انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 720/على هامش معركة عين جالوت:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 720/على هامش معركة عين جالوت:

مجلة الرسالة - العدد 720
على هامش معركة عين جالوت:
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 04 - 1947



بين مصر ولبنان

للأستاذ أحمد رمزي بك

أمراء الغرب البُختُريون من تنوخ أهل المجد وأصحاب الرياسة في لبنان كانوا طوال الأعصر الماضية حلفاء مصر ويدها اليمنى في كثير من الملمات والحوادث. كانت (إعبية) معقلا لهم وفيها آثار قلاعهم وقصورهم، ما مررت بها إلا وغلبتني دمعة حاولت إخفاءها، فقد دالت منذ زمن بعيد دولة أمراء الغرب وذهبت ريحهم أو قل مع الريح أخبارهم، كما دالت وذهبت مع الريح دولة مصر الإسلامية التي كامن تهزّ الدنيا ويخشاها أهل الشرق وأهل الغرب.

وبقيت ذكريات ذلك العهد وآثاره وأعمال مصر الإسلامية العربية وجهادها وهي جميعاً تحرك النفس وتدعوا إلى العجب من هذا النسيان الذي لا أجد له تفسيراً لدى أحد من الناس، نعم عجبي من هذا النسيان الشامل الذي نعيش في غمراته.

لقد ذهبت أخبار أمراء الغرب ودفعوا ثمن ما عُرف عنهم من ولائهم لمصر وعرشها غالباً بعد معركة مرج دابق وزوال الدولة المصرية من الوجود، ثم فنيت جموعهم واندكت صروح مجدهم ولم يعد يسمع لهم خبر بعد أن ورث المعنيون وهم أتباعهم ثم أصهارهم الملك والإمارة من بعدهم، وجاء الشهابيون وهم من أتباع آل معن فورثوا الإمارة والرياسة من هؤلاء، فاندثرت الرياسة الكبرى لأمراء الغرب من تنوخ إذ هم الأصل والكل فروع، مثلهم في لبنان كمثل آل سلجوق في الدنيا، الكل لهم فروع من أتابكة وأيوبيين وأمراء من البحرية والبرجية وملوك من آل عثمان وسلاجقة الروم لأنهم كانوا الأصل والموئل والمرجع ومن سواهم فهم فروع لهم.

بنو هاشم في كل شرق ومغرب ... كرام بني الدنيا وأنت كريمها

وسآتيك بنبأ من أخبارهم يحلو لي ترديده وذكره، وهذا حديث يصح فيه قول البحتري:

وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس

فقد ذكر صالح بن يحيى خبر المرسوم الذي بعث به المعز أيبك صاحب مصر إلى سعد الدين خضر أحد مقدمي أمراء الغرب وقال إن أهل الشام نسبوا أمراء الغرب إ المصريين فجمعوا لهم جموعاً من العشائر النازلة في بعلبك والبقاع وساروا بهم نحو جبال لبنان، والتقوا معهم في بلدة عيتات في 2 ذي القعدة سنة 653 هجرية، فاقتتلوا وكتب النصر لألوية أمراء الغرب، وكان فارس المعركة وصاحب الشهرة واليد الطولي أمير منهم اسمه زين الدين صالح بن علي بن بحتر بن علي، سطع نجمه من ذلك اليوم وسيأتي ذكره في معركة عين جالوت وغيرها من حوادث الزمن.

وصالح بن يحيى هذا مؤرخ القوم قال (وجدت باسم سعد الدين منشوراً من الملك المعز أيبك التركماني أول سلاطين الترك بالديار المصرية والعلامة (حسبي الله) وأبدي لنا تعجبه لأن بيروت كانت تتبع الشام والمنشور مصري وهو يعلم أن الملك الناصر الأيوبي صاحب ديار الشام كان يروم أخذ مصر وإعادة ملك الأيوبيين كسابق عهده قبل أن يستقل بها أمراء الأتراك، وكان المعز أيبك يدافع عن ملك مصر ويروم قهر الناصر، وكانت حوادث وخطوب ومعارك، وانتصر فيها المعز وزينت القاهرة ومصر وقلعة الجبل وقلعة الروضة عدة أيام حينما دخل العاصمة والأسرى بين يديه والسناجق منكسة والطبول مشققة، ولعبت الفرسان بالرماح على الخيول في ساحة بين القصرين، حتى إذا وصلوا إلى تربة الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاح البحرية: (أبن عينك اليوم يا مولانا لترى أعداءك بين أيدينا).

واستمر الأمر بين مصر والشام على المنازعة والمخاصمة حتى تدخل بين الملكين من أصلح الأمر على أن تكون بلاد الشام إلى العريش للناصر وأن تكون مصر للمعز.

وكان الفرنج على الساحل وبيدهم الحصون والمعاقل يغزون ويقاتلون المسلمين كافة من أهل الشام وأهل مصر، وفي تلك الأثناء سقطت بغداد بيد التتار وساقوا خيولهم إلى أراضي الفرات والشام، فأرسل الملك الناصر صاحب الشام ابنه الملك العزيز إلى هولاكو ومعه تقادم وعدة من الأمراء فوعده بنجدة لإنقاذ مصر من حكامها.

في تلك اللحظة انتهى أمر الأيوبيين أو قضوا على أنفسهم بالفناء بعد أن خالفوا تقاليد صلاح الدين وارتموا في أحضان الغاصب، فضاعت منهم بلاد الشام ولم تقم لهم قائمة، وألقت الأقدار على جند مصر كتابة الملحمة الكبرى في عين جالوت التي تناقل حديثها الأجيال.

في هذه المعركة انضم إلى التتار أمراء وملوك من آل أيوب وغيرهم من مقاتلة المسلمين، وجاء من أمراء الغرب من وقف في صفوف التتار يحارب بإرادته أو رغم أنفه، وكان منهم زين الدين الذي أشرنا إليه فنقل عنه أنه حضر المصاف بين عسكر مصر والتتار على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 658 فلما انهزم التتار وتفرقت جموعهم لجأ فريق منهم إلى المرتفعات واختار بعضهم قمة جبل يشرف على المعركة وتحصنوا هناك فأحاطت بهم المماليك السلطانية وسدت عليهم منافذ الخلاص فلحق بهم الأمير زين الدين وانضم باختياره إلى جند مصر وحارب التتار وأعجب مماليك السلطان بقتاله وقوة بأسه حتى صاروا يقدمون له النشاب من تراكيشهم (التركش هي جعبة السهام). ولما انتهت المعركة وجلس المظفر قطز ملك مصر، وجيء بين يديه بالأسرى وفيهم ملوك المسلمين وأمراؤهم الذين أعانوا الخصم وحاربوا في صفوفه، وقدموا إليه الملك المسعود صاحب قلعة الصبية من ملوك بني أيوب وكان شديد الوطأة في حربه على المسلمين فأمر السلطان في الحال بضرب عنقه. وجيء إليه بالأمير زين الدين المذكور وهو من أمراء الغرب فتقدم مماليك السلطان جماعة وشهدوا في حقه وحسن بلائه وقتاله للتتار على ذروة الجبل فنظر المظفر إليه وعفا عنه.

ونقل عن زين الدين المذكور وصف شائق للمعركة يوم عين جالوت قال فيه (والله ما خفت في يوم أكثر منه) وذكر أنه رأى مع العسكر الطبول محملة على ثلاثمائة جمل حتى أخفى أصواتها وقع الضرب بالسلاح على القراقل (الدروع) والخوذ وما كان يتخلل ذلك من صراخ الرجال، وذكر أن بين ما وقع بين يديه فرس هائل المنظر من خيول التتار كان يسابق عليها طويلا.

ذلك خبر أمير من أمراء الغرب على هامش معركة عين جالوت. أما مواقفهم بعد ذلك مع ملوك مصر أيام الظاهر وقلاوون وابنيه الأشرف خليل والناصر محمد فكثيرة، تبرهن على ود وصداقة وتآلف مع مصر، ومنها رسالة من ديوان مصر تقول: (قد بلغنا أن جموعكم قد تفرقت، وأنتم تعلمون أن هذا الوقت الذي يظهر فيه مناصحة الدين والدولة القاهرة فليتقدم الأمراء أيدهم الله برد الرجال إلى جهة صيداء، وليجتهدوا في المساعدة على حفظ هذا النفر مؤيدين إن شاء الله). . .

أحمد رمزي