مجلة الرسالة/العدد 693/الحلم والتحلم. . .
مجلة الرسالة/العدد 693/الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 3 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه)
حديث شريف
المأمون:
يرتفع الستار بعد موت الرشيد عن مشهدين متنائيين - أحدهما في بغداد والثاني في مرو - بينهما متسع من الأرض فسيح تخب الدسيسة فيه وتضع.
ولم يكن هذا النزاع بين الأمين والمأمون إلا مظهراً لنزاع أشد وأروع بين حاشيتيهما في حاضرتي العراق وخرا سان، وكان على رأس الأولى الفضل بن الربيع يشد أزره فريق من دعاة السوء وأرباب المطامع. . . وعلى رأس الثانية الفضل بن سهل يكتنفه الشيعة من أهل خرا سان، وقد وطدوا عزمهم على تقويض العرش العباسي ببغداد وإسناد الخلافة إلى العلويين، (والعجيب أن المأمون أصبح يرى هذا الرأي. بل هو يضعه موضع التنفيذ كما سترى).
ولم يكن بين الأخوين من العداوة الشخصية ما يبلغ حد القتال، ولكنَّ بُعد ما بينهما أفسح المجال للدسائس والوشايات، وكان الأمين ضعيف المنَّة فاشل الرأي يصيخ لإغراء وزيره، ودسِّ رجال حاشيته، فنادى بخلع أخيه من ولاية العهد وجعلها لابنه موسى (الناطق بالحق).
وكان خليقاً بالمأمون أن يرفض هذا التبديل، وأن يأبى التنازل عن حق كفله له أبوه الرشيد بإشهادين أودعهما البيت الحرام. . . وكان قد أزالهما الأمين عن موضعهما بإشارة خبيثة من الفضل.
تحركت جيوش جرارة من بغداد منذ عام 195 هـ بقيادة: علي بن عيسى، وعبد الرحمن بن جبلة، وابن مزيد، وابن قحطبة على التوالي. فانبرى لقتالها رجلا المأمون: طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين.
وبعد حروب امتدت ثلاثة أعوام وطئت عساكر المأمون أرض بغداد، وقتل الأمين بأيدي الخراسانيين، وحمل رأسه إلى أخيه مع بقية شارات الملك، وكان هذا القتل على غير رغبة المأمون. . .
تولّى كبرَه رجال طاهر من الفرس حين أسلم الأمين نفسه إلى هرثمة بن أعين. وليس من شك في أن الأمين أيضاً كان يظنّ بأخيه أن يقتل فيما لو أظفره الله به. وآنا لنراه يوصي. قائد جيوشه (علي بن عيسى بن ماهان) يوم وجّهه من بغداد إلى خراسان فيقول:
إذا شخصته - يعني عبد الله المأمون - فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فان غره الشيطان فناصبك العداء فاحرص على أن تأسره أسراً!
وتقول زبيدة أم الأمين في وصيتها للقائد (علي): اعرف لعبد الله حق والده وأخوُّته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيرهَ، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غلّ. . . ولا تركب قبله، ولا تستقل دابتك حتى تأخذ بركابه، وان شتمك فاحتمل منه، وان سفه عليك فلا ترادِّ. . . ثم هي ترفع إليه قيداً من الفضة وتقول: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد!
فلمّا تمّ النصر للمأمون، واستولى على عرش بغداد قال لجلسائه مرة وهو يثلب الفضل بن الربيع ويعدد مخازيه: كان صغوه إلى المخلوع، فحمله على أن أغراه بي ودعاه إلى قتلي، وحرّك الآخر ما يحرك القرابة والرحم الماسّة فقال: أما القتل فلا أقتله، ولكن أجعله بحيث إذا قال لم يُطع، وإذا دعا لم يُجب. فكان أحسن حالاتي عنده أن وجّه مع علي بن عيسى قيد فضة بعد ما تنازعا في الفضة والحديد؛ ليقيدني به، وذهب عنه قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه، لينصرنّه الله).
كان المأمون يعرف عن أخيه فسول الرأي وسهولة الانقياد لمن أحاط به من بطانة السوء، ولعله لو وقع في أسره لكان أقصى ما يفعله معه أن يقيده بهذا القيد من الفضة الذي أعدّه له، ثم يحمله حتى يطرحه عند أمه زبيدة فيقول لها: - أدّبي ولدك يا أماه بما أساء، فلقد خان عهد أبينا الرشيد، وأصاخ إلى من يريدون بأسرتنا وبملكنا شراً. . .
ولكن جرت الأمور بغير ما قدّر هؤلاء جميعاً، وطاح رأس الأمين على مذبح هذه الفتنة الغشوم، والتفت المأمون حوله فإذا سكون شامل وصمت رهيب؛ وإذا أعداؤه ما بين قتيل قد كُفي شرّه، أو هارب يتلمس التخفّي ويطلب أسباب النجاة، ولم تنشط نفس المأمون إلى ورود بغداد واعتلاء عرشها الدامي إلا بعد انطواء ست سنين على مقتل أخيه (من 198 إلى 204 هـ)، وكأنّما كانت نفسه قد ملّت القتل وبرمت بالقتال، وامتلأ قلبه بالسكون وبالطمأنينة، وبالفلسفة والتأمل الصامت؛ فجنح إلى العفو والمسامحة، وشغل عن كثير من مطامع الحياة وأهواء السياسة والمجتمع، ولنصرف بجهده إلى العلم ومدارسته وتشجيع المشتغلين به، وحثّهم على التوفّر عليه، كما هو معلوم من سيرته. . .
وكان عفوه عمّن دخلوا في فتنة الأمين شاملاً، واتبّع ذلك عفوه عن عمّه إبراهيم بن المهدي الذي ادّعى الخلافة (عام 201 هـ) قبل مقدم المأمون إلى بغداد، وكان سبب قيام ابن المهدي في بغداد ما أجمع عليه العباسيون من خلع المأمون عندما اختار لولاية عهده علياً الرضي بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق من العلويين وظهر الفضل بن الربيع وقتئذٍ - وكان مختفياً منذ مقتل الأمين - فانظم إلى ابن المهدي متحدّياً المأمون للمرة الثانية، وكان من العجيب أن يشمله العفو رغم كل ذلك. ولما مثل بين يدي المأمون في ذلّته وانكساره قال له: يا فضل، أكان من حقّي عليك وحقّ آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك، أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلته بي؟ فقال: يا أمير المؤمنين: إن عذري بحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذا حفّته العيوب وقبّحته الذنوب؟ فلا يضق عنّي من عفوك ما وسع غيري منك، فأنت كما قال الشاعر فيك:
صفوح عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو ولم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكُره مسلما
فأسبل المأمون عليه توب عفوه. . .
وعفا عن اسحق بن العباس، وكان ممن أجلب مع ابن المهدي، وعفا أيضاً عن ذوي قرابته من آل عبد الملك بن صالح بعد أن كان قبض ضياعهم. فردّها عليهم وقضى حوائجهم.
بل لقد هجاه دعبل الخزاعي الشاعر بداليته التي يقول فيها:
أيسومني المأمونُ خطة خسفِهِ ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد؟
فلم يمدّ إليه يداً بسوء. ثم عمل دعبل أبياتاً في إبراهيم بن المهدي بعد العفو عنه، أوّلها: نعَر (ابن شكلة) بالعراق وأهله ... فهفا إليه كل أطلسَ مائق
فشكاه إبراهيم إلى المأمون. فقال له: لك أسوة أبي، فقد هجاني واحتملته، وقال في: أيسومني المأمون. . . وأنشده الأبيات. فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً، فما ينطق أحدنا إلاّ عن فضل علمك، ولا يحلم إلاّ اتباعاً لحلمك.
وهجا الحسين بن الضحاك المأمون بقصائد، ثم دخل عليه في بغداد مادحاً، فعاتبه ووبخه؛ ثم عفا عنه، وقال: جعلت عقوبة ذنبك امتناعي عن استخدامك.
كانت فتنة الأمين والمأمون شديدة الوقع في نفوس العباسيين جميعاً، وضاعف من وضعها مقتل الأمين الذي يعدّ الحادث الأول من نوعه في تاريخهم، وقد تلا ذلك فترة سكون وسلام داخلي زينها المأمون بعفوه وتسامحه، وبلغ من تماديه في هذا الخلق الكريم أن كان يقول: أما لو عرف الناس ما لنا في العفو عن اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات!
وكأنما كان يسمع كلامه هذا أحد البغداديين حين أثنى عليه بقوله:
مازلتَ في البذل والنوال وإط ... لاق لعانٍ بجرمة غَلقِ
حتى تمنّى البراء انهموا ... عندك أسرى في القيد والحلق
ولقد أتى على المأمون حين من الدهر كان لا يثق فيه بالسلامة من أعدائه فضلاً عن التغلب عليهم. فلمّا توطّد له الأمر وتمّت عليه نعمة ربه؛ جعل من العفو عن أعدائه شكراً يتقرب به إلى الله
وقد ألم بهذا المعنى في كلامه غير مرة. . . كان في مجلسه من أصحابه يوماً حين أنهلت عيناه بالدمع، فلمّا سُئل عن سبب بكائه قال: ما ذلك من حدث، ولا لمكروه همت به لأحد، ولكنه جنسٌ من أجناس الشكر لله لعظمته، وذكر نعمته التي أتمها عليَّ وعلى أبويَّ من قبل. أما ترون ذلك الذي في صحن الدار - يعني الفضل بن الربيع - كان في أيام الرشيد، وحاله حاله، يراني بوجه أعرف فيه البغضاء والشأن؛ وكان له عندي كالذي لي عنده، ولكني كنت أداريه خوفاً من سعاته وحذراً من أكاذيبه. فكنت إذا سلمت عليه فرد عليّ، أظل لذلك فرحاً وبه مبتهجاً. . .
وعفا المأمون عن سعيد الخطيب وقال عنه - وقد وقف على رأسه يمدحه ويشيد بسيرته -: هذا الخطيب كان بالأمس يقف على المنبر الذي بازائي مرة، وعلى المنبر الغربي مرة، فيزعم أني المأفون ولست بالمأمون!. . . ثم هو الساعة يقرضني تقريضه المسيح ومحمداً عليهما السلام!
صلاح الدين الأيوبي:
يُعد صلاح الدين النموذج الكامل للحليم يجني عليه حلمه، ويورده وقومه موارد الضر والأذى. فهو قد نهض بهذا السلاح النبيل في وجوه قوم لم يتخذوا سوى الغدر والخيانة عدة لهم وسلاحاً، وكانوا بما دس في عقولهم رهبان القرون الوسطى لا يرون في الحملات الصليبية إلا وسيلة لإبادة المسلمين بالمشرق والاستيلاء على تراثهم المادي فيه.
وهكذا كانت خرافة بيت المقدس وتطهيره من الكفار) تخديراً - ليس أكثر - لأعصاب الملايين من طغاة أوربا، واستثارة للعصبية الدينية المقيتة في نفوسهم، ولم يكن ليسع البابا أوربان الثاني وهو يرسل صيحاته المفتعلة - في كليرمونت في فرنسا عام 1095 - إلا أن يقرنها بذكر الباعث الحقيقي على شنّ هذه الحروب فيقول: إنها ليست لاكتساب مدينة واحدة؛ بل لامتلاك أقاليم آسيا بجملتها مع غناها وخزائنها التي لا تحصى. فاتخذوا البيت المقدس حجّة، وخلّصوا الأراضي المقدسة من أيدي المختلسين لها، وامتلكوها أنتم خالصة لكم من دون أولئك الكفار، فهذه الأرض كما قالت التوراة: (تفيض لبناً وعسلاً).
وكان سواد الجيوش الصليبية يتألف من رعاع أوربا الذين طمست الجهالة بصائرهم، فساقهم رجال الدين سوق السائمات لتحقيق مآربهم السياسية وأطماعهم المادية. يصفهم المستشرق الإنجليزي سير وليم موير بأنهم (الطبقة الدنيا. . . خرجوا في جموع غفيرة متبعين بطرس الناسك وغيره من القواد، مدفوعين بالتعصب الشديد؛ ولكن لم يلبثوا أن ظهروا عبيداً للشهوات والميول الدنيئة).
ويقول عنهم في موضع آخر: (أما البارونات والفرسان مهما كانت طبقتهم، فلم يكن همّهم غير التنازع على السيادة. والواقع أنه قضى عليهم الشره والغيرة والخصام والمبالغة في الترف وهؤلاء الرجال الدنسون هم حماة الأرض المقدسة!).
ويصف من شرهم يوم فتحوا بيت المقدس أنهم سفكوا دماء سبعين ألف مسلم لم يراعوا فيهم حرمة لشيخ أو امرأة أو طفل. ثم يقول: (وبعد أن أشبع جنود الصليب شهواتهم الوحشية أوفوا بنذورهم وقبلوا الحجر الذي كان يغطي المسيح الذي قال: إن مملكتي ليست من هذا العالم وإلا لما قاتل أتباعي).
هؤلاء هم الأعداء الذين قدّر لصلاح الدين أن يلقاهم في ميدان الجهاد. . . فكيف لقيهم؟
لسنا نعدو هنا الإشارة إلى بعض مواقفه حيالهم، غب كل انتصار كان يتم له عليهم، ففي ذلك وحده ما يكفي في الدلالة على ما نريد.
أسر السلطان صلاح الدين في موقعة حطين: جاي دي لوزينان (جوي) ملك بيت المقدس، وبليان صاحب الرملة، ورينولد أمير الكرك والشوبك. فلم يهدر إلا دم الأخير منهم وفاءً ليمين كان أقسمها أن يضرب عنقه بيده جزاء ما تطاول به على مقام النبوة، ولسوء غدره، وكثرة تعرضه لقوافل المسلمين المجتازة على الكرك.
أما بليان صاحب الرملة فقد استأذن من صلاح الدين - كما يستأذن الحر الشريف! أن يتركه يمضي إلى القدس فيحمل زوجه وأولاده قبل أن تدهمها جحافل السلطان وأقسم ألا يتجاوز مكثه بها الليلة الواحدة. فلما بلغها التف حوله القوم ضارعين، واستماله البطريق إلى أن يقيم معهم ليضطلع بقيادة الحملة الصليبية وأباحه كنوز الكنيسة يتناول منها ما يشاء. فجنح الأمير إلى الغدر، ونسى يمينه ووعده فما ذكَّره بهما إلا صلاح الدين وهو يدق عليه أبواب بيت المقدس، ثم يفتحه على القوم صلحاً؛ ومن العجيب أنه خرج مع سائر من خرجوا - وفق شروط الصلح - معافى موفورا. . .
وأما جاي دي لوزينيان بيت المقدس فقد احتمله السلطان معه في تنقلاته فترة ما، فلما كان في (أنطرطوس) أطلق سراحه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أن يغادر الشام إلى أوربا نافضاً يده من القتال. فحنث هذا الملك بعهده؛ ومضى إلى صور حيث أبى عليه كونراد صاحب حاميتها أن يتولى معه زمام أمر. فأتجه إلى طرابلس وحشد بها الحشود، ثم ذهب إلى عكا - وكانت في يد المسلمين - فضرب حولها الحصار عامين، يعاونه فيليب ورتشارد ملكا فرنسا وإنجلترا، وقد قتل في هذا الحصار ستون ألفاً من المسلمين، ثم جرت يوم فتحها مذبحة رهيبة ذهب فيها ألفان وسبعمائة مسلم. ويقول المؤرخون إن ملكي الإنجليز والفرنسي مرضا في أثناء هذا الحصار فأرسل إليهما صلاح الدين ألطافاً من ثلج وشراب بارد وفاكهة وغيرها.
لقد كان صلاح الدين في الحقيقة أسداً باسل الهمة كريم النحيزة، يلقى ذئاباً ضاريات حشو جلودها الخسة والمكر، والخديعة والجبن، وأشباهها من دنيئات الأخلاق.
ولقد أفضى سقوط عكا عام 1191 م في أيدي الصليبيين إلى نتيجة مؤلمة رهيبة هي - في أوجز تعبير - امتداد الحروب الصليبية (مائة عام) أخرى يسجلها التاريخ بمداد من الدم الصبيب!
فقد اتخذ الصليبيون عكا حصناً لهم عوضاً عن بيت المقدس، وضلوا يناوئون منها المسلمين في الشام وفي مصر؛ حتى كان سقوطها على يد السلطان الظاهر بيبرس (1291 م) خاتمة لهذه المذابح الفظيعة التي انتهت بطرد الصليبيين من المشرق بعد أن لطّخت سجل تاريخ العصور الوسطى بدماء لا تبلى ولا تجف. فما أبهظ الثمن الذي دفعه المسلمون من دمائهم ومن مدنيتهم - خلال مائة سنة (إضافية) من الحرب - لقاء هذه اللحظة العابرة التي تحركت فيها مشاعر صلاح الدين فأطلق سراح ملك بيت المقدس جاي دي لوزينان! حقاً إنها للحظة حاسمة من لحظات التاريخ؛ تركت على وجه الأرض أثرها الذي لا يمحى.
(يتبع)
محمود عزت عرفة