مجلة الرسالة/العدد 73/القصص
مجلة الرسالة/العدد 73/القصص
عمامة الأفندي
للأستاذ محمد سعيد العريان
طال بنا انتظار صاحبنا (المأذون) في هذه الليلة حتى دقت العاشرة ولم يجئ، وكنا نرقب مقدمه علينا كل مساء رقبة المشتاق، فما تخلف منذ عرفناه ليلة، وإنه ليقدم فيحل البشر ويستخفنا السرور، سرور النفس بدعابته، وسرور المعدة بحلواه؛ فقلما كان يوافينا إلا ومعه هدية من عرس نتوزعها بيننا. ولم يكن لمقدمه ميعاد، فإنه لعلى تجوال دائم يتأبط دفتره من دار إلى دار، رسول سلام وحب، أو رسول فرقة وقطيعة!.
وتوزعتنا الظنون من غيبته، وحسبناه قد أصاب الليلة حظا من عرس، فبخل علينا بحلواه ومرق إلى الدار؛ فما كنا لنتركه حين يقدم علينا إلا فارغ الجيب من الحلوى وغير الحلوى مما يجمع من الأعراس، وما كان ليتركنا إلا فارغة رءوسنا من كثرة ما نضحك من دعابته وهزله. وإنه لشاب ضحكة جرئ على النكتة، ليس فيه زماتة الشيوخ من أهل هذه الطائفة.
وتهيأنا لاستقباله بفيض من النكات المصنوعة، لعلنا ننال منه لقاء ما كان يشبعنا كل مساء من عبث ودعابة؛ فقد كان له في كل ليلة هدف من الجلساء يتندر عليه ويتخذه ضحكة فما ينصرف منه إلا مغضبا فيترضاه في غد!.
وجاء بعد قليل، فحيا وجلس، ولكنه كان عابسا مبهورا ما يكاد جفنه يطرف؛ فحسبنا من وراء مظهره العابس نكتة مبتكرة، فما عهدناه يألم في الحياة لشيء، وإن الهموم لتصطرع عن يمينه وعن شماله.
وهممنا به نتناوله بما أعددنا له من عبث، فإذا كلماتنا تتساقط حواليه ولا تصيبه، وظل على حاله من الغضب والعبوس وسرت إلينا نفسه، وتقمصنا مما به روح الكآبة والوحشة؛ فأمسكنا عن الحديث لحظات.
ورفع الشيخ رأسه بعد هنيهة، وتحركت شفتاه بكلام، فتقصفنا عليه نستمع لما يقول
وسأل: (ما لديكم من أنباء صاحبنا عاطف؟).
قلنا: (لقد انقطع عن نادينا منذ زمان بعيد، فلعله على شغل ببعض شأنه؛ وإن لذات الحياة لحبيبة إليه، فما نراه قد منع لقاءنا إلا لهو آثره علينا، أو لذة دعته فلباها؛ أو لعله يتفيأ من دنياه الجديدة ظلال الحب والسعادة).
قال: (بل دنياه الجديدة، ولكن ليس فيها من السعادة والحب إلا ظلهما؛ ولكن مكابدة الأحزان، وألم الوحدة، ومشقة الحرمان، وظلام اليأس!). ورنت كلماته في أذني رنينا مفزعا سمعت صداه في قلبي؛ فقد توثقت صلتي بعاطف صبيا وغلاما وشابا؛ فأي أمل كان يجيش في تلك النفس، وأي روح كان يحمل ذلك الجسد، وأي حيوية كانت تصطرع من ذلك الشاب!
فما كربني كرب ونظرته إلا عادت الحياة في عيني باسمة نضرة، وما أهمني هم فلقيته إلا تعلمت منه فلسفة الرضى بما هو كائن، وكان من بهائه وإشراق طلعته، إلى كماله وعفته - كأنه فتنة مستحيية. . .
وأخذ الشيخ يقص علينا من نبئه، ونحن نستمع إليه في صمت.
كان عاطف على ما انبسط له من النعمة، وما اتفق له من حسن الرأي - لا يؤمل في الزواج إلا من فتاة ذات مال. ولقد كان عجيبا عندنا أن يكون على هذا الرأي، وهو من نعرف من شباب الجيل الجديد؛ ولكنا لم نكن لنستطيع على ما نسرف في مهاجمة رأيه - أن نصرفه عن بعض ما كان يعتقد. وراح في سبيل غايته يبحث عن الزوجة الغنية على أبواب المجلس الحسبي. . .!
ووجدها بعد إذ جد فأعيا؛ ولم تكن جميلة، ولكنها كانت بعيدة عن الدمامة؛ وكانت جاهلة، ولكنها من بنات الحاضرة. وقد مات أبواها وخلفا لها قصرا وضيعة، وأخا يقوم عليها وعلى الضيعة جميعا.
واستوثق الفتى من غنى صاحبته، فأقبل يخطبها إلى أخيها وقد اجتمعت له الأسباب. وأدى المهر؛ مهر الضيعة والقصر والعروس. . وعقد له على فتاته. لقد غبطناه يومئذ على النعمة، نعمة الثروة والجاه والزواج، وما عنانا كم دفع وكم أنفق؛ فقد كنا على ثقة بأن حبته مردودة إليه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. ورحنا نتهم أنفسنا بفساد النظر وأفن الرأي وسوء التدبير.
ومضى أسبوع، وشهر، وأشهر، وأوشك العام أن ينتصف. وعاطف متهلل الوجه، ضاحك السن، يحلم بالغد القريب يوم تزف زوجته إليه، وتزف ثروتها إلى خزانته. . . وسعى إلى صهره يستعجله، فإذا هو يبسط له المدى، ويفسح الأجل، ويستشفع بالتقاليد. . . وعاد الفتى إلى نفسه يطمئنها ويترضاها. وما عليه من ذاك؟ أليست ستزف إليه لا محالة في يوم قريب أو بعيد؟ بلى؛ وإنها لزوجته، ما في ذلك شك ولا إنكار؛ فلا عليه أن ينتظر!
ودار دولاب الزمن فأتم دورة، وراح الفتى يستنجز صهره الوعد، فقابله وهو يبتسم، وبسط له وجهه ومجلسه، وأخذ يتنقل به في الحديث من فن إلى فن حتى زالت وحشته، وأنست روحه، فودعه ولم يظفر بجواب. . .!
وتولت الأيام بعضها في أعقاب بعض، وتصرمت الأشهر شهرا في اذيال شهر؛ وما يزال صاحبنا يراوح بين جنبيه في فراش الوحدة، وعروسها هناك من دونها الأبواب والحارس العتيد!
ومل الفتى مقامه، وضاقت به نفسه؛ فراح يطلب التعجيل في الزفاف فيلحف، وأخو الفتاة في هدوء مطمئن يبعد له الأجل ويتعذر بالظروف! - (أي ظروف؟ لقد مر عامان مذ تزوجت، فمن لي على الحياة أحتمل بردها وحرورها وحدي، وما أنا عزب فأنطلق حيث أشاء، ولا زوج فآوي إلى بيتي ألتمس هدوء النفس وبرد الراحة!)
وعاد الأخ يعتذر ويجدد الميعاد، وهو يربت على كتف الزوج الغاضب.
وخرج عاطف من الدار والقدر تغلي في رأسه؛ لقد ابتدأ يعرف ما هنالك، ولكنه لم يجرؤ على التصريح. أيكون ذلك من قوانين البر، أهو كذلك ناموس الرحمة والعدل؛ أيعضل الأخ أخته فيحرمها الاستمتاع بالحياة من أجل المال، من أجل مالها الذي يخشى أن يفلت من يده إلى الزوج يتصرف فيه كيف يشاء! وما يضيره من ذلك وإن له لضعف ما تملك أخته المسكينة، وإن ماله ليكفيه ويفضل عن حاجته، ولكن. . . أين هو الفضل منذ سنوات؟
لكأنما هو مستخدم على أن يجمع المال فيبدده هنا وهناك، وما له من ذلك إلا اللقمة، وما تمتاز كثيرا من لقمة الفقير؛ وإلا الثوب، وإنك لترى الثياب الغالية يزهى بها من هم دونه من عامة الناس! أما فضل المال فله مصرف من وراء ذلك: على المرأة والكأس والقمار. . .
وهم عاطف أن يعود فيصرخ في وجهه بما عرف من أمره وسوء تدبيره، ولكنه كظم الغيظ على ألم وضيق.
وتلاقيا بعد أيام، وكانت القدر ما تزال تغلي؛ فعلا الزبد يترشش مصرحا عن غضب مغيظ. . وافترق الرجلان على خصومة وعداء. . .!
ودق عاطف باب المحكمة لعلها أن تحمل زوجته على (الطاعة)
أين هي المسكينة؟ وعلى طاعة هي أم على عصيان؟ إنه لم يرها إلا مرسومة في ورقة، أتراها في الأحياء، أم هي من وراء جدران سجنها جثة بلا روح، وجسد بلا عاطفة، وطاعة بلا إرادة، ومعدة بلا وجدان. .!
ويحك أيتها المسكينة! أتشعرين أنك في الأحياء؟ لعل في الموتى من هم أقرب منك إلى الحياة، لأنهم يعيشون من عواطف أهليهم في عواطف حية وحب مشبوب. .!
وفي المحكمة رأى الفتى عروسه لأول ما يراها، وقد جاءت تسعى عن أمر أخيها تطالب زوجها بالنفقة والكسوة والمأوى!
ياللسخرية! أضاق بها أخوها طاعمة كاسية من مالها عند! فيدفعها إلى القضاء تلتمس القوت واللباس. .!
وكان بينهما ما يكون دائما بين زوجين يعرفان المحكمة الشرعية؛ وفي كل يوم بينهما جلسة للقضاء، وكل منهما يفتن في الكيد والإغاظة، والغالب منهما من ينال من صاحبه من غير عائدة عليه، والمال يتسرب من بين أيديهما للمحامي والكاتب ورسوم الدعاوى وأجر الشهود. .!
وامتدت بينهما الفتنة، ولجت بهما الخصومة، وطالت إجراءات التقاضي، وتصرمت سنوات. وأخذ الزوج المسكين يبيعما يملك قطعة بعد قطعة، وفاء لنفقة الزوجة ونفقة القضاء؛ وأوشك الزوج الذي راح يطلب الغنى من تحت أقدام امرأة أن تصفر يداه. . .!
واصطلحا في النهاية على الطلاق. . .!
قال المأذون:
(وقلت للفتاة: أأنت على نية إبرائه رغبة في الطلاق؟
وزاغت نظرة الضحية العذراء من هنا إلى هناك، حتى استقرت على الرجل الجالس هناك، ثم نكست رأسها. ولم تجب.
قلت: إنما أنت تفصلين في أمر مستقبلك، فليس هنا لأحد عليك سلطان.
فحدقت في طويلا كأنما تلتمس المعونة، ثم حولت النظر إلى أخيها فإذا في عينيه كلام طويل، فأطرقت وهي تقول في همس: (نعم لقد أبرأته. . . .!)
والتفت إليها الرجل يصوب النظر ويصعده، ثم نطق بالكلمة الفاصلة. . .!
وتحولت إلى الرجل فأنكرته، وأقسم لكأنما لم أكن أعرفه من قبل، وما كان في بالي أنه صديقي عاطف. لقد انطفأ بريق عينيه كأنما ينظر من خلف زجاجة؛
وغاض ماء الشباب من وجهه، فما تراه إلا كوردة الخريف؛ وقد أطلق لحيته، كأنما تركت لطمات القدر في عارضيه سواد حظه؛ وكانت في يده سبحة، أحسبه كان يحصي عليها همومه وأحزان نفسه؛ وما رأيت شيئأ أبيض - فيما رأيت - إلا عمامته. . .!).
قلنا: (عمامته؟. . عهدنا به لا يلبس إلا الطربوش. . .!).
قال: (نعم عمامته، فاستأنوا. . . قلت له: ما فعلت بك الأيام يا عاطف؟
قال: ذاك ما ترى. ولقد أقسمت أن أفرغ لله، فلم تعد لي في الزواج إربة، ولن تراني إلا بين المسجد والبيت حتى ألقى منيتي! حسبي، حسبي ما لقيت من دنياي. . .! وانكب على سبحته يتمتم والحبات تتساقط في الخيط واحدة فوق واحدة، ورأسه يهتز كأنه يقول: كذلك تتعاقب الأيام كما تتساقط الحبات حبة وراء حبة، حتى تكون النهاية، حتى يكون الموت. .! وما وجدت عندي جوابا إلا أن أتحول وأدعه حيث يجلس يداعب سبحته. أتراه كان يذكر الله، أم يسب الدنيا. . .!). لقد راح المسكين يبحث عن الزوجة الغنية ليضاعف بمالها ماله، فآب فقيرا من مالها ومن ماله؛ وذهب يسعى لأن يضاعف بالزواج مسرات الشباب، فرده الزواج شيخا في الثلاثين!
محمد سعيد العريان