مجلة الرسالة/العدد 731/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 731/تعقيبات
العربية الفصحى والنحو العربي:
الأستاذ أحمد خاكي باحث أديب عرفه قراء الرسالة منذ سنوات بما كان ينشر من بحوث ثقافية تمتاز بالعمق وبالإحاطة، وهو الآن وكيل مكتب البعثات المصرية في لندن، وله هناك نشاط ثقافي جدير بالحمد والثناء. وقد كتب الأستاذ خاكي مقالا في العدد الخاص الذي أصدره مكتب البعثات عن التطورات والإصلاحات التي نالتها مصر من يدي الملك فاروق، وقد عنيت جريدة (المانشستر جارديان) بالتعليق علىهذا المقال تعليقاً شاملا عرضت فيه لمسألة العربية الفصحى وإصلاح النحو العربي فقالت: (إن أكبر عائق في سبيل نشر التعليم بمصر، وبالتالي في تحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي، هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية الدراجة، مما جعل ملايين من الناطقين بالعربية أصلا لا يستطيعون فهم الفصحى إذا سمعوها من أفواه المتحدثين بها فضلا عن قراءتها وكتابتها. . . وستكون لجهود العلماء المصريين في سبيل إصلاح النحو في العربية آثار بعيدة المدى، ولكن من سبق الحوادث أن يتكهن المرء بالفائدة التي ستعود على النشء من إصلاح النحو العربي، وفي وسعنا أن نقول مع ذلك إنه لن تتحقق الآمال المعقودة على هذا الإصلاح إلا بعد أن تقيم مصر نظاماً للتعليم الابتدائي أوسع مدى وأحسن توزيعاً من النظام الحالي، ولا نزاع في أن النحو الجديد سيجعل التعليم بين مختلف طبقات الشعب عاماً ميسوراً. . .)
هذا ما قالته الجريدة الإنجليزية، وهو كلام لا جديد فيه، ولكنه ترديد لرأي طائفة من المستشرقين، وطائفة من أبناء العربية يتقلون في كل كلام وافد من الخارج بالتقديس والتسبيح
والواقع أن مسألة إصلاح النحو العربي، أو على التحديد تيسيره وتسهيله، حقيقة تملأ أذهان العلماء من أبناء العربية، وقد أثيرت هذه المسألة منذ سنوات وتناولتها الأقلام والأحاديث بالمناقشة، وكانت صفحات (الرسالة) مجالا لهذا، وإذا كان القوم لم يصلوا حتى اليوم إلى طريقة مثلى، فإن الأفكار متعلقة بالوصول إلى هذه الغاية، وتعميم النفع بها على أوسع نطاق.
أما مسألة العربية الفصحى فلا زلنا نقول إنها ليست بمشكلة كما يتصورها المستشرقون وأتباعهم، (وليست بعائق في سبيل نشر التعليم) كما تقول الجريدة الإنجليزية، لأن للعربية الفصحى مراتب في التعبير، فكما أن فيها المرتبة العالية الصاعدة، فإن فيها أيضاً المرتبة السهلة القريبة، فمثلا الصحف العربية تكتب بأسلوب عربي فصيح، وهو أسلوب لا يتعذر فهمه على العامة وجمهور الشعب، بل إننا كثيراً ما نجد رجلا أمياً يستحضر قارئاً يتلو عليه الجريدة وهو منصت لما يتلو عليه، فلا يجد أدنى مشقة في فهم ما يسمع وإدراك ما ينطوي عليه من التلميحات والإشارات.
ومنذ سنوات مثلت في مصر روايات شوقي، وهي بالعربية الفصحى العالية، فأقبلت عليها جماهير الشعب إقبالا كبيراً، وكانوا يفهمون قصائدها ومقطوعاتها فهماً طيباً، وكثير من العامة يحفظون مقطوعات كاملة وأبيات سائرة من هذه الروايات ويفهمون ذلك فهماً لم يعنهم عليه من مدرس أو شارح.
إن الصلة بين العامية الدراجة والعربية الفصحى ليست بالبعد الذي يتصوره أولئك الثائرون على العربية الفصحى، وإن الشعب ليس بمنقطع عن هذه العربية كما يخيل لأولئك الناس، فإن بين العامية والفصحى صلة وثيقة في النطق وفي استعمال كثير من الألفاظ والتعابير، ويمكن أن يكون الاختلاف التام بينهما في الإعراب، وهو اختلاف لا تأثير له في هذه الناحية، ولا يصح لباحث أن ينسى في هذا المقام أن القرآن الكريم وهو أفصح ما نزل في العربية يتلى على جموع الشعب ليل نهار، وأن خطب الجمعة تلقى في كل أسبوع بالعربية الفصحى، وأن عامة الشعب يؤدون صلواتهم ويرددون أورادهم وكلها بالأسلوب العالي الرفيع، وأن خطباء المحافل في الوعظ والإرشاد وفي التأبين والرثاء، وفي الدعايات الانتخابية والسياسية إنما يتحدثون إلى الشعب بهذا النمط من الأسلوب، وكل هذا مما طبع ذوق العامة بطابع عربي، وقرب المسافة في إدراكهم إلى حد كبير بين العامية الدارجة والعربية الفصحى. . . فكل الكلام الذي يثار في هذا الشأن، ويصور مسألة العربية الفصحى على أنها معضلة يجب التغلب عليها بالتدلي إلى العامية إنما هو كلام متهم وتصوير مبالغ فيه لا يقوم على إدارك الحقيقة ومعالجة الأمر بنزاهة. . .
هل هي أزمة ثقافية: تقول الأنباء الواردة من أمريكا إن (الفلم) السينمائي هناك يعاني أزمة كالتي في مصر، وإن رجال هذا الفن يجتهدون في التدبير لعلاج هذه الأزمة والتغلب على أسبابها حماية لهذا الفن من نكسة تضر بنموه وتقدمه. . .
والمسألة ليست مسألة الفن السينمائي فحسب، بل إنها كذلك مسألة المسرح، وهي أيضاً مسألة الكتاب، وكل الوسائل التي تحمل إلى الناس ألوان الثقافة المختلفة. فهناك شكوى عامة من قلة الإقبال على هذه الوسائل والرغبة في القراءة والاطلاع عما كانت عليه الحال في الأيام الأخيرة، أعني سنوات الحرب الماضية.
وعندي أن هذه الحال الطارئة ليست مظهر أزمة ثقافية تدل على انصراف الناس وقلة رغبتهم في الاطلاع كما يقدر بعض الباحثين، ولكنها فترة يقف فيها الجمهور موقف التروي والتمهل للاختيار وإيثار النافع وما يجد فيه من الفائدة ما يوازي، بل ما يزيد، على ما يدفع فيه من الثمن. . .
وهذه لا شك نتيجة طبيعية للحال التي شاهدناها أيام الحرب ولمسنا فيها الرواج العظيم في جميع وسائل الحياة، ومن بينها وسائل الثقافة المختلفة. . .
فالجمهور أيام الحرب كان يتلهف على كل شيء، ويرضي بأي شيء، سواء في غذائه أو في ملبسه أو في ثقافته، فكان حسبه أن يجد ما يطلب، لا أن يختار فيما يطلب، وعلى هذا طعم الخبز المخلوط بالرمل والحصى والتراب، ورضى الملبس الخشن الغليظ الذي لا يجزئ في تفصيل الثياب، وتقبل كل ما يقدم إليه من ألوان الثقافة ما دام يجد فيه تزجية للوقت وتسلية عما يحيط به، أما وقد زالت دواعي تلك الحال وضروراتها فإن الجمهور اليوم يتخير، وإنه ليتروى في هذا التخير، فهو لا يرضى إلا بالرغيف الأبيض الصالح للغذاء، ولا يطلب إلا الثوب الجيد الملائم للمقام، ولا ينشد إلا الكتاب الذي يتحرى فيه النفع والفائدة، ولا يقبل على أي لون من ألوان الثقافة إلا إذا وجد فيه ما يجزي وما يغني. . .
هذه حقيقة يجب أن يقدرها القائمون على نشر الثقافة، والذي ينتجون فيها، ويظهر أن أصحاب المتاجر كانوا أسرع فهماً وأحسن تقديراً لهذه الحال، فقد أصبحوا يعلنون عن بضائعهم بأنها من (أجود الأنواع وأرقى الأصناف) لأنهم أدركوا أن الجمهور الآن إنما يطلب الجودة والرقي. . . فخير للقائمين بأمر الثقافة أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن يجعلوها مدار المعاملة بينهم وبين الجمهور حتى لا يصدمهم الكساد الذي يحسبونه انصرافاً من الجمهور، وما هو إلا البوار الذي يصيب كل بضاعة مزجاة.
هنري فورد والشعر:
مات منذ قريب هنري فورد ملك السيارات ورجل الصناعة كما يصفه الصحفيون، وقد كتبت عنه جريدة (نهضة العرب) التي تصدر في المهجركلمة بهذه المناسبة قالت فيها: (وكان هنري فورد محباً للشعر، وخاصة للشعراء الذين جعلوا مثلهم الأعلى وحدة الإنسانية ونشدوا حكومة عالية تسهم الأمم كلها في إنشائها، وكان من مبادئه أن الثقافة والدين يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب)
يا الله. . . هنري فورد العظيم كان يحب الشعر!؟
ولكن ماذا وهب مالك خزائن قارون في سبيل هذا الحب، وماذا أجدى من ملايينه في تشجيع أولئك الشعراء الذين يدعون إلى وحدة الإنسانية!؟
ألا ما أكثر المحبين الذين ليس عندهم إلا كلمات الإعجاب والإطراء. . .
(الجاحظ)