انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 70/كيف كنت حلاقا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 70/كيف كنت حلاقا

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1934


ً

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

هل وجهي وجه حلاق؟؟

هذا ما ظللت اسأل المرآة عنه أياماً بعد أن وقع لي ما سأقصه اليوم، والمرآة لا تجيب، وان كنت لا أظن عليها بالإلحاح وطول التحديق، أو لعلها أجابت وأبيت أنا أن اسمع أو اصدق. وقد كففت عن مشاورة المرايا وأسلمت أمري إلى الله وأمر وجهي إلى حسن أدب الذين يرونه وصحيح أني كنت - وما زلت أحياناً - احلق ذقني بيدي، لأني كنت في عنفوان الاضطرام السياسي أخاف أن يوقعني سوء الحظ في يد حلاق سياسي لا يشايعني على رأيي، فيذبحني ويروح يدعي أن قتلي كان خطأ لا عن عمد وسبق إصرار، ولكني بلوت من متاعب الحلاقة ما زهدني فيها فرددت نفسي على مكروهها ولم اعد أبالي ما عسى أن يصنع برقبتي الحلاقون السياسيون. وللذبح أهون من تهمة الجنون. أي نعم فقد شرعت مرة احلق ذقني ولكن حد الموسى كان كليلاً جداً، فجعلت احك به واكحت حتى صار وجهي - أو خدي - الأصفر كالطماطم الناضج ولم اعد احتمل هذا الألم، وفرغ ما في صدري من الهواء من طول النفخ ومن كثرة قولي (اووفففف) فطويت الموسى وقلت أن هذا سلخ لا حلاقة ولست بشاة ثم أني ما زلت حياً ولم اصنع قبيحاً استحق عليه أن اسلخ وجهي بيدي

وارتديت ثيابي ووضعت منديلاً على جانب وجهي الذي سلخته وخرجت التمس دكان حلاق - اقرب دكان - وسرت على بركة الله وفي أملي أن يظن من يراني أن أضراسي توجعني. واهتديت إلى دكان على كثب من البيت، ولكن الحلاق كان مشغولاً فقعدت انتظر وكفي على المنديل فوق خدي وفرغ الحلاق فدعاني فأسرعت إلى الكرسي ورفعت المنديل عن وجهي، وجاء بالفوطة ولف طرفها على عنقي ثم ارتد بغتة ووقف يتأملني وقد قطب وذوى ما بين عينيه فقلت:

(ماذا؟؟ قل ولا تخف!)

قال وهو يهز رأسه: (كلا. لاشيء!)

قلت ملحاً: (بل تكلم. . فأني مستعد للإصغاء. .) فتكلف الابتسام - اعني انه ابتسم بشفتيه دون عينيه - وراح يجمع أدوات الحلاقة ويعدها ويرصها، وكان في أثناء ذلك يخالسني النظر، فلم يبقى عندي ريب في أن الشك خالجه في صحة عقلي، وما احسبه رأى قبلي رجلاً يدخل عليه ونصف وجهه محلوق والنصف الآخر يطلب الموسى وكأنما حار، ماذا يضع بالنصف الحليق؟ أيجري عليه الموسى؟ أم يدعه ويعني بالنصف الثاني؟ فقد وضع عليه حد الموسى ثم رفعه ووقف متردداً فقلت لأستحثه:

(تفضل. تفضل. . أن هذاأيضاًيحتاج إلى الموسى) فألقى إلي نظرة سريعة واكب على العمل بلا كلام والحلاقون كما يعرف القراء ثرثارون ولكن منظر وجهي كان له وقع عميق في نفس هذا الرجل، فنشف ريقه وعصب لسانه وانقطع أيضا ولم يسؤني هذا ولكني فزعت إذ رأيت يده ترعش فجعلت. أدعو الله في سري أن يلطف بي ويرأف بعيالي ويرحم شبابي

واستجاب الله دعائي لأول مرة. . ولآخر مرة فيما اذكر. . وعلى انه من يدري؟ لعل الرحمة كانت أن يذبحني الحلاق - عفواً أو عمداً - فما تكون للمذبوح عناية بهذه الفروق

واتفق يوماً أني نزلت فندقاً وكان فيه غيري كثيرون كما لا حاجة بي أن أقول وبينهم أجنبي هرم له بنت جميلة وكان هذا الشيخ أحمق حاد الطبع، وبنته على خلافه لينة العريكة سلسة الطباع، ولو إنها كانت حمقاء مثله لشفع لها جمالها فكيف وهي تجمع إلى حسن الوجه دماثة الخلق ورقة الحاشية؟ وعرفتها لأني اصطدمت بها فأوسعتها اعتذاراً فلم يضق بي عفوها، وصرنا بعد ذلك كلما التقينا نتبادل التحية - بالرأس - وكنت ألقاها في اليوم الواحد خمسين مرة فلا ادري أيّنا الذي كان يتعقب صاحبه؟ وفي المرة التاسعة والأربعين من اليوم الأول استطعت أن افتح فمي وأحرك شفتي فقالت مستفسرة:

(نعم؟)

قلت: (لاشيء. اعني أني أردت أن أقول نهارك سعيد)

قالت: (آه! صحيح! نهارك سعيد!)

قلت: (أ. . أ. . الجو اليوم جميل. .)

قالت وهي تضحك بلا داع: (أ. . . نعم. . . جـ. . . جميل. . .)

قلت: (لا خوف من المطر) وعضضت لساني قالت - وكفت عن الضحك -: (مطر؟ في أغسطس؟ في الإسكندرية؟)

فاضطربت وقلت: (أ. . . اعني. . . اعني أن الجو جميل) فابتسمت ابتسامة خبيثة وقالت: (لقد قلت هذا من قبل. . .)

فحقدت عليها - في سري - وقلت: (صحيح! لقد نسيت! فيا للغباوة! لقد كنت أظنها جملة مبتكرة!)

ولو كنا بقينا خمس دقائق بعد ذلك لحلت عقدة لساني، فقد عاودتني الثقة بنفسي وأيقنت أن العقدة ستحل بعد أن نطقت بآخر كلمة، ولكن أباها - لعنة الله عليه -! آبى إلا أن يقبل في هذه اللحظة وكان وجهها إليه وظهري له فرأته قبلي وقالت:

(هذا أبي) وأشارت إليه

فدرت على عقبي بسرعة، ولم أكد ابصر وجهه حتى استولى عليّ الرعب، فهربت بلا كلام ولا استئذان ولم يكن ثم باب آخر في هذه الناحية اخرج منه ولم أجد أمامي غير (صالون حلاقة)، فدخلته وكان - كما شاء الحظ - خالياً. وشعرت أن بي حاجة إلى منعش بعد الذي أصابني من منظر هذا الشيخ الشرس فتناولت قطرات من (الكولونيا) وشممتها ومسحت بها وجهي وإذا بالرجل يصيح بي:

(ماذا تعني بهذا التلكؤ؟ لقد بعثت إليك منذ نصف ساعة لتوافيني في غرفتي وتحلق لي ذقني! عجل يا بليد!)

وكان من الواجب أن اذهل أو ابهت أو احتج ولكن كرهي له أيقظ حواسي جميعاً فقلت هذه فرصة سنحت للانتقام منه وأسرعت فقلت:

(حالاً. . حالاً. . كم رقم الغرفة من فضلك؟)

قال: (15. .)

ومضى عني فجمعت أدوات الحلاقة ووضعتها في حقيبة صغيرة رأيتها هناك في ركن وخرجت فإذا بالفتاة تدنو مني وتقول:

(ماذا تنوي أن تصنع؟)

فقلت: (احلق ذقن أبيك)

قالت: (حاذر. . . هذه مجازفة) قلت: (اعرف ذلك وأشكرك، ولكن إلا تثقين بي؟)

قالت: (انك لا تعرف أبي)

قلت: (ثقي انك أنت أيضا لن تعودي تعرفينه!)

قالت: (دع المزاح. . . لم اكن أظن انك طائش إلى هذا الحد)

قلت: (تعالي. . . وانظري)

وتركتها وقصدت إلى السلم وهي ورائي

ولم تكن الفتاة مبالغة حين حذرتني وأنذرتني، فان أباها شيء فظيع وقد اسمعني في خمس دقائق من ألفاظ التعنيف والشتم والقذف والطعن والقدح ما لم اكن أظن انه يوجد في لغات العالم مجتمعة بله في لغتنا العامية التي يعرف اقلها ويجهل اكثرها، ولكني أنا أيضا لم اكن مبالغاً حين أكدت للفتاة إنها لن تعرف أباها بعد أن افرغ من حلاقة ذقنه فقد أرقت نصف رطل على الأقل من دمه الثقيل، ولم أكد أضع الموسى على خده حتى صرخ وصاح بي:

(أنت جزار. . . لا حلاق)

فقلت: (عفواً سيدي أن حد الموسى لم يلمس جلدك)

قال: (لم يلمس جلدي! تقول لم يلمس جلدي يا أعمى! لقد قطع لحمي!)

فطمأنته، فنهرني وزجرني عن الكلام فأجريت الموسى وخرجت بقطعة ثانية من لحمه القديم وماذا اصنع إذا كان جلد وجهه عميق الأخاديد؟ أهذا ذنبي أم ذنبه؟ وقلت له:

(يحسن بك يا سيدي أن تجيء في كل صباح بأربع بيضات أو خمس فتكسرها وتصبها في وعاء وتمزجها بمسحوق الثلج - يعني بودرة الثلج - وتعجن هذا بذاك وتدهن به وجهك وتظل نصف ساعة لا تفتح فمك بكلام ما، ثم تغسل وجهك فإذا واظبت على ذلك شهراً كاملاً عادت إلى وجهك نعومته بأذن الله

فصاح بي (اخرس. أقول لك اخرس)

فقلت (طيب خرست) وواصلت انتقامي. وكنت قد بلغت عنقه فجعلت انظر إلى الفتاة نظرة لا تخفي دلالتها، نظرة طيها الحقد والتصميم على القتل عمداً ومع سبق الإصرار ورفعت يدي بالموسى نحو ذراع وهممت أن أهوى بها على رقبته وإذا بالفتاة تصرخ فارتددت مذهولاً ووثب هو عن الكرسي وذهب يعدو إليها وسألها (مالكِ؟) فلم تجبه وجعلت تشير إلى وتهيب بي ان (اخرج. اخرج. . .)

فهززت رأسي آسفاً فقد ذهبت الفرصة إلى حيث لا يمكن أن تعود فسألها هو:

(يخرج؟ يخرج كيف؟ ويدعني هكذا) وأشار إلى خده الآخر الذي لم يحلق فقالت:

(انه ليس بحلاق)

قال: (آيه؟ ليس بحلاق!)

ودار فالتفت إليّ فرآني اضحك فطار عقله وتحرك يريد أن يهجم عليّ فتذكرت ما يفعل الذين يقاتلون الثيران في أسبانيا فخطفت الفوطة ألقيتها على وجهه وفررت

وقالت لي الفتاة بعد ذلك:

(لم اكن اعلم انك شرير)

قلت (شرير؟؟)

قالت (نعم. . كدت تقتله وتقتل نفسك)

قلت (أينا كنت تبكين عليه؟)

قالت (لا تكن خبيثاً. . . انه أبي)

قلت (لا اصدق. . .)

قالت (من فضلك. . . لا تذكره بسوء أمامي)

قلت (اعترفي إذا انه. . .)

قالت (لو كنت اعتقد انك ستقتصر على جرح أو جرحين. . .)

قلت (وهل كنت تتوهمين أني يمكن أن اذبحه؟)

قالت (لقد خفت والله. . .)

قلت (يا بلهاء. . . لأجل عين تكرم ألف. . .)

وصرنا صديقين ولكن أباها لا يراني - إلى اليوم - إلا ارتد راجعاً، وحسناً يفعل

إبراهيم عبد القادر المازني