مجلة الرسالة/العدد 70/عودة. . .
مجلة الرسالة/العدد 70/عودة. . .
بقلم جورج وغريس
(امرأة هجرها زوجها منذ امد بعيد فعاشت وحيدة مع طفلها إلى أن قضت نحبها، فذرفت عيني دمعاً التأمت قطراته في كلمات قرأها الزوج الهارب في العدد الحادي والستين من (الرسالة) ثم جاءني يسعى. . .)
في سكون الليل الرهيب طرق باب منزلي، فلما أن فتحته وجدت أمامي شخصاً لم أتبينه
قلت: من؟
قال: ألا تعرفني؟
قلت: معذرة. . فمن طبيعة الإنسان أن ينسى، ومن صفات الليل أن يسكب لوناً غير لونها
قال: صديق قديم
قلت: (مرحباً). . ثم أخذت بيده إلى غرفة الاستقبال وتحت ضوء المصباح رأيت أمامي رجلاً في الحلقة الرابعة من عمره، ترتسم الكآبة على وجهه الشاحب ويظهر عدم الاكتراث على لباسه غير المنتظم ورباط رقبته الذي يتدلى على قميصه كالخرقة البالية. . . قلبت بصري في زائري الكريم ولكنني لم اذكر تلك الصداقة القديمة التي كانت تربطني به، لذا أحسست في نفسي بشيء من الريبة والخوف. وقبل أن أقول شيئاً أو ابدي حركة اعتدل ضيفي في جلسته ثم قال:
- أماتت حقيقة. . .؟
قلت: من؟
قال: زوجتي
قلت: ماذا تعني؟ أنت اعلم بحالها، أما أنا فلا أدرك ما تقصد ولا ادري من أمرك شيئاً
قال: بل انك تدري كل شيء ولكنك تريد أن تجهلني وتجهل كل شيء وبالأمس أخرجت للناس صورتي مشوهة ممسوخة، أملاها عليك خيالك الحاقد وأعصابك الثائرة، فقد قرأت في (الرسالة). . . . . .
قلت منتفضاً: أأنت فلان. . .؟
قال: نعم قلت: معذرة. . . لقد غيرت الأيام من سحنتك وبدل الزمان من هيئتك، حتى أضحيت شخصاً غير الذي كنت اعرفه أتدري ما فعل الخريف في الشجرة المورقة الفينانة؟ أتعلم ما ينتابها من تساقط أوراقها وتراجع أغصانها وتقلص ظلالها. . .؟ أن ما يصيبها يا صديقي في تلك الآونة لأهون والله مم أصابك في خريف حياتك، ولئن كان لتلك الشجرة ربيع تستعيد فيه ما فاتها وتسترجع فيه أسباب الحياة، فهيهات أن تجد لنفسك ربيعاً يبدل من حالك بعد هذا الجدب الذي أصابها. وحسب الأيام منك الآن إنها ستقف عند الحد الذي وقفت عنده فلا هي بدافعة بك إلى الأمام لأن النمو من خصائص الطبائع الحية، ولا هي بقاذفة بك إلى الخلف لأنك في قرار الهوة. . . ولطالما مدت إليك حبال النجدة وقد فتلت من خيوط الرحمة والعطف والصفح والمروءة. ولكنك أبيت إلا أن تقطعها بأسنة الجمود والنكران والرياء والختل، فربطت مصيرين بمصيرك وقتلت نفسين وأسأت إلى نفسك
قال: مهلاً، فقد بدأتني قبل أن أبدأك، وأوغلت في القول وما تركت جارحة إلا وأرسلتها تنهش في نفسي واراني قد جئت لأغسل إهانة فأتبعتها بأخرى وأتيت لأرد سهماً فأصابتني منك سهام ولا ادري من سبب يجعلك مني في هذا الموقف العنيد سوى انك كنت تنظر بعين واحدة في قصتي وتسمع بأذن واحدة. وليس ببعيد على المرأة التي تدفع العالم بيدها الرقيقة دفعاً شديداً في غير رفق ولا هوادة أن تكون قد سكبت سمومها في نفسك فجعلت منك نصيراً لقضيتها، وهي إذ تكسبك إلى جانبها تدفعك في الواقع عن طريقها
لقد خلصت زوجتي من براثن أبيها ولكنها منذ اللحظة الأولى وهي تريد أن يصرع رأيها رأيي وان تقف رغبتها دون رغبتي، فإذا قلت قولاً أبدت نقيضه وإذا أديت فعلاً امتعضت منه، كأن الله قد جعل القبح من نصيبي في القول والفعل، أو كأنه وضع كل الجمال بين شفتيها وعلى أطراف أناملها ليكون غلافاً حسناً لكل ما تقوله أو تعمله. . . . . . أردت لها الحجاب فأعلنت السفور وأخذت عليها العناد فأنكرت عليّ هذا الحق وأحببت أن تكون كما أريد فشاءت أن تكون كما تحب. وكان لي صديق احبه واعزه ويزورني في منزلي وأتردد عليه في داره فوشت لي به وفي سورة الغضب كدت اقتله ولولا قرائن في براءته وحزم في تفكيري لكان هذا الصديق اليوم وديعة القبور وكنت أنا نزيل السجون. . . كان من اثر كل هذا أن أحسست بآمالي ترتطم بصخرة قاسية وشعرت بالأفق العريض تضيق دائرته شيئاً فشيئاً، حتى أوشك أن يجعل لي من هذه الحياة قفصاً لا حيلة لي في رد عائلته. . . فماذا كنت تريدني أن افعل يا صديقي وهذه الأسباب قد أجمعت علىّ أمرها فغلبتني على أمري. .؟ لقد وليت هارباً، ولكن ضميري ظل يضايقني باحتباسه حتى أفرجت عنه بكأس الخمر. . تلك الكأس التي أحرقت همومي أحرقتني، وأذابت ضميري وكبدي وسلبتني ولم تعطني. . . أليست تلك النار من الشعلة التي أسلمتها الشياطين ليد المرأة. .؟ انك تقدر المرأة لأنك غريب عنها ولكن اعلم يا صديقي إنها منذ القدم آلة فساد وعنصر تقلب، وأداة رياء، وكل ما في الحياة من شر إنما هو بسمة خادعة انفرجت عنها شفتا امرأة، وهذا المصير المحزن الذي انحدرت إلى أعماقه، إنما يرجع إلى تلك المرأة التي أحببتها فكرهت لي الحياة، وغمرتها بفضلي فرفعت رأسها كالحية الرقطاء. . . مرت الأيام كالأشباح الهزيلة، وأنا أهيم على وجهي إلى أن شاءت الأقدار أن تدفع إلى يدي صحيفة (الرسالة) فقرأت عن المرأة التي هجرها زوجها فماتت كظيمة الحزن دفينة الألم، وبقي طفلها على صدرها يبكي وينتحب ورأيت طرفاً من قصتي يختبئ بين سطور تلك القصة وما أن وصلت في القراءة إلى اسمك في ذيل المقال، حتى ذهب عني الشك وتذكرت جاري القديم وأخذت عليه اندفاعه في الكتابة دون تبصر أو روية. . . وها أنا قد سعيت إليك بعد أسابيع بعث الله لي فيها من تولي الدفاع عني، فقد قرأت بجوار قصتك ما كتبه الرافعي في (تربية لؤلؤية) وتابعت ما وصف به المرأة فيما تلا ذلك من أعداد فسررت أن رأيت المرأة تدفع دفعاً إلى المكان الخليق بها. . .
قلت: يشاء الجمود أن يجعل في نفسك طبيعة صخرية حتى أمام جلال الموت وتشاء تلك الطبيعة الصلدة أن تنبش قبور الراقدين في غير رحمة ولاشفقة، فزوجتك التي لفحت وجهي بأنفاسها المحترقة وهي تعاني عذاب الموت، والتي ظلت تردد اسمك إلى أن لفظت روحها تلك الزوجة المسكينة المنكودة يأبى عليها القدر القاسي أن تفوز منك وهي تحت أطباق الثرى إلا بوابل السخط واللعنة تصبه على جدث هامد لا يملك رد غائلة، ولا يقوى على دفع نازلة وهذا لعمري عداء ضاعت منه صفة الشرف. . . والمرأة مذ خلقت وهي تعاني شر هذا العداء لا لشيء سوى أن الرجل يميل بطبيعته إلى جنسه وتدفعه الأثرة إلى أن يسود نفسه ويعظم من شأنه ويحقر من أمر تلك المخلوقة التي جاءت تنازعه البقاء، فهو في عصوره الأولى كان يبعث بالمرأة طعاماً للآلهة وهو في الجاهلية كان يئد مولودته ولا يعترف لها بالحياة، وفي اليابان كان الرجل يدفع بابنته إلى أمكنة الفجور خرقة يمسح بها الرجال شهوتهم حتى تسد ديون أبيها وفي الصين كان الرجل إذا ما ولد له غلام ذكر يفرح ويتهلل أما إذا كان المولود أنثى قال مكتئباً: (لقد سقط حجر من سقف منزلي. . .)، حتى في عهود المدنية وفي مواطن الحضارة يدفع ظلم الرجل المرأة إلى ما يسمونه (الرقيق الأبيض) وهو اللطخة الدامية في الجبين الناصع وفي مصر وبلاد الشرق لا تفوز الزوجة غالباً من زوجها إلا بما تفوز به الخادم من سيدها. فهل رأيت حالة كريهة كالتي تعانيها المرأة منذ ولادتها حتى يحويها الرمس. . .؟ وأي الأمراض انفردت بها المرأة عن الرجل حتى استحقت منه هذا الجزاء. . .؟ أليست كل امرأة ابنة لرجل وزوجة لرجل وأما لرجل. . تأخذ الخلق عن أبيها وتهديه إلى زوجها وترضعه لطفلها. . .؟ فإذا فسدت المرأة أليس هذا الفساد أثراً من تهاون أبيها في تربتها. . .؟ وإذا ضلت المرأة أليس من بين الرجال من هم اشد منها ضلالاً واقبح رذيلة. . .؟ ولئن جاز للرجل أن يقول في كل ما ينتابه من مصائب: (فتش عن المرأة) إلا يجوز للمرأة أن تقول في كل ما يلحقها من أذى: (فتش عن الرجل). . .؟
واعجب العجب قولك أن الأستاذ الرافعي يدافع عنك فيما كتبه ويكتبه، وهذا لا يمكن أن يقع لأنه إنما يكتب عن عقيدته الخاصة في المرأة. ومهما فاض (السحاب الأحمر) بما توحيه إليه تلك العقيدة، ومهما جاء في كتاباته في (الرسالة) عن الحجاب والسفور فهو لا يوافقك على تلك اللطمة القاسية التي صفعت بها خد المرأة. والحجاب الذي ينادى الرافعي به في (تربية لؤلؤية) لا يمكنه أن يعيش طويلاً بعد تلك النظرة الساخرة التي ترسلها إليه مدنية القرن الحاضر، ولا ادري ولا أحد يدري ما ضر المرأة الفاضلة أن خرجت سافرة أو ما نفع المرأة الفاسقة أن قمدت متحجبة. .؟ وأي الرذيلتين اشد ضرراً، تلك التي تستتر خلف الجدار كالداء الذي يختبئ في قلب العليل لا يدركه ولا يتداركه، ام تلك التي تتكشف سافرة ويبين قبحها كالمرض الذي يظهر على صفحة الجسم، ما تلمحه العين حتى يلحقه العلاج. .؟
للمرأة عقل كما للرجل، وكذب من الصق بها العاطفة دون العقل، وألا ما حلقت في سماء العظمة أسماء جان دارك ومدام كوري وايمي جونسون. لما حكم النساء بجوار الرجال في اكبر الدول شأناً وارفعها مكاناً. فحرام أن يأخذ الرجل من كبريائه صدأ يغشى به عقل المرأة ليغرب خيالها عن ميدانه وكفى ما نعانيه لغيابها عنه من ركود في المجتمع، وشذوذ في العلائق، وخشونة في الحديث. وعقم في التفكير حتى أصبحنا أضحوكة الغرب إذ إننا نسخر من لهوه، ولا يأتي جدنا بجديد. . .
قال: يصعب على من تلدغه الحية أن يشعر نحوها بدافع من الرحمة أو العطف، وإذا صح لي أن أوافقك على بعض ما ذكرت عن المرأة فالسفور ابعد ما يكون عن تأييدي، وليكن لك فيه رأيك، ولكن دعني اكن على دين (الرسالة)
قلت: وما دين (الرسالة). . .؟
قال: الحجاب. . .
قلت: وكيف حكمت؟
قال: إلا تعلم أن مبدأ الصحيفة إنما يشتق من مبدأ كتابها، فعقيدتها هي عقيدتهم ورأيها هو رأيهم الذي ينادون به على صفحاتها. . .؟
قلت: هذا في السياسة أما في الأدب والاجتماع فمظهر النشاط فيهما هو تضارب الفكر واختلاف الرأي، والرسالة لا يمكن أن تنادي بالحجاب، ولكنها مع ذلك ميدان حر لأقلام الكتاب على اختلاف نزعاتهم. وإن كنت قد قرأت فيها للرافعي وصفه للحجاب انه (كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة ولكن تربيها في الحجاب تربية لؤلؤية)، وقوله عن قاسم أمين انه (قد تكلف ما لا يحسن) فأغلب الظن انك لم تقرأ ما كتبه الزيات صاحب (الرسالة) عن المرأة والحجاب وهو يخالف الرافعي فيهما خلافاً بيناً؛ ففي العدد السابع من (الرسالة) تراه وهو يكتب عن شواهده (في العيد) يستنكر هذا الفتور الذي تقابل به أعيادنا في مصر والشرق، ويعزو ذلك إلى غيبة المرأة عن المجتمع وهو في ذلك يقول: (كرهنا الدور لاحتجاب المرأة، وهجرنا الأندية لغياب المرأة وسئمنا الملاهي لبعد المرأة وأصبحنا كالسمك في الماء أو الهباء في الهواء، نحيا حياة الهوام والتشرد، فلا نطمئن إلى مجلس ولا نستأنس لحديث) ولما أن همس الهامسون لما جاء في هذا المقال عاد الزيات في العدد التاسع إلى بسط رأيه ذاكراً أن (صلة الحجاب بالدين قد فرغ من توهينها العلماء من أمد طويل) وان مجتمعنا لغياب المرأة (اعرج لأنه يمشي على رجل واحدة، أشل لأنه يعمل بيد واحدة، بليد لأن حدة العواطف تنقصه، خشن لأن لطافة الأنوثة تعوزه) فهل بعد هذا تعتبر (الرسالة) نصيرة الحجاب. .؟ انك تريد أن تنتزع العطف على قضيتك من كلمات كتبها الرافعي وهي في الحقيقة لا تنفعك، وهو لو علم أن دعوته تصادف هوى في نفوس أمثالك لتحول عنها، وكان أول من ينادي بالسفور لم يحرك شفتيه بكلمة، وكان جوابه ناطقاً في عينين ساهمتين، ورأس يهتز باستخفاف، فتركته ينصرف وبه ما به من جمود وأويت إلى فراشي وبي عجب من نفس لو حادثتها حتى تشرق الشمس مرة ثم مرة فما هي بنازلة عما هي فيه من غروب وأفول.
إسكندرية
جورج وغريس