انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 69/لا مؤاخذة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 69/لا مؤاخذة

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1934



للأستاذ محمد فريد أبو حديد

كنت أعرف رجلاً طيب القلب بلغت منه طيبه القلب مبلغاً عظيماً. فكان يحب الخير ولا يميل إلى الأذى ويعف عما في أيدي الناس، ويعطيهم مما في يديه أكثر مما كان ينبغي له، حتى أنه كان يحب أحياناً أن يولم لبعض أصدقائه وليمة فلا يجد ما يولم لهم به من المال في كفه، فيدفعه حرصه على إرضائهم إلى يؤذي نفسه في سبيل ذلك الرضا، فقد استدان مرة بضعة جنيهات من صديق له وأولم في اليوم التالي لبعض أصدقائه وليمة لذيذة، وأبى عليه كرمه أن يهمل صديقه الذي استدان منه فدعاه إلى الحضور، وكانت فكاهة الأصدقاء بنبأ الوليمة والدين الذي ركب صاحبها من ورائها سبباً في شحذ شهوة الطعام في الجمع حتى لم يبقوا على شئ من ذلك الطعام اللذيذ

غير أن هذا الرجل الطيب كان به عيب واحد لا أعرف فيه عيباً سواه، وهو أنه كان يعنى عناية عظيمة برأي الناس فيه، فلا يكاد يسمع من أحد مدحاً في نفسه حتى يثور طربه، ويهتز للمديح اهتزاز الغصن الرطب في الريح، وقد تدفعه الأريحية عند ذلك إلى الخروج عن طاقته في جزاء المادح؛ وأما إذا هو سمع أحداً يذمه ولو ذماً ضئيلاً، فإنه لا يتمالك نفسه من الغضب، وقد تكون غضباته مضرية هائجة، ولولا إنه من الثابتين المطمئنين إلى حكم القانون، لكان لا يرى شيئاً يغسل عنه معرفة معرة الذم، إلا أن يراق في سبيلها الدم. وقد عرفت أنه سمع أن بعض الناس يقعون فيه ويذمونه بأنه يأكل في بيته الثريد بأصابعه الخمس، وأنه ما يكاد يصل إلى بيته حتى ثيابه المحترمة، ويلبس لباساً ساذجاً مما يلبسه عامة الناس من طبقة الفقراء، فيضع على رأسه لبدة بيضاء من الصوف الخشن، ويلبس في رجله قبقاباً من الخشب الثقيل، ويلبس على جسمه جلباباً من القطن الرخيص، فما كاد يسمع ذلك القول حتى ثارت ثائرته، وجعل يصيح في الحاضرين بأعلى صوته واصفاً ما يلبس وما يأكل، مجتهداً أن يطلع الناس على حاله في بيته، وعلى ما هو عليه من تمتع بأقصى ما يتمتع به المتحضرون المتأنقون؛ ولعله قد لاحظ شيئاً من التردد بين سامعيه في تصديق أقواله، فجعل يزيد في التأكيد حتى بلغ الأمر منه أن جعل يقسم لهم جهد الأيمان، ولما أحس مع كل ذلك أن السامعين فيهم المعاند والمكابر، اتخذ خطه عمليه حازمه لبيان صدق قوله فقد حلف على الجميع وعزم أشد العزيمة أن يزوروه في منزله في صباح الغد ليقيموا عنده النهار أجمعه فيطلعوا على أسلوب حياته معاينة واختباراً. ثم ذهب من فوره إلى أقرب أصدقاء إليه، وأوثقهم مودة عنده وأملئهم جيباً. فاستدان منه ما يستعد به لحفلة الغد، ولم ينس أن يدعوه في المدعوين لشهود ما هو على نية إظهاره وإجلائه

ولكن لا يظنن أحد من القراء أنني أصف هذا الرجل لأنه ممن يستحق العناية الخاصة لميزة في شخصه، أو لمكانة له بين الناس. فإنما أنا أسوقه مثلا لقوم في مصر يريدون أن يقحموا البلاد في مثل ما تورط فيه صاحبنا هذا. فمثلاً قد تكرر ما قال القائلون من الدعوة لمصر في الخارج، وما صاح الصائحون من وجوب إظهار أهل الغرب على ما نحن عليه من رقي وتحضر، وهم لا يظنون على ذلك السعي بالمال مهما عظم مقداره، والحق أنني أعطف أشد العطف على وطنية هؤلاء وسلامة طويتهم. فمثلاً قد ذهب أحد المصريين إلى مؤتمر من المؤتمرات، وكان بطبيعة الحال لابساً بذلة من البذلات الرسمية الوجيهة، فمال عليه جاره وكان من ممثلي بعض دول الغرب فسأله عما هو صانع ببذلته بعد انصرافه من المؤتمر. وأغلب ظني أن ذلك الزميل الأوربي المحترم قد ظن في الممثل المصري أنه لا يكاد ينفلت من المؤتمر حتى يرمي بتلك البذلة فوق أقرب شجرة من شجر الجميز إذا بلغ الطريق المؤدية إلى عاصمة بلاده، وهو راكب جملاً قوياً يحمله في سفره، ثم يقف تحت تلك الشجرة ينتظر مرور أول وعل من وعول الجبل فيرميه بسهم من قوسه الشديدة، ويسلخ عنه جلده، وينشره في الشمس يوماً أو بعض يوم، ثم يلبسه بدل بذلته الرسمية. ثم يتابع سيره نحو العاصمة لمقابلة أولي الأمر فيها، وإبلاغهم نتيجة بحوث المؤتمر الذي كان يمثل بلاده فيه. لعل ذلك الزميل قد حسب هذا، ولا بد أن الممثل المصري قد تصور هذا الظن، ورأى فيه مساساً عظيما بكرامته وكرامة بلاده فغضب له، وجاء يشكوه لبني وطنه ليظهر لهم مقدار جهل الناس بحقيقتهم، وقد سمع هذا القول طائفة من الناس فغضبوا له غضباً شديداً، وجعلوا يطالبون بأن تبذل الحكومة من أموال الشعب بضع مئات من ألوف الجنيهات الذهبية لكي تنظم دعوة لاطلاع أهل الغرب على حقيقة أمر الشعب المصري

وأنني لا أرى مانعاً يمنع من بذل المال، ولا من القيام بدعوة في سبيل مصر، فكل شئ في خدمة مصر هين، وكل قصد الحياة هو خدمة مصر ولكني مع ذلك أحب أن تتجه الدعوة نحو قصد مخالف كل المخالفة لما يريد هؤلاء السادة أن يدعوا إليه. ولا يسعني إلا أن اعتذر لهم وللقراء عن هذه المخالفة التي قد تغضبهم متى وصفت لهم حقيقتها، ولا أجد شيئاً أقدر أن أعتذر إليهم إلا أن أقول لهم: (لا مؤاخذه)، فإن هذه الكلمة كلمة سحرية، وقد جربت أثرها في مختلف المواقف، فو الله ما خانني سحرها يوماً، ولا خذلني نصرها في ساعة من ساعات الشدة. فكم وطئت على أقدام في الترام وقت الزحام، فلما رأيت ثورة الذي وطئت قدمه أسرعت وتلفظت بذلك الطلسم، فإذا وجهه تشرق عليه ابتسامة عريضة، ويهز رأسه لي، كأنما هو يعتذر عما ظهر على وجهه من التجهم في أول الأمر. وكم أخطأت فلم ينجني من تبعة الخطأ إلا هذا اللفظ المبارك، وكم خرجت عن حدود اللياقة ونفذت إلى العفو الفسيح من مدخل هذا اللفظ البديع. فلا مؤاخذه أيها السادة إذا كنت أعتقد أن خير مصر ونفع الوطن في أن نبذل بضعة آلاف أو بضعة مئات من الآلاف من جنيهات الذهب، على أن يقوم جماعة من المخلصين لمصلحة هذه البلاد بدعوة في شعوب العالم أجمع، يعلون فيها من ذكر مصر، بأن يصفوا أهلها بالتوحش والغلظة، وينعتوهم بأقبح النعوت وأبشع الصفات - وحبذا يوم يعتقد فيه شعوب أوربا وأمريكا أن المصريين لا يلبسون إلا جلود النمور والأسود، ولا يعرفون من المساكن إلا الكهوف والأدغال، وأن لهم قسياً قوية وسهاماً مسمومة، وأنهم يقفون لأعدائهم تحت الصخور ووراء الجذوع، فيسددون إليهم سهاماً مسمية لا ينجو أحد من جراحها، وأن الذي يدخل بلادهم لا يلقى إلا مشقة، ولا يرتاح في حل ولا ترحال. وأن المصريين يأكلون لحم الحيوان بغير نضج، فإذا لم يجدوا من لحوم الحيوان شيئا اشبعوا الجوع بما يجدونه قريباً منهم من اللحم، ولو كان آدمياً؛ وأنهم حديد الأسنان، حمش السيقان، حرز العيون، قبيحوا الخلقة. أقول هذا (ولا مؤاخذه) فأت تلك الدعوى عندي آثر وأحب، وأثرها في ظني أبلغ في إجلال القوم لنا ومراعاتهم لحرمنا. فأن الناس على حضارتهم لم يزيدوا بعد على أنهم متوحشون، قد طلوا ظاهرهم بطلاء من الفضة أو الذهب، وأما باطنهم فلا يزال فيه الحيوان البري الذي يخشى القوة الوحشية خشية أعظم من تقديره لفضائل الفلسفة

وإنها لإهانة لا تعدلها إهانة أن يذهب نفر من أهل مصر ليعلفوا في ملأ الشعوب الأخرى أن شعب مصر يلبس الملابس المعتادة، لا جلود الحيوان، وأنه يأكل الخبز والطعام، لا لحوم البشر ولا المن والجراد. أما أنا فيمين الحق أنه لأحب إلي أن يذهب الناس عني قائلين إني متوحش، أو إني جاهل، أو أني غر، أو إنني من أكلة لحوم الإنسان، من أن أكلف نفسي أن أبين لهم إنني لست كما يزعمون. لا بل إنني أحسب أنه لو ظن الناس في مثل هذه الظنون لكان هذا مبعث فكاهة لنفسي أنعم بها وحدي وأنا أتأمل مقدار جهل هؤلاء الناس بي، وضلالهم في معرفة حقيقة أمري

ولعل أهل الغرب إذا فشت فيهم عقيدة أننا من لابسي الجلود وآكلي اللحوم النيئة، حملهم ذلك على بعض التحرز في معاملاتنا، وبعض الخشية من أنيابنا

ولا مؤاخذه.!. . .

محمد فريد أبو حديد