انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 722/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 722/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1947



الجاسوسة العاشقة

عن الإنجليزية

للأديب شفيق أسعد فريد

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

دخلت فانيا شرفة الفندق فانحنى لها الخادم بينما وقف إليوت لاستقبالها. . . وقبل الشاب أناملها في رفق. . . وحين جلسا بادرها قائلاً:

- أصغي إلي يا فانيا. . . يجب أن أرحل هذه الليلة. . . إنني متأسف كثيراً لذلك، بيد أن الأمر جد هام أعني أن لدى أعمالاً تستلزم رحيلي إلى الغرب. . . فقد وصلني اليوم خطابك. . . فقاطعته قائلة: أعمال. . . لم أكن أدري أنك قدمت إلى موسكو لأجل العمل. ولكن خبرني، ألا ترجع ثانيةً لموسكو. . .؟ وهل أنت ذاهب بعيداً. . .؟

فأجاب: إني ذاهب إلى باطوم. . . ولكنني سأعود ثانية فإن الأوامر التي عندي تقضي على بالبقاء في باطوم لمدة أسبوع. . . سوف أشعر بكثير من الوحشة لفراقك يا فانيا. . .

وشعرت الفتاة بشي من الاضطراب إذ لم يبلغ سمعها أي نبأ عن وصول مثل هذا الخطاب. . . وخطر لها أن تتحرى الحقيقة من أعوانها. . . فاستأذنت الشاب لبضع دقائق.

ودخلت فانيا الغرفة السرية التي يحتلها مندوب قلم المخابرات السرية في الفندق. . . ونظرت إلى الرجل الذي كان يجلس إلى المكتب وقد ارتدى معطفاً غليظاً. . . ثم قالت:

- يقول الشاب إنه ذاهب إلى باطوم الليلة وذلك بناء على التعليمات التي أرسلت إليه في خطاب وصله اليوم. . . وسيعود إلى موسكو ثانية بعد أسبوع.

فهتف الرجل قائلاً: ليس هناك خطاب أيتها المواطنة. . . إننا ندري كل شيء عن المحادثة التليفونية. . . على كل حال ستذهبين إلى باطوم الليلة. . . وسأنظر في أمر جواز سفرك. . . على إني أعتقد إنه لمصلحة المهمة التي تقومين بها ينبغي أن تسافري بالدرجة الثالثة. . .

كان قطار الغرب مزدحماً ازدحاماً شديداً في تلك الليلة. . . ولقد استطاعت فانيا أن تجد مقعداً خالياً بصعوبة شديدة. . . وبعد أن وضعت السلة التي كانت تحملها فوق المقعد غادرت العربة. . . ووقف فوق الرصيف ترقب وصول إليوت. . . ولم يمض أكثر من بضع دقائق حتى رأته يشق لنفسه طريقاً وسط الزحام الشديد. . .

ووصل القطار أخير إلى باطوم بعد رحلة شاقة. . . فغادرت فانيا العربة وراحت تراقب إليوت عن بعد. . . واستمرت في رقابتها حتى انصرف من المحطة واستقل سيارة ثم انطلق إلى فندق باطوم. . .

وفي المساء تسلل شبح إلى ممر فندق باطوم ولم يلبث هذا الشبح أن دخل إحدى الغرف في هدوء. . . وتلفت فانيا حولها فوجدت أن رجال قلم المخابرات قد زودوها بكل ما يلزمها في عملها. . . ولم تمض لحظة حتى طرق رئيس قلم المخابرات السرية في باطوم الباب. . . وحين دخل بادر الفتاة قائلاً:

- لقد كانت حيلة مرض الأخ الأصغر حيلة تدل على الذكاء النادر، على إنني واثق إن بين اليوت ومحادثه طريقة سرية للكلام، وفي اعتقادي أن كلمة بورد وتعني باطوم وأن سان سباستيان مثلاً يقصد بها سبستابول. . . يا له من أمر مضحك. . .

فقالت فانيا: ماذا تعتقد إنه سيحدث. .؟

فقال الرئيس: أعتقد. . . إنني متأكد مما سيحدث لأن من واجبنا معرفة الحقائق. . . يوجد شخص معين في باطوم يعرف الكثير من المعلومات الهامة عن أحد المشروعات الهندسية الكبيرة التي ستنفذها الحكومة على نهر فولجا. . . إن هذا الرجل روسي لسوء الحظ. . . ولما كانت معلومات هذا الرجل تهم الكثيرين من المهندسين الأجانب وبخاصة الإنجليز منهم فقد جاء أليوت لمقابلة هذا الرجل للحصول منه على ما عنده من المعلومات. ومع ذلك فإن الرجل لن يستطيع أن يبوح بهذه المعلومات إلا مرةً واحدة. . . وسوف نمكنك من سماع ما سيدور بين الرجلين من حديث بواسطة تليفون سري أعد لك في الغرفة رقم 114. . . والآن أريد أن أوجه انتباهك إلى إننا نريد الرجلين معاً. . . سوف نكون في حاجة إلى شهادتك فيما بعد. . .

تلفتت فانيا حولها في اشمئزاز، فقد شعرت للمرة الأولى بالكراهية للعمل الآلي الذي تقوم به. . . والواقع إنها كانت تحس اضطراباً داخلياً لم تستطع مقاومته. . . كانت تريد أن تطلق الجاسوسية ومؤامراتها وإيقاع الأبرياء في حبائلها لتسوقهم إلى الهلاك. . . أجل لقد شعرت بأنها امرأة شريرة. . .

واستولى الإعياء عليها، وشعرت برعب عظيم يتسرب إلى قلبها ولكنها استطاعت أن تقاوم هذا الذعر وبدأت تفكر في هدوء!

ودق جرس التليفون فجأة فأفاقت من تأملاتها. . . وسمعت صوت عامل التليفون يعلن أن رجلاً اسمه المستر راكوف قد اتصل بالمستر أليوت وطلب إليه أن يحدد له موعداً للمقابلة كي يطلعه على النماذج اللازمة. . . ولقد حدد المستر أليوت الساعة السادسة للمقابلة في الغرفة رقم 110. . .

وبدأ للفتاة أن وقت العمل قد حان، فقد أستقر رأيها على أمر معين وصممت على تنفيذه مهما كانت العقبات التي تعترض سبيل هذا التنفيذ. . .

وتسللت فانيا من غرفتها إلى الشرفة في هدوء. . . وتقدمت إلى الغرفة رقم. . . وطرقت النافذة في رفق، وحين فتح اليوت النافذة وضعت في يده مذكرة صغيرة كانت قد أعدتها في غرفتها ثم قفلت راجعة دون أن تلوى على شيء. . .

كان قلبها يدق في عنف ووحشية. . . وشعرت بنوع من الحمى يدب في جسدها، ولكنها - مع ذلك - شعرت بشيء من الطمأنينة إذ حذرت الشاب في الوقت الملائم.

وفي الساعة الثالثة سمعت فانيا وقع أقدام الشاب في الدهليز وصوت أقدامه وهو ينزل الدرج - وراحت تتساءل: ترى هل سيعمل بنصيحتها. . .؟ وهل ستنقذه هذه النصيحة من مصيره المحتوم؟!

لم تكن ترتاب في أنه إنما قدم إلى الروسيا ليبتاع معلومات لو إنها أذيعت لسببت متاعب جمة لحكومة السوفييت. . . إنه أحد أعداء بلادها ويجب القضاء عليه بكل الوسائل الممكنة. . . ولكن. . . يا لله. . . لقد أقدمت على خيانة وطنها خيانة عظمى دون أن تدري لذلك سبباً. . .

ودقت الساعة في بهو الفندق معلنة الرابعة والنصف ومع ذلك لم يعد أليوت. . .

وحين دقت الساعة الخامسة بدأت تتساءل: ترى هل هرب؟

ونظرت الفتاة إلى ساعتها فإذا بها السادسة إلا ربعاً. . . وما هي إلا لحظات حتى سمعت وقع أقدام في الدهليز أعقبها طرق على بابها. . .

ودخل الخادم لينبئها أن شخصاً جاء لمقابلة المستر إليوت في غرفته وإن هذا الرجل موجود فعلاً في غرفة الانتظار في تلك اللحظة. . .

كان هذا الإعلان نذيراً ببدء العمل. . . فالتقطت فانيا سماعة التليفون ووضعتها فوق أذنها وراحت تصغي. . .

كان الصوت واضحاً حتى لقد استطاعت فانيا أن تسمع صوت تحرك اليوت في الغرفة. . . وخطر لها أن تصيح لتحذره ولكن أني لها ذلك. . .

وسمعت الفتاة وقع أقدام في الدهليز فعرفت أن المستر راكوف في طريقه إلى مقابلة أليوت في الغرفة رقم 110.

واستولى عليها الاضطراب حتى لقد سقطت منها حقيبتها اليدوية. . . وفجأة سمعت الحديث الذي دار بين الرجلين. . .

كان الصوت واضحاً عالياً. . .

وراحت تصغى وقد أدركت أنها لن تستطيع الفرار من مواجهة الأزمة. . .

كان أليوت يتكلم بصوت عالِ بكلام لا معنى له دون أن يجعل لرفيقه فرصة الكلام.

إذن فقد أدرك الشاب إن هناك من يسترق السمع. . .

وأسرعت الفتاة فوضعت السماعة مكانها وهرعت نحو الباب وأشارت إلى الخادم إشارة فهم المقصود منها. . .

وفجأة امتلأ الدهليز برجال قلم المخابرات السرية. . . وحين واجهها رئيسهم باسماً قال:

- هل سمعت ما فيه الكفاية أيتها المواطنة؟

وصاح أحد الرجال في تلك اللحظة:

- افتحوا الباب وإلا حطمناه. . .

وفتح الباب فجأة بينما اندفع الرجال داخل الغرفة.

كان أليوت باسماً على حين كان راكوف أبيض الوجه يرتجف من الخوف. . .

وفتش الجند الرجلين بسرعة وفي خشونة وعنف. . . بينما وقفت فانيا على مبعدة وقد أطرقت برأسها إلى الأرض.

وقال رئيس الجند: تعاليا معي لتوضحا مسلككما الحالي. . .

لقد استطاعت هذه المواطنة أن تسمع الحديث الخطير الذي دار بينكما منذ لحظة.

ولاح لفانيا إنها تشاهد إحدى المهازل. . . ولم يبق لديها شك في أنهما وقعا في الفخ

وأخيراً قالت في صوت مبحوح: لقد سمعتهما يتحادثان أيها الرئيس، ولقد استنتجت من حديثهما إنهما يتكلمان طبقاً لطريقة خاصة!. . لقد ذكرا أنهما يتوقعان محادثة تليفونية من بوردو بخصوص حالة أخي المستر أليوت الصحية.

ودق جرس التليفون في تلك اللحظة فانصرفت أنظار الجميع إلى الآلة الصغيرة الموضوعة على منضدة بجوار السرير. . . وكاد أليوت يتناول السماعة حين منعه رئيس الجند من ذلك وتناول هو السماعة ثم قال رداً على المتكلم:

- ماذا تقول. . .؟ مكالمة خارجية. . .! مستعجلة. .! تقول إنها للمستر بارنجتون. . حسن. . . ماذا؟ من بوردو. . .!

والتفت رئيس الجند حوله في غضب. . . وأخير قال لفانيا:

هل تتكلمين الفرنسية. . .؟ حسن! يمكنك أن تصغي للمتكلم. . . أخبريه أن المستر فارنجدون مريض أو بالخارج أو ما شابه ذلك. ووضعت فانيا السماعة على أذنها وبدأت تصغي. . . وقالت رداً على المتكلم:

- أجل. . سوف أخبر المسيو أليوت. . تقول إنه أحسن حالاً. . هذا بديع. . لقد كان المسيو أليوت قلقاً على أخيه. . .

- حسن! سأخبره بذلك يا سيدي. . . الوداع. . .

والتفت إلى رئيس الجند وهي تقول:

- إن المكالمة من بوردو كما ذكرت وهي مكالمة خاصة للمستر أليوت. . . إنها تقرير عن صحة أخيه. . . يلوح أننا أخطأنا يا سيدي. . . ربما أخطأت في إدراك مغزى حديثهما. . .

وبدأ الغضب واضحاً على رئيس شعبة قلم المخابرات السرية في باطوم وعض على شفتيه قهراً ثم ألقى نظرة غاضبة على أليوت والتفت إلى فانيا قائلاً:

- حقاً. . ربما أخطأت أيتها المواطنة. . . إن الإنسان معرض للخطأ. . . وعلى ذلك فهاأنذا أتقدم للمستر فارنجدون باعتذاري وأنا جد واثق إنه يقدر المتاعب والأخطار التي تعترض سبيل عملنا الدقيق. . . إني أعتذر إليك للمرة الثانية يا مستر أليوت والتفت إلى راكوف قائلاً: أما أنت فاتبعني.

وحين غادر الجميع الغرفة التفت أليوت إلى فانيا وقال في صوت رقيق: خبريني لماذا أقدمت على هذه المخاطرة من أجلي؟

فقالت: الواقع أنني لا أدري يا أليوت. . . لقد شعرت بالملل فضحك. . .

وفجأة ضمها إلى صدره في حنان ثم قال: والآن سوف نذهب معاً إلى بوردو. . .

شفيق أسعد فريد