مجلة الرسالة/العدد 725/عجائب الشحاذين وأصحاب الملايين!
مجلة الرسالة/العدد 725/عجائب الشحاذين وأصحاب الملايين!
للأستاذ عباس محمود العقاد
هذه العجائب وتلك - كلتاهما من عجائب أميركا.
وهي بلاد العجائب بغير حدود من المكان ولا من طبقات السكان؛ فإنها لتجود بالعجائب في الشمال وفي الوسط وفي الجنوب، وإنها لتجود بها على أيدي (المتسولين) كما تجود بها على أيدي أصحاب الملايين.
وأعجب العجائب حقاً ما جاء من الوسط على رواية بعض الأنباء البرقية. ولا عجب. . . فانك لتستطيع أن تقول (اعجب العجائب الوسط) كما تقول خير الأمور الوسط. فلا تعدوا الصواب.
وبلاد المكسيك هي البلاد الوسطى بين الشمال والجنوب في القارتين الأمريكيتين.
وعجيبتها المروية هي عجيبة الشحاذين، وهي أعجب ما سمعناه من بلاد العجائب في هذه الأيام.
روي عن صحيفة (اليونفرسال جرافيكو) المكسيكية أن الشحاذين في عاصمة المكسيك قد اتفقوا على الحد الأدنى الذي ينبغي أن يقبلوه ليكون لهم عمل مجد على قدر المستطاع. وقرروا أن يرفضوا على نصف المليم ولا يمدوا أيديهم إلى مادون خمسة مليمات، وعليهم أن يرفضوا الصدقة إذا نقصت عن القيمة المقررة على الوجه الذي يرونه بالغاً في التأنيب والملامة. حسبما يقتضيه الموقف أو يقتضيه الحال)
هذا هو الخبر العجيب!
وهو ولا شك من (علامات الزمن) كما يقولون. لأننا في زمنالادعاء والطلب بالحق والباطل: كل يزعم له حقاً وكل يطالب بحق، حتى من لا يعمل له ولا معمول له على نفسه. وما من أحد قط تذكر الواجب عليه أو ينظر حقوق الآخرين.
وقد كانت مصر تدعى من قديم الزمن ببلاد العجائب، أو تدعى على الأصح ببلاد المفارقات.
وكان أهل مصر يقولون على سبيل الإغراب في الدلالة على التبجح والصفاقة: (حسنة وأنا سيدك!) ويخيل إليهم أنها غاية الغايات في الإدعاء وقلة الحياء. ولكنه عصر غابر وعجائب تاريخية وأزمنة متأخرة. . . وما هي في حساب بلاد العجائب على الطراز الحديث إلا من وقائع الصحافة وأخبار كل يوم!
ترى ماذا يمون لو قوبلت هذه (الحقوق) بالرفض والإهمال من فريق (المغتصبين)؟
أيضرب أصحاب الحقوق؟
لو فعلوا لكان خطراً جسيماً على المحسنين. لأنهم يبحثون على أبواب السماء فلايجدونها، ويدورون على أبواب الوجاهة والمظاهر فيقال لهم (يحنن) أو يرزقكم الله. ودقة بدقة أو بدقات، وطرقة على الأبواب بطرقة على الأبواب أو بطرقات! ويكون الجزاء على هذا من جنس العمل، في شريعة من لا يعملون!
إذا صح إن الصدقة باب السماء فقد أصبحت مقاليد السماء أذن في أيدي (سدنة) العصر الحديث، وهم أبناء السبيل أو أبناء محراب الطريق.
وكل ما بقى من منافذ الرجاء للمحسنين المساكين أن يكون للسماء اكثر من باب واحد.
فعسى أن يبحث عنه المحسنون موفقين.
وعسى ألا يسبقهم كهان السبيل على الأبواب.
ومتى أصبحت (الشحاذة) على هذا المنوال فلسوف يصبح كل محسن في العصر الحديث على غرار ذلك المحسن الوحيد الذي قال فيه الشاعر العربي:
تراه إذا ما جئته متهللاً=كأنك تعطيه الذي أنت سائله!
تلك هي أعجوبة الشحاذين.
أما أعجوبة أصحاب الملايين فمن محاصيل الشمال في تلك البلاد التي فاضت بجميع أنواع المحاصيل.
وأما بطلها العجيب فهو رجل يدعى (البرت ايت) باع مصانعه وقصوره وسياراته وقبع هو وزوجتهفي خمس حجرات مزرية في إقليم فلادليفيا. . . وقال لمن سألوه: ولم اكتفيت بهذه الحجرات الخمس وهي من مساكن أصحاب الكفاف؟
فقال إنها جهد ما تستطيع الزوجة العاملة عمله أن تتولاهبالخدمة والرعاية، وهي مع ذلك كافيه لمأواه ومأوى ذويه الأقربين.
لو كان هذا الرجل في الشرق لحجروا عليه، واتهموه بالجنون المطبق ولم يكن قصاراه من التهمة أنه مخلوق عجيب.
على انه الحق عجيب بين الناس لأنه نادر المثال بينهم، لا لأنه غير مفهوم أو لأنه منحرف عن منهاج العقل السليم.
فالعقل كل العقل ما صنع وحده.
والعجب كل العجب ما يصنعه جميع الناس في كل مكان.
لأن الناس لا يعجبون لرجل يودع عشرين مليوناً من الذهب في مصرف من المصارف ولا يحتاج إلى درهم منها لنفقة يومه أو غد، أو لنفقة أحد ممن تلزمه النفقة عليه.
وما الفرق بين عشرين مليوناً من الذهب باسمك أنت وعشرين مليوناً من الذهب باسم رجل آخر تعرفه أو لا تعرفه بين مخلوقات الله الذين يحسبون بالملايين.
ما الفرق بين مال تملكه ومال لا تملكه على هذا الحساب؟
ما الفرق بين مليم تستغني عنه وألف مليون من الدنانير تستغني عنها؟
لا فرق بينهما في حساب العقل السليم.
بل ربما كان الفرق في هذه الحالة أن المليم أفضل وأوفر من ألف المليون.
لأن هم المليم في التفكير والحساب أهون من هم الألوف والمئات والعشرات.
وكل ما هناك انه تنافس على الهباء أو بطر ومزاح في تلفيق المخاوف والأخطار
تنافس على الهباء ليقال إن صاحب الألف أغنى من صاحب المائة أو العشرة.
وبطر أو مزاح في تلفيق المخاوف والأخطار، لأنك تضحك من تلك المخاوف والأخطار لو لم تكن قادراً على توهم الحاجة واختلاقها من العدم، وأنت لا تخلقها من العدم لو استغنيت عنها واستغنيت عن تلك الأموال.
غنى من الوهم تدفع به حاجة من الوهم. فأنت في عناك وفي حاجتك من الواهمين.
وإنما الغني الصحيح كل مال تحول في نفسك إلى إحساس صحيح. فلا قيمة لمال لا يمثله في خزانة النفس رصيد من الإحساس، وكل ما فيخزائن الأرض من الذهب والفضة هو مالك أنت إذا كان قصاراك من المال أن تجمعه في خزانه أو تكتبه في أوراق المصرف بحروف اسمك بدلا من سائر الحروف.
أكان (البرت لايت) عجيباً كما وصفته الصحفووصفه قراء الخبر من المغرب والمشرق؟ نعم إذا كان العجيب هو النادر المخالف للمألوف.
وكلا وألف مرة كلا كما يقول خطباء الحماسة إذا كان العجيب هو الشائع المخالف للمعقول.
ولك أن تقول إن بلاد العجائب فيها مائة وعشرون مليوناً عجيبون ورجل واحد غير عجيب.
فيقول الناس كلهم: عجيب عجيب، ولا تسلم أنت يومئذ من تهمة العجب أو من تهمة الجنون.
على إن المرأة هنا أعجب من الرجل والله
ولو لم تكن أعجب منه لأخذت بتلابيبه وجرته إلى القضاء وملأت عليه الدنيا صخباً ولجباً كما فعلت إمرة الفيلسوف الروسي تولستوي، أو كما فعلها من قبلها نساء الأجاويد من العرب، وكلهن يلمن على ترك الغنى وكسب الدعة والثناء.
رجل عجيب وامرأة أعجب، وعالم أعجب من الرجل والمرأة معاً لأنه يعجب في غير عجب، وكان من حقه أن يصنع كما صنعا فلا يبتلي بشحاذين من ذلك الطراز، ولا بنزاع على الحقوق من قبيل النزاع الذي يقود الى مثل ذلك الإدعاء، فلا يسمع معه صوت للواجب ولا للأنصاف
عباس محمود العقاد