً بمختلف التيارات الثقافية التي ناهضت الإسلام وتعاليمه، وبنوع الجدل اللاهوتي الذي كان يدور بين المسيحيين ومدى شيوعه في المملكة العربية، وبالفلسفة اليونانية وطرق إقامتها للحجج وأسلوب جدلها المنطقي وروح براهينها.

نستنتج مما تقدم أن الباحث في الفكر العربي لن يصل إلى شيء ذا خطر علمي، ما لم يمون نفسه بالزاد الثقافي الذي يحتاج إليه، حتى يكون دقيقاً عميقاً في أبحاثه، صادقاً مصيبا في أحكامه ولكي نسهل عمل كل من يرغب في أن يشتغل بهذا الفكر، نخطط له برنامجاً ثقافياً، عليه أن يستوعبه قبل أن يبدأ في تناول أي بحث فلسفي عربي أياً كان نوعه، ويتخلص هذا البرنامج الثقافي في الخطوات الآتية:

1 - أن يبدأ الباحث بدراسة تاريخ الفكر الفارسي، وتاريخ الفكر الهندي في أصوله، ثم على حالتيهما اللتين وصلتا العرب.

2 - ثم يدرس الفلسفة اليونانية دراسة تفصيلية في مختلف أطوارها، منذ نشأتها إلى يوم أن نقلت إلى اللغة العربية.

3 - ثم يدرس تعاليم الديانات السماوية الثلاث، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية، ويدرسها أولا في أصولها، ثم علي حالتها التي كانت عليها في العصور العربية.

4 - أن يتتبع تاريخ الإسلام السياسي، ومدى أثره في الحياة الثقافية.

وبعد أن يعطي الباحث هذه العلوم حقها من الدراية والفهم، يسمح لنفسه بأن يتناول الفكر العربي بالبحث، لأنه في ضوء ثقافته هذه، يمكنه أن يتتبع نشأة كل أنواع هذه الفكر، ويتلمس أماكن ظهورها في مختلف البلاد العربية، ويدرك أدوار تطورها، بل يمكنه أن يعين العوامل التي أدت إلى رقيها أو التي عاقت تقدمها، وأن يوضح مكانة العقلية العربية ومدى تفاعلها مع الثقافات الأخرى. وكل ذلك يساعده مساعدة فعالة في شرح تفاصيل الفلسفات العربية شرحا وافياً دقيقاً غير متأثر في أحكامه بأي عاطفة سوى حب الحقيقة، كما يساعده في تحديد عناصر الحضارة العربية ومقومات روحها الحق.

عبد العزيز محمد الزكي

ليسانسيه في الفلسفة