مجلة الرسالة/العدد 694/مراكش وأسبانيا
مجلة الرسالة/العدد 694/مراكش وأسبانيا
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
هناك حقيقة تاريخية لا يمكن إغفالها عند التحدث عن العلاقة بين المراكشيين والأسبانيين، وهذه الحقيقة التاريخية هي أن الدولتين ظلتا في خصومة مستمرة منذ عهد بعيد وطيلة أجيال متعاقبة، وقد دخلت تلك الخصومة في طورها الفعال بعد أن قويت دولة النصرانية في الأندلس واستطاعت أن تستولي قواتها على شبه الجزيرة كلها.
شبت منذ ذلك الحين معركة قاسية طويلة الأمد بين المراكشيين والأسبانيين، وكانت على شكل غارات بحرية متوالية، فكان الأسبانيون ينزلون إلى سواحل مراكش غازين مغامرين، وكان المراكشيون ينزلون إلى السواحل الأسبانية غازين مغامرين مدمرين، وظل الأمر على ذلك أزمنة طويلة حتى بعد قيام الإمبراطورية الأسبانية، إلى ضعف أمر الدولة المراكشية في القرن التاسع عشر، فاقتحم حدودها الأسبان سنة 1860، وشبت دون مدينة تطوان معركة طاحنة بين الفريقين تبادلا خلالها النصر والهزيمة مرات كثيرة، إلى أن دارت الدائرة على الجيش المراكشي وسقطت المدينة لتدوسها سنابك خيل العدو، فذاقت مدة من الزمن حياة المهانة على يد أعدائها القدماء، ولولا الظروف السياسية والتنافس الدولي لذاقت مراكش كلها ما ذاقته المدينة التعسة، ولكن كان على الجيش الأسباني أن يغادرها تحت تأثير الظروف الدولية؛ وهكذا خبا أمل الأسبانيين وضاعت الفرصة الثمينة التي أشرقت ثم غار نورها.
ولكن فكرة غزو مراكش زادت قوة، فظلوا يتحينون الفرص للانقضاض عليها. وكانت الجيوش الفرنسية في الجزائر على حدود مراكش الشرقية تشارك الأسبانيين هذا الأمل الخلاب، وبانت مراكش بين هاتين القوتين المضطرمتين، ولكن تطور الحوادث بعد ذلك دفع بالدولتين إلى الاتفاق.
كان ذلك في مفتتح هذا القرن، إذ اتفق الفرنسيون والأسبانيون على اقتسام مراكش بينهما، على أن تستولي أسبانيا على نصفها الشمالي إلى ما بعد مدينة فاس، ويستولي الفرنسيون على الباقي. ولكن الوضعية الدولية تغيرت واستطاعت فرنسا أن تعقد الاتفاق الودي المشهور مع إنجلترا سنة 1904، وبذلك قوى مركزها الدولي، وتزعمت منافسة أل التي كانت تعمل هي أيضا للاستيلاء على مراكش. وشبت الخصومة قوية خلال سبع سنوات بينهما، وتطورت تطورات خطيرة كادت تعجل بقيام الحرب العظمى، يوم دخل الطراد (بنثر) مياه أجادير. وكاد يطلق القذيفة الأولى في أول حرب عالمية، كانت أسبانيا مختفية طوال تلك المدة، بينما كانت فرنسا في مقدمة العاصفة، وقد غامرت بمستقبلها في سبيل مراكش، ولذلك ألغت من تلقاء نفسها الحدود القديمة التي اتفقت عليها مع أسبانيا، واكتفت بإعطائها، بعد أن انتهت القضية المراكشية إلى ما انتهت إليه، منطقة صغيرة في الشمال، ولم تسمح لها بالاستيلاء على مدينة فاس.
وهكذا انتهت تلك القصة الطويلة سنة 1912 يوم فرضت معاهدة الحماية على مراكش، ولكن تلك النهاية كانت إيذاناً ببداية معركة أخرى، هي معركة بين شعب يدافع عن نفسه وشعب آخر يحاول اغتياله والقضاء عليه. وما أن انتهت الحرب العظمى حتى هبت ثورة بطل مراكش الكبير الأمير عبد الكريم الخطابي في وجه الجيش الأسباني، وبدأت الأحلام الأسبانية تترنح تحت الضربات القاصمة التي وجهها إليها الأمير البطل، ذلك الرجل الذي اثخن الجسم الأسباني جراحاً، وقدم إلى أسبانيا جزاء على مغامرتها مرارة الثكل واليتيم والآلام، إلى درجة أنهم فكروا جدياً في الإقلاع عن السير في هذه الطريق المحفوفة بالأخطار. ولكن تدخل فرنسا في النهاية واستفحال القوات المهاجمة أرغما البطولة على الاستسلام، فلم يكن للجيش المراكشي الباسل مناص من إلقاء السلاح أمام الجيوش الجرارة التي جردتها عليه الدولتان القويتان.
انتهت المعركة وبدأت أسبانيا تحاول أن تشق الطريق إلى أهدافها في القضاء على مراكش مرة أخرى، ولكن منعها من ذلك قيام الحركة الوطنية وانتشارها بشكل واسع في البوادي والمدن، وقد كان قيام هذه الحركة بمثابة تحصين لروح الأمة وكيانها؛ كما منعها من ذلك أنها لم تحقق من أحلامها العسكرية في مراكش إلا اليسير، فهي ما تزال بعيدة كل البعد عن ذلك ما دامت لم تسيطر إلا على هذه الرقعة الصغيرة من الإقليم المراكشي ولذلك فان تسرعها في محق هذه البلاد لا يمكن أن يكون عملياً ما دامت لم تسيطر بعد عليها كلها.
وإذن فلتؤخر الكارثة إلى أن تتمكن أسبانيا من الاستيلاء على مراكش كلها. وهكذا اتجهت السياسة الأسبانية إلى نوع من المخاتلة، محاولة إخفاء نياتها الحقيقية لكي تستعين في الوقت المناسب بسمعتها ضد الفرنسيين. وكانت في نفس الوقت تخاف أن يهب في وجهها عبد الكريم آخر إذا هي اتجهت في ساستها نحو الشدة. كانت تقول للوطنيين: لا تطالبوا أسبانيا بشيء، فإن مسألة مراكش في يد فرنسا، وفرنسا هي التي أعطت أسبانيا هذه المنطقة، ثم إن أسبانيا لا تستطيع أن تتنزل عن نفوذها في هذا الجزء الصغير من مراكش لكي تستولي عليها فرنسا. ولذلك فأنه يجب على الوطنيين أن يوجهوا جهودهم نحو تحطيم الاستعمار الفرنسي، وبعد ذلك تكون أسبانيا على استعداد للتنازل عن نفوذها لكي يتمتع المراكشيون جميعاً باستقلالهم الحقيقي
وهذا كلام لا يعوزه المنطق، ولكنه ليس صحيحاً، فقد اندلعت الحرب الأهلية في أسبانيا، وتلاحقت الحوادث بعد ذلك تلاحقاً خطيراً أدى إلى نشوب الحرب العظمى الثانية، فخيل لأسبانيا الفاشستية - بعد الهزيمة الفرنسية - أن الفرصة المومقة قد سنحت، وأن مسألة استيلائها على مراكش أصبحت مسألة زمن فقط، وفعلاً اجتازت جيوشها الحدود إلى مدينة طنجة الدولية، وكادت تقتحم منطقة مراكش الجنوبية، ولكن كلا من سياسة ألمانيا حيال الإمبراطورية الفرنسية والمطامع التي كانت تجيش بها إيطاليا الفاشستية حال دون ذلك.
ووجدت أسبانيا نفسها مرة أخرى عاجزة عن تحقيق مأربها القديم، فهي لن تستطيع الاستيلاء على مراكش إلى جانب المحور، ولن تستطيع ذلك بالطبع إلى جانب الحلفاء. ومالت كفة النصر نحو الديمقراطيات ثم انتهت الحرب بانتصارها، وانسحبت أسبانيا المعزولة عن مدينة طنجة، وتلاشى بريق الأمل الذي أوهمها أنها قاب قوسين من الشروع في خطتها التي ترمي إلى الاستيلاء على تلك البلاد.
لقد حالف الفشل والإخفاق أحلام أسبانيا التاريخية، وإذن فلتلتفت إلى المراكشيين لتصب عليهم نقمتها وغضبها. وإذا كان لعلم النفس دخل في السياسة، فقد خلف عندها هذا الفشل عقدة نفسية، وطاقة مكبوتة، وهي تتصرف اليوم حيال المراكشيين بإيحاء من تلك العقدة التي يزيد تعقدها في الشعور الباطن طمع هائل وباع قصير.
وهكذا تجرد اليوم أسبانيا على مراكش سوط عذاب، ولا تزيدها المقاومة إلا تمادياً في القسوة والجبروت، فهناك عند سفوح جبال الريف يتفنن أيتام النازية والفاشستية في السفك والجلد والتنكيل لأسباب تافهة، ويراقبون الضمائر وخلجات النفوس، ويهددون الأحرار بالمحق، ويتربصون الدوائر بالحركة الوطنية كلها.
أما الطامة الكبرى، فهي الهجرة الأسبانية إلى شمال مراكش، ذلك أن أسبانيا حينما أحست بالفشل يحاصر آمالها عمدت إلى فتح السدود أمام سيل الهجرة العرم، فتدفق على البلاد وكأنه الطوفان. كان قوام السيل من العجزة والعاطلين، فنشروا الأمراض، وقاسموا المراكشيين ما أبقى لهم الجفاف من قوت، وبلغت المأساة في أول السنة الحالية ذروتها، فكان الموتى يحملون في عربات النقل من الشوارع تحت جنح الظلام!
هذه هي الناحية المنسية من المسألة المراكشية التي ارتبطت بفرنسا وحدها، فخيل إلى الناس أن كل ما حاق بهذه البلاد هو نتيجة لأعمال فرنسا وحدها. كلا، فإن المراكشيين يقاومون فرنسا ويقاسون عذابها مؤمنين بأن التخلص من الاستعمار لا يكون دون صراع، وبأن الغلبة في النهاية للأيمان لا للقوة، ولكن ما يحيق بمراكش من ختل أسبانيا ووعودها الكاذبة وتربصها وهول أطماعها، وتصرفاتها الشاذة، يضاعف أتعاب المراكشيين في مقاومتها.
وليس هذا بالشيء الخفي، فلدى كل دولة عشرات من التقارير عن الحالة في مراكش قدمها إليها المراكشيون الأحرار، وفي أمانة الجامعة العربية عشرات كذلك، وكلها تشرح بالأرقام والصور ما حاق بمراكش العزلاء على يد أسبانيا الفاشستية المدججة بالسلاح، دون أن يبدي أحد حراكا. ولكن المراكشيين سوف يمضون في مقاومة هذا الطغيان إلى أخر رجل سواء ناصرهم أحد أو لم يناصرهم. فلأن يقال غداً إنهم انقرضوا دون شرفهم، خير من أن يقال خفضوا هامهم للطغيان!
عبد المجيد بن جلون