مجلة الرسالة/العدد 694/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 694/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للدكتور خليل جمعة الطوال
(تتمة)
في سائر الضائع:
وقد أدخل العرب إلى أوربا أنواعاً كثيرة من الحبوب كالحنطة، والقنب، والتوت، والأرز، والزعفران، والنخيل، والليمون والبرتقال، والبن، والقطن، وقصب السكر، وما زال هواؤهم الفاسد زفير آلاتهم ومخترعاتهم التي كبلت الأيدي، وشلت حركة الأعمال، يعبق بشذا الأزهار الجميلة التي أخذوها عن الشرق.
وقد تعلم الغربيون منا صناعة تزيين الأقمشة الدمشقية، وصناعة السختيان، وأقمشة الحرير المزركشة بالفضة والذهب، والشاس الموصلي والمخمل، وعمل الحلويات والمشروبات وصناعة الجوخ، وعمل الجليد.
كلمة غوستاف لوبون:
أما وقد أظهرنا مواطن القوة في الحضارة العربية فيحسن بنا أن نقدم للقارئ: رأي لوبون في العوامل الرئيسية التي أدت بالغربيين للنيل من العرب ومن حضارتهم. فقد سأل لوبون نفسه هذا السؤال: لماذا غمط اليوم حق العرب وتأثيرهم؛ وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وبعدهم عن مظنة الشك. . .
ثم تقدم للإجابة وقال: (. . . أرى أنه لا جواب على هذا السؤال غير ما أنا كاتب، ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مما هو حقيقي، ونحن لسنا أجرأ على ما نريد في خوض بعض الموضوعات، وهذا لأن فينا أحد رجلين الرجل الحديث الذي صاغته دروس التهذيب، وعمل المحيط الأدبي والمعنوي في تنشئته. والرجل القديم المجبول على الزمن بخميرة الأجداد وبروح لا يعرف قراره، يتألف من ماض طويل، وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حداً عظيماً من الحرية في الظاهر فتحترم، وقال: (. . . وقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلط علينا، والنقمة على الإسلام وأتباعه في عدة قرون حتى أصبحت جزءاً من نظامنا، وكانت هذه الأوهام متأصلة فينا، كالبغض الدويّ المستتر أبداً في أعماق قلوب النصارى لليهود).
(وهناك سبب آخر، وهو أن بعض أرباب الأفكار يرى أنه من العار أن يعتقد أن أوربا النصرانية مدينة لأعداء دينها يخرجوها من ظلمة الهمجية. . . وليس من شكك في أن العرب كانوا ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة.
(ولا جرم أن كثيراً من المؤرخين قد اندفعوا بسائق هذه الأوهام، فأتوا بآراء بعيدة عن محجة الصواب في بيان فضل الحضارة الإسلامية، ولا يزال التحامل على العالم الإسلامي القديم بحالة من الشدة، ولذلك وجب أن يعاد النظر في تاريخ القرون الوسطى بجميع أجزائه التي لها مساس بانتقال المدنية القديمة إلى العصور الحديثة).
ونود في ختام هذا الحديث. أن نثبت أقوال بعض عظماء المستشرقين في الحضارة الإسلامية العربية، وذلك استجماعاً للموضوع من جميع نواحيه، ودحضاً لأوهام الخصوم وحملاتهم، بشهادة من لا تجمعهم بنا إلا صلة العلم، ونزاهته الحقيقية، دون أي آصرة أخرى من أواصر القربى، وعلائق الدم، وصلات الجنس:
يقول أوليري: (إذا محونا العرب من سجل الحضارة. تأخرت النهضة الأوربية قروناً عديدة).
ويقول هـ. ج. ولز: (إن العرب هم الذين حفظوا كنوز الحضارة اليونانية من أن تتسرب إليها بكتريا همجية القرون الوسطى، وليس طبقة الاكليروس الذين خنقوا نشوء العلم بحجرهم الحرية الفكرية، ولولا العرب لما قطعت المدنية هذا الشوط الواسع في مضمار التقدم والرقي)، وقال أيضاً: (كانت طريقة العربي أن ينشد الحقيقة بكل استقامة وبساطة، وأن يجلوها بكل وضوح وتدقيق، دون أن يترك منها شيئاً في ظل الإبهام، وإن نشدان النور إنما تعلمناه من العرب وليس من اللاتين).
وقال العلامة السياسي أوجين يونغ في كتابه يقظة الإسلام والعرب: (. . . لقد كان للعرب ماض مجيد يدعو إلى الدهشة: ماضٍ حربي ثم ماضٍ في العلم الراقي والصنائع الزاهرة؛ ذلك الماضي الذي اتخذته أوربا في نهاية القرون الوسطى دعامة لحضارتها بعد أن كانت نصف متوحشة).
ولله در جوتيه إذ يقول: (إن محصول المدنية العربية في العلم يفوق محصول المدنية اليونانية كثيراً، وذلك لأن العلم عندهم كان يقوم على أصول علمية ثابتة).
وقال فلوريان: (انكب العرب في عصرهن الذهبي على مواصلة الدرس، وترقية تعلم الفنون، حتى إن حضارتهم كانت العامل الأكبر والأول في نهضة القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد).
وشهد بذلك العالم الفرنسي سيديو فقال: (تشهد آثار العرب ومخترعاتهم ومستكشفاتهم على أنهم كانوا أساتذتنا في كل علم وفن)، وقد وافقه على هذا الرأي العلامة جورج سارطون إذ يقول: (يستخف بعض الغربيين بما أسداه العرب إلى الحضارة والمدنية، ويزعمون أنهم لم يكونوا إلا حفظة للعلوم القديمة دون أن يضيفوا إليها شيئاً. . . والحقيقة أن هذا الرأي فاسد من أساسه. فلولا العرب لتوقف سير المدنية. إذ كانوا مشعل الحضارة، وأساتذة العالم في القرون الثلاثة وهي الثامن والحادي عشر والثاني عشر).
وقال آرثر جلين ليونارد: (يجب أن تكون حالة أوربا مع الإسلام بعيدة من كل هذه الاعتبارات الثقيلة، وأن تكون حالة شكر أبدي بدلاً من نكران الجميل الممقوت والازدراء المهين. . . فلقد وصلت المدنية الإسلامية عند العرب إلى أعلى مستوى من عظمة العمران والعلم فأحيت جذوة المجتمع الأوربي وحفظته من الانحطاط. ولم نعترف ونحن نرى أنفسنا في أعلى قمة من التهذيب والمدنية بأنه لولا التهذيب الإسلامي ومدنية العرب وعلمهم وعظمتهم في مسائل العمران، وحسن نظام مدارسهم، لكانت أوربا إلى اليوم غارقة في ظلمات الجهل)، ويقول ويدمان في هذا الصدد: (. . . لا تقل خدمات العرب للغرب عن خدمة نيوتن وفراداي ورنتجن).
ويقول غوستاف لوبون: (ما كاد العرب يخرجون من صحاري بلادهم حتى اتصلوا بالمدنية اليونانية اللاتينية، فتمثلوها، وكان تمثلها يتطلب فكراً مهذباً. . . ونحن نجهل ما كان لهم من حضارة راقية قبل الرسول (ص) فقد كانوا على اتصال بالتجارة مع العالم، وكانت لهم ثقافة أدبية عالية قبل الإسلام، ومن ثم حضارة علمية زاهرة بعد الإسلام)، وقال أيضاً: (تفوق العرب في المدينة على شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذا السبيل).
وشهد نوبرجر بالحضارة العربية شهادة ترفع الرأس عالياً. فقال: (فاقت المدنية العربية في عصرها الذهبي مدنية رومية القديمة في حيويتها) ووافقه دوسن فقال: (إن المدنية الغربية الأوربية مدينة للمسلمين بميراث حكمة الأقدمين، وأن فتوح العرب في الإسلام لتعد من عجائب التاريخ، ومما يدعو إلى العجب أيضاً أن يصبحوا سادة نصف العالم في أقل من قرن، وأن يصبحوا في مائة سنة ذوي ثقافة عالية، وعلوم راقية، ومدنية زاهرة. بينما نجد الجرمانيين لما فتحوا الإمبراطورية الرومانية قد قضوا ألف عام قبل أن يقضوا على التوحش، وينهضوا لإحياء العلوم).
وقال العالم يهودا وهو رجل عبراني يدرس في جامعة مجريط (أخذ الناس يدركون الآن أن أوربا في القرون الوسطى مدينة للحضارة العربية التي اغترف من مناهلها المسلمون، واليهود، والنصارى على السواء. أخذ الناس الآن يفهمون أن العلوم الطبيعية والقوانين الأساسية في الفلسفة، والرياضيات، وعلوم العمران كانت تستمد روحها في زمن النهضة والإصلاح من ذلك المنهل العذب ألا وهو الحضارة العربية، وصار علماء العصر كلما تعمقوا في دراسة هذه الحضارة أدركوا أثرها البليغ في حضارة اليوم، وكشفوا مئات الكلمات الداخلة في اللغات الأوربية من أيام تلك الحضارة).
وقال سينوبوس: (لا مرية في أن العالم الإسلامي كان أسطع نوراً من العالم الغربي فكان المسيحيون يشعرون بنقصهم في التهذيب، ويعجبون بما يبدو لهم من غرائب الشرق، وكان النازع فيهم إلى العلم يقصد مدارس العرب).
هذه هي حضارة العرب الزاهرة التي يطعن عليها سرفيه وأمثاله من الخصوم والمتشيعين، والتاريخ كفيل بأن يعيد نفسه، فيتبوأ العربي عالي مكانته، ويستعيد زاهي مدنيته.
وهذه أيضا صورة أخرى من كتابنا (تحت راية الإسلام) الماثل للطبع. فعسى أن نكون قد أسدينا لهذه الأمة العزيزة بعض حقها علينا.
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال