انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 705/نشيد الحرية في عيد الهجرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 705/نشيد الحرية في عيد الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1947



للأستاذ محمود الخفيف

معصوبة العينين مغلولة ... واهنة في أسرها شاحبة

لاهثة في القيد برية ... ذاهلة عن قيدها واثبه

عصية هوجاء مأخوذة ... نازعة للطير ما أذعنت

يوماً لهذا الأسير أو هادنت

أو غلبت روح لها غالبة

أبية مهم يعض الحديد ... فليس بالموهن إصرارها

من بأسه بأس لها أو يزيد ... والنار تذكي أن طغت نارَها

هازئة في قيدها بالوعيد ... توعد مَن قيَّدها صيحة

تصغي الأيام مرتجة

وتنقل الأيام أخبارها

تصيح بالسجان يا آسري ... غداً تريك الأرض زلزالها

تغدو بها المقهورَ يا قاهري ... يا صانعاً للروح أغلالها

هيهات أخشى القيد من غادر ... رنين أغلالي في سمعه

ألقى طيوف الرعب في نفسه

والرجفة النكراء أوحى لها

ما ألفت إلا فسيح الرحاب ... طليقة في جوها طائره

في المرج والموج وفوق السحاب ... خفاقة رايتها عابره

وضيئة تلمع لمع الشهاب ... في ظلمة العيش سنا برقها

تهفو إليه الروح مشتاقة

وتجتليه الأنفس الثائرة

كم من فؤاد باسمها خافق ... مستشرف يرتقب الموعدا

وكم لها في الدهر من عاشق ... محلق الروح وإن قيدا

في سجنه ينظر من حالق ... يهزأ بالسجن وأص ما عرف الإذعان قلب له

يطلقه مما يسام الردى!

معشوقة الإنسان من يومه ... حياته قبل ضلال الحياه

قبل الذي أغواه من علمه ... وغره أن الهدى ما يراه

قبل الذي أطغاه من حكمه ... في رأسه الريش وفي كفه

نصل يلوح الشر في ومضه

والغل والأصفاد صاغت يداه

مذ ألبس الناس لباس الحديد ... والذهب الوهاج ما يلبس

يا سوء ما يشقى لديه العبيد ... وليس من يهمس أو ينبس

أين، وقيدٌ كل يوم جديد ... والناس قطعان ورعيانهم

إن بسم الراعي صفا مرجُه

والغيم والإعصار إذ يعبس

وأصبحت من حلم الحالم ... وسهده، الحرية الساحره

كم من مُعَنى باسمها هائم ... يطلبها في الظل والهاجره

يعيش بالأحلام في عالم ... ينسى به الإنسان أغلاله

بالحق والرحمة في أرضه

والسلم كم تربطه آصره

حورية كم سحرت مهجة ... راحت بما تشقى به تسعد

ما إن ترى في عيشها بهجة ... إلا الذي في حلمها توعد

والهول كم خاضت به لجة ... من ظلمة تأوي إلى ظلمة

تهفو إلى النور الذي شاقها

حتى ترى صبحاً له يولد

عذراءُ كم أغلى الهوى مهرها ... من الدم الغلي لها يبذل

كم ألهمت نضواً لها سرها ... من روحها وحي الذي يعمل

يلمح في كل سناً سحرُها ... كل شاد بالهوى حوله ذكره باللحن معشوقة

لو تقتضيه الدمَ لا يبخل

كم راسف في قيده موثق ... يأبى وأن مُنَّي أن يذعنا

أشهى له سجنه الضيق ... أن يلبس الأغلال مستيقنا

عزاؤه في ضيقه المحرق ... ما يحرق الطاغين من غيظهم

مما أصرت أنفس حرة

تأبى إلى الذلة أن تركنا

عذابه في القيد روح له ... يكاد لولا كبره يطرب

ينسيه ما يطلبه هوله ... ياهول ما حمله المطلب

في قلبه ومض محا ليله ... فاض كما كان يفيض الضحى

وهو من السجن وأحجاره

في غيهب من فوقه غيهب

يذوي وفي أضلاعه جذوة ... تدفئه في ركنه الأقتم

تذهله عن موته نشوة ... فثغره يبسم إذ يرتمي

تمضي إلى الموت به غفوة ... فيها خيال رف من فوقه

يعرفه! كم ذا رأى وجهه

بغيره في الأسر لم يحلم

فطرية تنشدها الأنفس ... والأنفس الحرة قربانها

من نفس تحيا به أنفسٍ ... فيها من العزة برهانها

في لمحها النار التي تقبس ... نار تظل الدهر مشبوبة

يخشى لظاها كل مستكبر

وينذر الطاغين بركانها

أبطالها في الدهر أيامهم ... أجمل ما يشدوا به شاعر

توحي إلى الحاضر آلامهم ... كيف أبى أغلاله الحاضر

أسيافهم شهب وأقلامهم ... لحن، على الأيام أسجاعه وحي قلوب خافقات به

في الأرض ما خوفها قاهر

شدوْتُ والهجرة في خاطري ... أنشودتي الحرية العانيه

إشراقها في قلبي الثائر ... لحن به أذكيت ألحانه

تبقى بقاء الفلك الدائر ... توحي إلى الأجيال حرية

ما ولدت (يونان) أختاً لها

والدهر ما جاد بها ثانية!

خوانق الأغلال مفصومة ... مهاجر حطمها واحد

من حوله الأوهام مهزومة ... زلزلها البتهل العابد

أسلحة الطغيان مثلومة ... والناس سوى بينهم دينهم

ما عز إلا الله من حاكم

لغيره ما سجد الساجد

مهاجر عزمته أنطقت ... بما تدين الأنفس الخائفة

منطلق من أسره أطلقت ... هجرته الحرية الراسفه

رسالة للروح قد أشرقت ... تضحي على الأنفس آياتها

قدسية الومض إلهيةٌ

جوانب الأرض بها هاتفه

الروح في منزعها حرة ... من ربقة الذل الذي يوبق

والعقل قد ثارت به ثورة ... تأبى من الأوهام ما يوثق

والجسم كم نامت به شرة ... لا الترف الجامح ماض به

إلى مهاوي الغي يوماً ولا

يخشى من الطغيان ما يرهق

محمد، شرعته قوة ... تذكى طموح الأنفس الطامحه

حمية توقدها دعوة ... إلى الهدى حجَّتها لائحه

في كل نفس حرة جذوة ... صوب العلا تدفعها والفدا كم ألهبت في زحفها عصبة

هزت بها أسيافها الفاتحة

ودينه الحرية الصادقة ... لا عوجٌ فيها ولا زخرف

معارج الفكر به شاهقة ... وسيفه من خلفه المصحف

مراشد الوحي بها ناطقة ... في الدين لا إكراه من قيم

والأمر شورى فيه لا غاصب

يطغى ولا ذو نزق يعصف

يا مدلجاً أخرجه قومه ... خطوت لا في البيد بل في الزمن

يا جاهداً تحت الدجى، عزمه ... والبغي داج ليله، ما وهن

يا واحداً ضاق به خصمه ... هجرتك الغراء من وحيها

في كل عصر ظالم، هجرة

لكل شاك غربة في الوطن!

قصيدة رددها منشدا ... ما هتف الدهر وما رجَّعا

لحن له في كل قلب صدى ... ما أصدق اللحن وما أروعا

شمس هُدى كم ذا تشع الهدى ... من أفق الوحي شعاعاتها

مطلعها الشرق وكم أشرقت

شمس به، أكرم به مطلعا!

(البقية في العدد القادم)

محمود الخفيف