انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 731/سعد الله الجابري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 731/سعد الله الجابري

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1947



في ذمة الله

للأستاذ أحمد رمزي بك

رغت الرعود وتلك هدة واجب ... جبل هوى من آل عبد مناف

غمرتني موجة حزن وتشاؤم قلما أشعر بمثلها، حينما حملت إلى الصحف في عزلتي الريفية نبأ وفاة الجابري، وأنا الذي لم أره منذ غادرت أراضي سورية إلا لماماً، فإذا كتبت عنه بعد وفاته، فإنما أستعيد ذكرى الأيام التي عرفته فيها فأثرت صداقته فيَّ لا كسياسي أو زعيم أو رئيس حكومة بل كرجل مجاهد شاء وده أن يعدني في يوم مضى من بين من يثق بهم، ممن اتصلوا به وأنسوا بوده ولمسوا شمائله وغمرهم بعطفه وأخوته ومحبته، فمن أول يوم تلاقينا فيه، وكان ذلك في بلدة صوفر من أعمال لبنان عام 1940، كنت أشعر دائماً في حضرته بشيء يجذبني نحوه ويجعلني أطمئن إليه وأنصت لما ينطق به، ومرت الأيام والسنوات وهي تحمل بين طياتها الحوادث الجسام وأعمال الجهاد المتتابعة المتلاحقة لإقرار الدستور وعودة الحياة النيابية ثم مفاوضات الوحدة العربية التي انتهت إلى ميثاق الإسكندرية، فإذا هذه المنزلة في نفسي تلعو كل يوم وتثبت، فلا تؤثر فيها روعة المركز ولا تباعد الأيام لأنها كانت هبة من هبات الله. . .

وأذكر أنني حضرت معه في الطائرة من دمشق وأمضينا أياماً بالقاهرة وأخرى بالإسكندرية، فإذا بنا نكتشف أشياء في مصر، بقيت غامضة عني بعد أن قضيت عشرين عاماً متغرباً فجاء الاتصال بالحقائق مراً على النفس في أيام كانت تمر سراعاً وتجعلنا كل يوم أمام جديد، وسرعان ما أقنعت نفسي بالبقاء في مصر والتخلف عن العودة إلى دمشق، وذهبت إلى قصر الزعفران فوجدت الجابري هناك، ولمحت في نظراته أشياء قرأتها على وجهه ولمستها من إشعاع عينيه ودار الحديث عاماً، ولما استأذنته قلت إنكم تسافرون غداً، أما نحن فوالله قاعدون، فتجهم وجهه وقال لي كلاماً لن أنساه ولم يأت الوقت للإفصاح عنه.

فأمسكت بيديه وضغطت عليهما وقلت: كتب على الذين أمنوا أن يصبروا ويصابروا، فبالله عليك لا تجعل لهذا الكلام تتمة لا بالقول ولا بالعمل، فوعدني وات اتجاهاً أملاه عليه اجتهاده واتجهت وجهة أملاها الله عليّ، وجاء موعد سفر الوفد السوري في اليوم التالي فرافقته إلى المطار وبقيت بمصر أنتظر الخروج من وقائع الدهر، فإذا بالأقدار تدفعني دفعاً إلى غاية لا أعلمها لأن صروح الحياة الاستقلالية اندكت في لبنان، وإذا أنا بين قرارين: الإقدام والسفر، أو النكوص والبقاء، وفي الثاني الخير كل الخير وفي الأول مواجهة الأخطار والمستقبل المظلم؛ فاخترت ركوب الأخطار وسافرت على بركة الله. وفي ليلة من الليالي الكالحة السواد، دخلت قبل انتصاف الليل مدينة دمشق فما علم بمقدمي حتى أذن لي بالدخول عليه. فقال أن مجيئك في هذه الساعة من الليل لابد أن يكون لأمر خطير. قلت نعم هو لخدمة أؤديها. قال وكيف تركت بيروت والفرنسيون يمنعون التجول بعد السابعةوأراك تركتها بعد ذلك بزمن طويل، قلت حرستني سيارتان مدرعتان على كل واحدة منهما مدفع رشاش استلمتني واحدة من وسط البلد وأخرى من فرن الشباك، وتركتني الثانية عند عاليه، ولازمتني الأولى حتى ظهر البيدر كأنهما تتوهمان أن طريقي سيكون إلى بيشامون. ولما عرضت عليه ما جئت من أجله قام فوراً إلى قصر رئاسة الجمهوريةوأطال المكث هناك، ونمت مستريحاً لأني وضعت الأمر بيد رجل إذا اقتنع فعل. وفي الصباح المبكر أعلمني دولة جميل بك بما طمأن قلبي، وفي المساء لقيت الجابري فإذا هو يمزح كعادته ويقول: تصور لو تأخرت مجازفتك دقائق معدودة إذن لضاع الوقت معنا.

ثم تغيرت الأيام وتبدلت، أما سعد الله الجابري وطائفة من أهل سورية فلم يتبدل لهم موقف معي. لقيته بعد ذلك بمصر فما إن وقع نظره علي حتى خف إلى لقياي وأخذني بالعناق على مشهد من رجال مصر الذين دهشوا من هذا اللقاء. إنهم لن يعرفوا ما كان بيننا في طريق الجهاد الوعر لتحقيق المثل والأهداف. ومات سعد الله وكتب عنه الكتاب وإذا بكثيرين يقولون إنه كان عظيمافي مواقفه الحاسمة وتصريحاته الجريئة، أما أنا الذي عرفته قبل أن يعتلي المراكز ويحكم، فأقول إن مواقفه وتصريحاته كانت أمراً عادياً يأتيه كل يوم، كانت جزءاً من شخصيته وفكره وروحه لا يشعر بخطورتها ولا تشغله لحظة واحدة بعد إتمامها وهذا سر عظمته وتفوقه. . .

والآن وقد أغمض عينيه واستراح بعد أن كان ملء عين الزمن، لا يهمني أن أسوق المدح إليه وأن أشيد به وأقول إنه من أولئك الذين جاءت إليهم العظمة تسوقها الأقدار دون أن يكلفوا أنفسهم أن يلفتوا الأنظار إلى أفعالهم وأقوالهم وإشاراتهم ليقر لهم الناس بالعظمة والعلياء، وإنما هو رجل جاء إلى الدنيا والعظمة والبروز والعلياء عنصر كامن فيه، تراه في خلقته ومظهره وحديثه، فيدفعه إلى الخطير من الأمور في كل يوم ليعالجه بفكره وعقله وأعصابه وإيمانه، ويعرف عنه الناس هذا من أهله وعشيرته وقومه وأصدقائه قبل أن تعرفه عنه المناصب العليا وترفعه الزعامة والسياسة إلى مراكز الحكم والاقتدار.

ولقد رأيته سهلا حتى إذا اقتنع بأمر وملك عليه فؤاده وفكره اندفع إليه دفعته التي لا تبالي، واقتحم العقبة وراء العقبة والناس حيارى من أمره يتساءلون أهي دفعة عن حق وعقيدة وإخلاص أم هي لغاية في نفسه؟ أما أولئك الذين عرفوا وفهموا وأحبوا هذا الرجل فلم يكن لهم أن يتساءلوا لأنهم عرفوا البطولة والإخلاص يجتمعان في قلبه، ولمسوا المحبة والإيمان يلتقيان فيه، فهم لن يتساءلوا، إذ هو في مخيلتهم كما هو في نفسه: سيف من سيوف الحق جاء والناس في حاجة إليه، فأدى ما عليه ولمع لمعاناً في حياة أمة لا شك أنها تحن لذكراه وتحمل له أطيبها في القلوب.

في مدينة حلب ولد ونشأ سعد الله الجابري في بيت قديم لمع أفراد منه في القرن الماضي الهجري والقرن الحالي وأدوا للدولة العثمانية والخلافة جليل الخدم، نجد تراجمهم في أعلام النبلاء وفي تاريخ حلب للبالي.

وحلب قلعة في الخطوط الأمامية للعروبة، ولأهلها المكانة البارزة والمنزلة الراسخة في تاريخ العرب والإسلام، أما نحن أهل مصر فقد ارتبطنا بهم منذ جمعنا وإياهم رجل مصر الكبير أحمد بن طولون، وعدا فترات قصيرة، اشتركنا مع أهل حلب في كتابة تاريخ الإسلام لعصور مضت، وحاربنا الأمم من مختلف شعوب الأرض وهم معنا في المصاف كتفاً لكتف، فامتزجت دماء شهدائنا بدماء شهدائهم، وما من شدة لقيتها قلعة حلب إلا شاركتها فيها قلعة مصر، وكانت نيابة حلب ثالثة المراكز الكبرى في الدولة المصرية القاهرة، وفي تاريخ مصر عدد من ملوكنا بدءوا حياتهم كنواب للسلطنة في حلب.

فهذه حلب درة في جبين العرب، ولأهلها المكانة السامية جزاء ما قدموا في سبيل العروبة والإسلام، ولذا لا تعجب أن يكون ابنها البار سعد الله الجابري في مقدمة هذا الرعيل من العرب الذين آمنوا بأن الوحدة العربية وجامعةالدول العربية هي حلم من الأحلام بغير مصر العربية، لأن بلادنا هي قلب العروبة، بل العروبة ومصر صنوان. وذلك موقف للجابري وجميل مردم وغيرهما من رجال سورية يجب أن يعرفه كل مصري ولا ينساه. بل أمانة في أعناقنا أن نحفظ لهؤلاء القادة الجميل الذي أسدوه ألينا في وقت كان عدد المؤمنين بمصر يعد عندنا على الأصابع وفي زمن كان من يجاهر بعروبة مصر يعد عندنا مارقاً من الوطنية خائناً للقوميةالمصرية. فلنذكر هذا جيداً ولا ننسه.

لم يكن سعد الله الجابري ممن تستهويهم القيادة والسيطرة على الجماهير والتحرك من مكان إلى مكان وفي ركابهم (القبضايات) بل كان رجلا وضع ما يملك من مال وعمل في خدمة أمته، معتمداً على ماض ناصع أبيض، وعلى نفسه الكبيرة وما تحمل من آمال كبار، وكان في أدوار حياته مجموعة أعصاب وإرادة تدفعها صراحة متناهية وإخلاص وتفان في سبيل المصلحة العامة.

وأول ما يبدو في شخصيته هو توفر عدد من الصفات الممتازة التي يربط بينها نوع من التوازن والانسجام تلمسها من حديثه معك ومظهره وتأنقه وابتسامته، فهو قد نشأ في العز والسعة فظهرت أقواله وإشاراته وحركاته طبيعية لا أثر للتكلف فيها، ولذلك اندثرت من قرارة نفسه، وتوارث كل آثار مركب النقص الذي يشكو الكثيرون منه، وتحرر بهذا من طائفة من مواطن الضعف التي لا يقدر على التحرر منها من لم ينشأ نشأته ويذهب مذهبه في فهم الدنيا.

وكان مؤمناً بحق بلاده وعظمتها، وهذا الإيمان يجعله يستبق الحوادث ويطلب من قومه الإسراع في السير أو يستحثهم على الوصول إلى درجة من النظام والرقي والضبط والربط لا يمكن أن تحتملها طاقة الناس في المشرق الذي بدأ يستيقظ من سنة الكرى عن قرب ويفتح حديثاً عينيه إلى النور. هنا تتلاقى الدوافع النفسية للوصول إلى المثل العليا مع قوة الإرادة والشكيمة التي يحملها سعد الله الجابري، وتواجه كلها الواقع المؤلم فيبدو أحياناً مندفعاً لا تلاحقه أفكار الناس ولن تقدر أن تلاحقه فهو يحمل قبساً من نور الحقيقة ومن نور الإلهام ويشعر بالأخطار القادمة ويريد أن يدعم الأساس ويقوي البنيان وهم تشغلهم حوادث اليوم وتلهيهم مشاكل الساعة فلا يرون ما يراه ولا يتبعونه في خطواته، لذلك أصبح الرجل الذي يجاهد ويكافح ولكن في الطريق الذي اختاره هو لنفسه وأفرغ عليه المبادئ والمقاييس التي فرضها هو على نفسه، وجعل منها قواعد وحدودا لم يكن يحيد عنها ولا يخرج منها. لما أراد أن يأخذها الناس ويقيدو أنفسهم بها، رأوا أنه يحملهم فوق طبيعة البشر وفوق طاقتهم.

إن الذين انتقدوا سعد الله الجابري في حياته لم يفهموا هذه الناحية من نفسه الكبيرة ولو فهموها لأدركوا أي خسارة تحتملها الآن سورية والبلاد العربية باختفاء شخصية نافذة مخلصة، تمتاز بحماستها الهائلة للفكرة العامة واندفاعها لأجل المصلحة العامة.

لقد كان سعد الله من بناة الاستقلال السوري ومن الذين جاهدوا فوصلوا إلى مراكز القيادة، وكانت الدنيا بين أيديهم فإذا هم يخرجون منها وهم أقل ثروة ما كانوا قبل دخولهم الحياة العامة.

كثيراً ما كانت تخونه أعصابه، ولكني لم أعرف لحظة واحدة خانه فيها إيمانه. كثيراً ما تحمس وانفعل ولكن كثيراً ما تحمل لأن قلبه كان كبيراً وعامراً بالدوافع الكبرى: فهو قد حقق مع زملائه لوطنه ما رسمه في مخيلته من حرية واستقلال، وكان يؤمل أن ينقل أمته إلى المكانة التي كان يحلم بها. حقق الله آماله من بعده

إني أعزي الشعب السوري الشقيق وفخامة رئيس الجمهورية ودولة جميل بك مردم وزملاء الفقيد وآل الجابري وأعد فقده خسارة للعرب ولمصر التي أحبتهوأنزلته في قلبها لما ظهر من حبه لها ولأهلها، أسمى منزلة وإكرامها.

أحمد رمزي