انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 705/قيادتنا الروحية. .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 705/قيادتنا الروحية. .

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1947



للأستاذ سيد قطب

في حياة الأمم - كما في حياة الأفراد - فترات خاصة، ترتفع فيها على نفسها، وتسمو فيها على مألوفها فتأتي بالخوارق والمعجزات، حتى لتتأمل فيما بعد ما أتمته في هذه الفترات الصغيرة، وما قامت به في تلك الآماد القصيرة، فلا تكاد تصدق، ولا تدري كيف تأتى لها أن تأتي بذلك العجب العجاب!

هذه الفترات الخاصة هي التي ترتفع فيها الجماعات - كما يرتفع فيها الأفراد - إلى ما هو أعلى من الحياة اليومية، ومن المطالب العادية. وتتطلع إلى غايات عليا لا تتعلق بحياة فرد أو جيل، ولا تقف عند رغبة شخص، ولا أنانية فرد.

وفي هذه الفترات يجد الفرد لذته الكبرى في أن يضحي بلذائده. وغايته الأولى في أن ينسى غاياته. وتنبثق من الجماعة حينئذ إشعاعات وطاقات عجيبة؛ تتخطى اللذائذ والغايات المنظورة إلى لذائذ وغايات أخرى غير منظورة؛ قد لا تستطيع تحديدها تماماً، ولا فهمها نصاً. ولكنها تساق إليها سوقاً بدوافع خفية كامنة فيدو كأنما الكل أبطال في وقت من الأوقات.

هذه الفترات هي التي تسمع فيها الجماعات والأفراد صوت الحياة الأزلية، وتصغي فيها إلى إرادة الحياة الأبدية، فتخفت حينئذ أصوات الرغائب الفردية، وتنطوي رغبات الأفراد الزائلة فتندفع الحياة دفعة كبرى إلى الأمام؛ وتدخر بعد هذه الدفعة رصيداً تنفق منه في خطواتها التالية، حتى إذا نفد ذلك الرصيد بطؤت خطاها، وتراخت قواها، وصحت الجماعة من تلك النشوة تتلفت إلى ذاتها، وتحصر نفسها في نطاقها، وتطلع كل فرد إلى شخصه، وصحت رغائبه ولذائذه، وتفككت روابط الجماعة وعادت أفرادا وأنانيات، وصغرت قيم الحياة العليا، وأنكمش المد الزاخر، وانطوى كل فرد على ذاته، يعبدها، ويملقها، ولا يرى أبعد منها شيئاً، إلى أن تنقضي الدورة، وتزهد الجماعة في هذه الحياة الرخيصة، وتتطلع من جديد إلى آفاق أعلى، وتكون قد ذخرت من الرصيد ما يكفي للوثبة فتفعلها.

والملاحظ في هذه الدورات والفورات، اتفاق يبعده التواتر عن أن يكون مجرد مصادف هذا الاتفاق هو وجود قيادة روحية في كل وثبة من وثبات الأمم والجماعات. قيادة تهتف للجماهير بنسيان الذات الفانية، وتضحية الرغبات القريبة. وتشير إليها نحو هدف آخر أبعد، وأفق آخر أرفع. وكلما بعد الهدف، وارتفع الأفق، كانت الاستجابة أكبر، والتلبية أسرع، والقفزة أعلى، والخطوة أوسع. وكلما كانت التضحية المطلوبة أوسع مدى، كان الدعاء أسرع إجابة.

فإذا كانت تضحية رغائب فرد في سبيل جماعة محدودة، كان عدد الملبين للدعوة قليلاً. وإذا كانت تضحية جماعات في سبيل أمة على نسق الدعوات الوطنية - كانت التلبية أوسع. فأما إذا كانت تضحية الأفراد والجماعات والأمم في سبيل فكرة إنسانية ومبدأ أسمى، فإن الصدى يكون أبعد، والمدى يكون أفسح، والامتداد يكون أقوى.

هكذا كانت المسيحية، ثم هكذا كان الإسلام.

كانت المسيحية تطهيراً للنفس الإنسانية من رغائبها وشهواتها واستعلاء على اللذائذ الشخصية بالحرمان والتزهد، وفناء للذات الفرد في حب يسوع المخلص. . . لهذا صمدت للتعذيب والاضطهاد والاستشهاد. صمدت لبطش الدولة الرومانية، حتى استجابت لها الدولة الرومانية وظلت تصمد لما هو أقوى من الدولة وجندها وبطشها. . . تصمد للغريزة والشهوة والأنانية وهي أقوى من كل قوة. ظلت تصمد إلى أن نفدت الطاقة، وقل الرصيد. وطغت المراسم والشعائر على العقيدة والمشاعر. فاشترى رجال الدين بدينهم ثمناً قليلاً. وأنفلت الأفراد إلى أنفسهم وذواتهم عاكفين عليها. ووقف نمو المسيحية، أو زادت شخوصاً ولم تزد ضمائر. . . اللهم إلا الفلتات التي كان ينبغ فيها أفراد ممن يدعون الناس إلى السماء فيستجيبون لهم بقدر ما في أرواحهم من رصيد. لم يرتفع مرة إلى القمة الأولى.

وهكذا كان الإسلام تجميعاً للطاقة الإنسانية كلها، وتوجيهاً لها إلى الهدف الأعلى، إلى معنى الإنسانية الأسمى: المساواة والحرية والكرامة والعمل والرحمة والاستشهاد، وفي كل واحدة من هؤلاء كان يرتفع بالنفس الإنسانية إلى آفاقها العليا.

كان يرتفع بها في (المساواة) إلى نسيان النعرة الشخصية، والنعرة المحلية، والنعرة القومية، وجميع النعرات التي تمزق الإنسانية طوائف ونحلا، وتغرس العداوات والبغضاء وتعوق النمو البشري والتقدم الإنساني.

وكان يرتفع بها في (الحرية) إلى (المساواة) في آفاقها التي رسمنا. ثم إلى التحرر من الشهوات والمطامع المذلة أو الظالمة (إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وإن الله على نصرهم لقدير) (ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد من غلب نفسه).

وكان يرتفع بها في (الكرامة) إلى (المساواة) وإلى (الحرية). ثم إلى الترفع على عبادة العبيد، والخضوع للمخلوقين. (إن العزة لله جميعاً).

وكان يرتفع بها في (العمل) إلى (المساواة) وإلى (الحرية) وإلى (الكرامة) جميعاً. . . ثم إلى الإنتاج والتقدم بالإنسانية. (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس: أعطوه أو منعوه). (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).

وكان يرتفع بها في (الرحمة) إلى ما فوق الذات، وإلى المشاركة الوجدانية مع الإنسانية، وإلى الشعور بالرحم الأقوى رحم البشرية: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم). (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (الفقراء عيال الله وأحبكم إلى الله أرأفكم بعياله).

وكان يرتفع بها في (الاستشهاد) إلى ضمان هذه الفضائل جميعاً؛ وإلى الارتفاع عن الحياة المحدودة إلى حياة أخرى غير محدودة. وإلى الخلاص من أشد قيود الغريزة: من حب هذه الحياة المادية، إلى حب الفكرة المجردة.

بهذا الرصيد الروحي الفخم وثب الإسلام بحفنة من الرجال في الصحراء. شعث غبر فارتفع بهم على هامات الإمبراطوريتين الشائختين في فارس والروم. وبهذا الرصيد الضخم انطلقت الشعلة في الهشيم فأحالته ناراً ونوراً ينهض بالبشرية وينير لها الطريق. واندفع الإسلام يعبر الصحارى والجبال والبحار حتى يصل إلى سد الصين شرقاً وإلى بحر الظلمات غرباً في مثل لمح البصر بالقياس إلى عمر الدهر. فكانت هذه إحدى معجزاته الكبرى.

وعند ما انطلق الفاتحون في مشارق الأرض ومغاربها لم ينطلقوا للاستعمار والفتح، ولكن لنشر الفكرة العليا. وكلما هبطوا وادياً حرروا أهله من مستعبديهم ومن حكامهم ومن ذات أنفسهم. حرروهم من السلطان الغاشم، والاستغلال القبيح، ومن الضلالات والأوهام أيضاً؛ وردوا لهم كرامتهم الإنسانية وساووهم بأنفسهم (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

واختفت في فجر الإسلام نزعات العصبية، ونزعات اللون، ونزعات الجنس ونعرات العزة بغير الله. كلكم لآدم، وآدم من تراب)!

اندفع الإسلام بهذه السرعة الخارقة، وبهذه القوة الجارفة، لأن الذين اندفعوا به قد ارتفعوا على أنفسهم، وتساموا على ذواتهم، وخفتت في أرواحهم سورة الفردية، وغلت فيها فورة الغيرية. ولأنهم تخلصوا من أوهام الحياة المادية المجسمة، وعشقوا فكرة روحية مجردة. . . وصار لقاء الله في سبيل مبادئه، أحب إليهم من لقاء أهلهم وأبنائهم، ورغبوا في النعيم الموعود برضاء الله عن النعيم الذي يلذونه في هذه الحياة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون، ويقتلون. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم).

هذه الروح الإسلامية العالية، وهذا المد القوي الغامر، كان أول من وقف في طريقه، وارتد به سبيله هو معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وإخوانهما وأمثالهما ممن تنكبوا طريق الفكرة الإسلامية الروحية النبيلة، إلى الرغبات والأطماع الذاتية الوبيلة.

وكانوا أول من رد العصبيات الصغيرة المحدودة إلى مكانها، وأول من برر الوسيلة بالغاية، وأول من طعن روح الإسلام في الصميم.

ولم تعد الروح الإسلامية إلى مدها العالي مرة أخرى بعد هذه الفعلة؛ ولكنها كانت ترتفع في فترات، ثم تعود بعدها إلى الهبوط. مع هذا فقد كان المد العالي الأول - وهو أعلى مد بلغته البشرية في تاريخها كله كان كفيلاً بأن تثب البشرية وثبة لا مرجع عنها مهما انحسرت موجتها الأولى فاستمر التيار إلى الأمام وجرف معه الإنسانية جميعاً.

الفكرة الروحية الضخمة تجد التلبية بمقدار ضخامتها. وتتسع موجتها بمقدار اتساعها. وقد ظل العالم الإسلامي بين مد وجزر منذ الموجة الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد وصل إلى انحطاط وخمول وإفلاس روحي ومعنوي.

وعلى عادة الروح الإسلامية في الانبعاث بين فترة وأخرى على مدى التاريخ رأيناها تنبثق في جمال الدين الأفغاني.

كان هذا الرجل شعلة محرقة مضيئة، ما مست روحاً إلا ألهبتها وأضاءتها بحسب ما فيها من استعداد للهب والإضاءة.

وكان في هذه الروح رصيد ضخم، تزود به كل من لقي الرجل في بلاد الشرق جميعاً.

ثم استقر في مصر فترة فأودعها الشعلة المقدسة التي يحملها ومنذ ذلك الحين، وفي خلال السبعين عاماً الأخيرة، نهضت مصر ثلاث نهضات عامة، وصلت فيها درجة اليقظة القومية حداً عاليا.

كانت النهضة الأولى نهضة (عرابي) لرفع شأن القومية المصرية، وإحلالها المكان اللائق بكرامة الشعوب.

وكانت النهضة الثانية نهضة (مصطفى كامل) لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، الذي لا يستند على أساس من الحق والعدلوكانت النهضة الثالثة نهضة (سعد زغلول) للثورة على هذا الاحتلال، وتقرير مصر في الاستقلال.

وليست هذه النهضات الثلاث بمنفصلة في حقيقة دوافعها - وإن فصلت بينها الأعوام - فهي جميعها تنبعث عن مصدر واحد، هو هذه الطاقة الضخمة التي انتقلت من شعلة جمال الدين قبل ثلاثة أرباع قرن في الشرق الإسلامي.

ولم تكن شعلة جمال الدين سياسية صغيرة محصورة في الأهداف الوطنية المحدودة، إنما كانت شعلة روحية، تلهب النفس الإنسانية فتتفتح منافذها جميعاً. وهذا هو الذي كفل لها الامتداد طويلاً.

وقد ظلت الأمة المصرية تنفق من هذا الرصيد في ثوراتها السياسية الثلاث، تنفق وتستهلك. ولا تضيف شيئاً إلى الرصيد لأن الزعامات الثلاث، كانت بالقياس إلى جمال الدين، ضيقة محدودة. تطوي أنفسها على مطالب قريبة محدودة، وليس لها رصيد روحي جديد.

وهنا كان موضع الخطر.

فالدفعة السياسية تفلح حين يكون وراءها رصيد روحي ضخم تنفق منه وتشتعل به، وهذا الرصيد يحفظ مستواها من الهبوط، ويصونها من الخمود. فأما حين تنفد هذه الطاقة أو تضعف فالفورة السياسية وحدها لا تكفي وهي مهددة على الزمن أن تخبو.

ولا يصعب على الباحث أن يرد ما اعتور نهضتنا القومية الأخيرة من نكسة وفساد تتبدى آثارها في النزعات الحزبية على حساب الوطن، وفي هبوط مستوى الصراع والأسلحة التي تستخدم فيه إلى نفاد الطاقة الروحية أو اضمحلالها، لأن رصيدها المذخور من عهد جمال الدين لم يتجدد أبداً.

وبالمثل يمكننا أن نرد كثيراً مما نراه من الانحلال الخلقي الفردي والاجتماعي إلى خمود الشعلة المقدسة في الوقت الذي تغمرنا فيه موجات من أوربا المنحلة، التي خبت روحها من قرون، واستحالت آلة لا قلب لها ولا ضمير تنفق من رصيد قديم سينفذ بعد حين.

والآن يجب أن نتنبه إلى هذا الخطر. . . إن اليقظة السياسية وحدها لا تبقى ولا تعيش، ولا يرتفع مستواها إلا إذا أمدتها طاقة روحية تنفخ فيها وتقويها، فأين هي القيادة الروحية لهذا الجيل؟ القيادة التي تخلق الشخصيات العظيمة كما خلقتها قيادة جمال الدين؛ وترتفع بالأفراد والجماعات عن المطالب الوقتية إلى المطالب العليا؟

هنالك جماعات تدعوا دعوات إسلامية. ولكنها جماعات هزيلة الروح، ناضبة، خامدة، أضعف من أن تنفخ في الجيل الهابط المنحل.

ترى يتمخض الانحلال عن قيادة روحية عظمى كما عودتنا روح الإسلام على مدى الزمان؛ نرجو أن تكون هناك وثبة قريبة، وأن يظلنا موعدها المرموق.

سيد قطب