انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 702/على هامش النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 702/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1946



غفلة النقد في مصر

للأستاذ سيد قطب

في تقديري إن الضجة المفتعلة التي أثيرت حول ذلك الكتاب المريب، كتاب الشيخ عبد الله القصيمي، والتي أنزلق فيها بعض الكبار مخدوعين بما صوره لهم المؤلف من مخاوف تحيط به وبكل تفكير حر في المملكة السعودية، هذه المخاوف التي تدنيه من حبل المشنقة بسبب كتابه. . . إلى آخر ما أجاد المؤلف تمثيله من الأدوار. . .

في تقديري أن هذه الضجة وذلك الانزلاق فضيحة أدبية لمصر، وقد تؤخذ دليلاً على غفلة النقد فيها إلى حد مخجل.

ولقد قُدِّم إلىَّ هذا الكتاب، وأديرت على سمعي (الاسطوانة) التي أديرت على أسماع الكثيرين، وتأثرت ساعتها وتحمست؛ فحياة كاتب ليست بالشيء الهين؛ وإهدار هذه الحياة بسبب رأي أو فكرة مسألة لا يحتملها القرن العشرون فوق ما في الفكر الإسلامي من سماحة تبرئه إلى الجنوح بطريقة محاكم التفتيش.

ولكنني حين عدت فقرأت الكتاب بردت هذه الحماسة، وفتر ذلك التأثر؛ لأنني لم أجد إلا كاتباً مربياً، يتناول مسائل ميتة في الغالب، ومشاكل محلوله - حلها الزمن في البيئة الإسلامية منذ نصف قرن على الأقل - ويزيد عليها فكرة مسروقة بنصها وبجزيئاتها وبشواهدها من كاتب شاب يعيش وكتابه حديث الصدور لك يبعد به الزمن فينسى. . . ليتخذ من ذلك كله ستاراً طويلاً عريضاً يلف به دعوة غير نظيفة، للاستعمار والمستعمرين.

ولم أشعر أن الرجل في خطر، فأمثال هؤلاء يعرفون طريقهم جيداً - كما قلت في مرة؛ ولا خوف عليهم من الشنق ولا غيره. ولو كانوا يعرفون أن الشنق ينتظرهم حقاً، لما أقدموا على فعلتهم؛ لأن الحياة على كل حال أغلى من كل ثمن سواها قد يأتي به الكتاب!

ووجدت أنه من المهانة للفكر أن أنزلق فأكتب عن كتاب تافه مريب مسروق كهذا الكتاب، يسلك صاحبه هذا الأسلوب في الاحتيال لبعث الاهتمام به، وإثارة الضجة حوله؛ كما أنه يثبت على غلافه شهادة من نفسه لنفسه، هذه الجملة المتبجحة: (سيقول مؤرخو الفكر: إ بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!

ثم ما أشعر إلا وضجة عجيبة يثيرها بعضهم حوله. وهنا فقط وجدت أن لا بد من كشف الستار. فهي فضيحة. وفضيحة لمصر خاصة، أن تبلغ غفلة النقد فيها هذا المستوى العجيب!

لكي ننقد كتاباً يعالج مشكلات اجتماعية ونفسية وإنسانية يجب أن نسأل هذه الأسئلة الثلاثة:

1 - هل يعالج الكتاب مشكلات حية تعيش في هذا الأوان؟

2 - هل نفذ إلى صميم هذه المشكلات، وصورها التصوير الصحيح، وأقترح لها الحلول المناسبة.

3 - هل كان أصيلاً في تصويرها وعلاجها؟

وقد سألت نفسي هذه الأسئلة، وكان الجواب باختصار:

1 - إن المؤلف (دون كيشوت) جديد يطعن برمحه طواحين الهواء يحسبها فرساناً، ويشق بها زقاق الخمر يحسبها قساوسة! ويحمل حملات شعواء على أولئك الذين يمدحون الجهل ويذمون العلم، ويقررون أن الجنة لا يدخلها إلا البله، ويؤمنون بأن النبي قال: إنما بعثت بخراب العالم. . .

ولكنه لا يقول: إن هذا كله كان من أوهام العوام، كان خرافات سوداء في عهود الظلام، ثم انتهت بانتهاء هذه العهود المظلمة. . . لا يقول هذا، إنما يتهم العقلية الإسلامية بأن هذه هي أهم مشكلاتها وعقائدها دائماً أبداً ليصل من هذا الطريق الملتوي إلى تحقير هذه العقلية في جميع الأزمان، وإلى إيثار العقلية الأوربية لأنها خلعت ربقة الدين، وربقة الخلق، وربقة التطلع إلى الله، وانطلقت تهدف إلى الأرض وحدها، ولا تعلق نظرها مرة واحدة بالسماء. لأن التطلع إلى الله كفيل بإفساد الحياة!

وفي ثنايا هذا الذي يبدو تحرراً فكرياً في ظاهره، يخدع المخدوعين ممن يحسبون التحرر الفكري مجرد التحلل من الأديان والأخلاق على أي وضع من الأوضاع، في ثنايا هذا يدس ما لعل الكتاب كله ألف لأجله: يدس الإيحاء للشرق العربي المسلم بأن لا حق له في كراهية الاستعمار والمستعمرين، لأنهم ورثة الأرض الذين يستحقون كنوزها وخيراتها، لأنهم يتطلعون إلى الأرض وأسبابها، ولا يعلقون أنظارهم بالله ولا بالسماء! وهناك مسألة أو مسألتان حيتان في الكتاب، ولا تزالان تعيشان لأنهما إنسانيتان: مشكلة الإيمان بالإنسان، ومشكلة الإيمان بالأديان.

فأما الأولى فهي قضية الأستاذ عبد المنعم خلاف في كتابه (أومن بالإنسان). وقد شغلت من كتاب (هذي هي الأغلال) نحو أربعين صفحة أولاً، وتغلغلت في ثنايا الكتاب كله أخيراً.

وأما المشكلة الثانية فقد عولجت بسلسلة من المغالطات والأغلاط تتلخص في أن روح التدين تخالف روح الحياة، وأن المتدين لا يمكن أن يكون رجل دنيا. . . وهذا المنطق لا يستحق الاحترام لأن الشواهد الواقعة تنفيه، ولأن الدين روح حافز للعمل ولا سيما في الإسلام الذي يصب عليه المؤلف جميع أوزار التأخر والانحطاط وإن عاد فالتوي ونفي عن الدين ذاته هذه الأوزار في نفاق ظاهر يستحق الاشمئزاز دائماً، ولا يثير الاحترام.

2 - ولعل الجواب عن السؤال الثاني يكون قد اتضح من الجواب على السؤال الأول؛ فالنفاذ إلى صميم المشكلات يستدعي قسطاً من الاستقامة والإخلاص. وهذان العنصران مفتقدان في الكتاب كله.

فهو مثلاً يتلخص في سماتِ التفكير الإسلامي من أوهام العامة وخرافاتهم، ومن أقوال لبعض المتصوفة وأمثالهم، بدل أن يستخلصها من مجموعة المفكرين والمشرعين والفاتحين والعاملين في التاريخ الإسلامي الطويل. فالحضارة الإسلامية كلها وعمارة الأرض وسياستها في جميع العصور ليست داخلة في حساب المؤلف، وليست دليلاً على شيء من خصائص العقلية الإسلامية. إنما الذي يصور هذه العقلية وحده دون سواء. أقوال كهذه الأبيات:

من أنت يا أرسطو ومن ... أفلاط قبلك قد تجرد

ما أن تنمو لا الفراش ... رأى السراج وقد توقد

فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رشداً لأبعد

وكلمات للمتصوفة والزهاد يذمون الدنيا والعلم والعقل، ويمدحون الزهد والبلاهة والغيبوبة.

أولئك هم جميع المسلمين في نظر المؤلف، وهذه هي عقليتها الإسلامية التي يجرد قلمه لينسفها نسفاً، فيقف جماعة من نقاد مصر يعجبون بهذا القلم القوي البتار!!!

وبمثل هذا الالتواء المريب يواجه مسألة التدين ومسألة الأخلاق، ومسألة الأرض والسماء، فلا ينفذ إلى صميم مشكلة واحدة، لأن عنصري الاستقامة والإخلاص لا يتوفران.

3 - أما الجواب عن السؤال الثالث فهو فضيحة الفضائح فما عهدت أن يعمد مؤلف إلى مؤلف حي، فيقبض فصولاً كاملة من كتابه قبضاً، ويمهرها بتوقيعه ويطلع بها على الناس.

جرأة نادرة. ولكنها جازت على النقد في مصر!

لقد كنت - وما زلت - أفهم، أن الناقد قارئ متتبع لسير الفكر. فهذا هو الشرط الأول للناقد كيما يستطيع أن يؤرخ خطوات الفكر، ويعرف من السابق ومن اللاحق.

وأنه يتحرج أشد التحرج من إصدار حكم بالسبق والأهمية، إذا لم يكن قد أطلع على كل ما سبقه أو جله، لأنه مسئول عن تقرير أحكامه للضمير وللتاريخ وللقراء.

فما بال كتاب صدر منذ عهد قريب، ونشر قبل ذلك فصولاً في مجلتين مقروءتين، ثم يجيء كاتب، فيهجم هجوماً بشعاً على فكرته، وطريقة عرضها، وبراهينها وأدلتها، ثم لا يجد ناقداً يقول له: مكانك فهذا استغفال!

لقد عملها الرجل، ولم يجد من يقول له هذه الكلمة في مصر إلا بعد حين!

لقد عملها وهو يتحدى: (سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!

ترى كان الرجل يتوقع هذه الغفلة، أم قد نزع عن نفسه (الأغلال) لم يكن يبالي وقد صدّفت الأيام ظنه أو تكاد!

إن في مصر غفلة نقد منشؤها أن كثيراً من الكبار الذين كانوا يتولون حركة النقد لم يعودا يقرءون. وإذا قرءوا لم يقرءوا للشبان، استصغاراً منهم لما ينشئ أولئك الشبان.

وهم أحرار في هذا، ولا يستطيع أحد أن يجبرهم على قراءة معينة. فهم في دور الكهلة والشيخوخة كثيرو المتاعب، ولأنفسهم عليهم حق، ولهم أن يقضوا أوقاتهم في لذائذهم الحسية والفكرية حسبما يشتهون. فإن من حقهم أن ينالوا الراحة والحرية بعد الجهاد الطويل.

ولكن عليهم مقابل الراحة والحرية ألا يتعرضوا للنقد، فيصدروا فيه الأحكام إلا بعد تتبع لحركة الفكر في كل كتاب يصدر في الفن الذي يريدون نقده، وإصدار حكم عليه، فذلك هو واجب الضمير الأدبي في أضيق الحدود.

إن القراء يثقون بهم إلى حد، وهذه الثقة تدعو إلى ترحي الدقة، فلا يفتنون بغير علم، أو بعلم ناقص، فتلك تبعة ثقيلة على الرقاب.

وأنا واثق أن بعض الذين كتبوا عن كتاب الأغلال، ما كانوا ليكتبوا لو أنهم أولاً قرءوا الكتاب كله ولم يكتفوا بتصفح بعض فصوله، ثم لو أنهم ثانياً كانوا قد قرءوا كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف، مهما تكن حيلة الرجل بارعة ومهارته في الدعاية قوية.

وقبل أن أنهي هذه الكلمة أوجه إلى فريق آخر من المتزمتين لم يقابلوا الكتاب هذه المقابلة، بل ثاروا عليه وناهضوه وشغلوا أنفسهم بالاحتجاج عليه. وقيل لي: إن بعضهم أخذ يؤلف كتباً في الرد عليه.

هؤلاء يشاركون - من غير قصد - في الضجة المفتعلة التي يثيرها الرجل حول كتابه وحول نفسه.

هونوا على أنفسكم، فالدنيا بخير!

لقد ترددت مرة ومرة في أن أكتب عن هذا الكتاب التافه المريب؛ لأن كل ضجة حوله تبلغ الغاية التي أرادها له صاحبه ومن يهمهم نشر مثل هذه الكتب في اشرق العربي الناهض لمجاهدة الاستعمار.

ولقد كان رجال الإرساليات التبشيرية في الشرق يتعمدون إثارة الضجيج حول حوادثهم في مصر منذ سنوات، في خطف بعض الفتيات والفتيان، ليبرهنوا للجمعيات التي أرسلتهم أنهم ذوو خطر، وأن لحركاتهم في دار الإسلام صدى.

أقول كانوا يتعمدون إثارة الخواطر، بافتضاح الحوادث ليبلغوا هذه الغاية، وصاحبنا في طرائقه ليس ببعيد عن هؤلاء.

فلا تبلغوه غايته من وراء الضجيج والصياح! إنكم أناس طيبون أيها المتزمتون. فلا عليكم من الكتاب والكاتب.

ضجة فارغة حول كتاب مريب أمطرتنا دور الدعاية بعشرات مثله في أيام الحرب. دعوه ليموت فأنه ميت، ولن تنفخ فيه الحياة ضجة مفتعلة منشؤها الخداع والإيهام.

ولولا أن أنفي عن النقد في مصر تهمة الغفلة ما كتبت هذه الكلمات.

سيد قطب