انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 683/صور من العصر العباسي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 683/صور من العصر العباسي:

مجلة الرسالة - العدد 683
صور من العصر العباسي:
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1946



الخلفاء العباسيون والهدايا

للأستاذ صلاح الدين المنجد

درج الناس في العصر العباسي على تقديم الهدايا للخلفاء، ونلاحظ أن هذه الهدايا كانت تقدم في النيروز والمهرجان، وفي الفصد، وفي العودة من الحج، هذا عدا الهدايا التي كانت تحملها الرسل الواردة على الخليفة من الولاة والأمراء، أو من ملوك الروم.

أما الهدايا في النيروز والمهرجان، فعاده فارسية أخذها العرب عن الفرس منذ فجر العصر الإسلامي. ويقول الجاحظ إنها كانت معروفة زمن معاوية، وظلت كذلك طول عهد الأمويين، حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطلها. فلما دالت دولة الأمويين، وقامت دولة العباسيين، عادت هذه العادة إلى الناس، وصارت فرضاً عليهم نحو الملوك.

ويبين الجاحظ العلة في تقديم الهدايا في النيروز والمهرجان فيقول: (وإن من حق الملك هدايا المهرجان والنيروز، والعلة في ذلك إنهما فصلا السنة، فالمهرجان دخول الشتاء وفصل البرد، والنيروز إيذان بدخول فصل الحر)

(ومن حق الملك أن تهدي إليه الخاصة والعامة، والسنة في ذلك عندهم أن يهدي الرجل ما يحب من ملكه إذا كان في الطبقة العالية، فإن كان يحب المسك أهدى مسكا لا غيره، وان كان يحب العنبر أهدى عنبراً، وإن كان صاحب بزة ولبسه أهدي كسوة وثياباً، وإن كان من الشجعان والفرسان، فالسنة أن يهدي ذهباً أو فضة، وإن كان من عمال الملك، وكانت عليه متأخرات أو بقايا للسنة الماضية جمعها وجعلها في بدر حرير صيني وشريحات فضة وخيوط ابريسم. . . ثم وجهها. وكان يهدي الشاعر الشعر، والخطيب الخطبة، والنديم التحفة والطرفة والباكورة من الخضروات. وعلى خاصة نساء الملك وجواريه أن يهدين إلى الملك ما يؤثرنه. ويجب على المرأة من نساء الملك إن كانت عندها جارية تعلم أن الملك يهواها ويسر بها، أن تهديها إليه بأكمل حالاتها، وافضل زينتها، وأحسن هيأتها. فإذا فعلت ذلك، فمن حقها على الملك أن يقدمها على نسائه ويخصها بالمنزلة ويزيدها في الكرامة).

وعاد الجاحظ في المحاسن والأضداد ففصل ما اجمل. قال: وجعلوا شعارهم: كل يهد على قدره. فكان القواد يهدون النشاب والأعمدة المصمتة من الذهب والفضة. والكتاب والوزراء والخاصة من قراباتهم جامات الذهب والفضة المرصعة بالجوهر، وجامات الفضة الملوحة بالذهب. والعظماء والأشراف يهدون البزاة والعقبان والصقور والشواهين والفهود. وربما أهدى الرجل الشريف سوطاً. وكانت الحكماء يهدون الحكمة والشعراء الشعر، وأصحاب الجوهر الجوهر، وأصحاب نتاج الدواب الفرس الفاره والشهري النادر. والظراف قرب الحرير الصيني مملوءة ماء ورد. والمقاتلة القسي والرماح والنشاب. وكانت نسوة الملك تهدي إحداهن الجارية الناهدة والوصيفة الرائعة، والأخرى الدرة النفيسة والجوهرة الثمينة، وفص خاتم، وما لطف وخف. وأصحاب البز الثوب المرتفع من الخز والديباج وغير ذلك والصيارفة نقر الذهب مملوءة بالفضة، وجامات الفضة مملوءة دنانير.

وكان للهدايا كاتب خاص، يكتب اسم كل مهد، وجائزة كل من يجيز الملك على هديته ليودع ديوان النيروز مهما كان شأن الهدية، صغرت أم كبرت، كثرت أم قلت. فإذا أهدى أحدهم الملك هدية، ثم لم يخرج له من الملك صلة، عند نائبة تنويه، أو حق يلزمه، فعليه أن يأتي ديوان الملك ويذكر بنفسه.

ويذهب آدم متز إلى أن المهرجان كان يمتاز خاصة بأن الرعية يهدون فيه إلى السلطان، ولا وجه لتمييز المهرجان من النيروز وقد رأيت أن الجاحظ جعلهما سواء، وذكر هدايا المهرجان، وهدايا النيروز. وقد كان النيروز عيداً قومياً، يحفلون به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالقصائد والهدايا.

ولنر الآن أنموذجات من هذه الهدايا، في ضروبها وأصنافها.

فقد أهدى المنصور الوصائف من الرجال. حدث الفضل بن الربيع عن أبيه قال: كنت في خمسين وصيفاً اهدوا للمنصور، ففرقنا في خدمته.

وأهدت جارية إلى المهدي تفاحة، فأعجب بهذه الهدية وقال:

تفاحة من عند تفاحة ... جاءت فماذا صنعت بالفؤاد

والله ما أدري أأبصرتها ... يقظان أم أبصرتها في الرقاد؟

ولما عشق أبو العتاهية عتبة، جعل هديته إلى المهدي وسيلة لوصالها. فقد ذكر المبرد أن أبا العتاهية استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين في النيروز والمهرجان.

فأهدى له في أحدهما برنية ضخمة فيها ثوب ناعم وطيب، قد كتب على حواشيه:

نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله، والقائم المهدي يكفيها

إني لأيأس منها ثم يطعمني ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها

وحدث إبراهيم بن المهدي قال: كنت عند الرشيد، فأهديت له أطباق ومعها رقعة. فلما قرأها استفزه الطرب. فقلت: يا أمير المؤمنين ما الذي أطربك؟ قال: هذه هدية عبد الملك بن صالح. ثم نبذ إلى الرقعة فإذا فيها: (دخلت يا أمير المؤمنين بستاناً أفادنيه كرمك، وعمرته بنعمتك، وقد أينعت ثماره وفاكهته. فأخذت من كل شيء وصيرته في أطباق القضبان، ووجهته لأمير المؤمنين ليصل إلي من بركة دعائه، مثل ما وصل إلي من بركة عطائه).

قلت وما في هذا ما يقتضي هذا السرور. قل ألا ترى إلى ظرفه كيف قال القضبان، فكنى عن الخيزران إذ كان يجري به اسم أمنا.

ثم كشف المنديل فإذا بعضها فوق بعض، في أحدها فستق وفي الآخر بندق إلى غير ذلك من الفاكهة.

أهدى أحمد بن يوسف للمأمون مرة ثوب وشى. وأهدى إليه مرة ثانية طبق جذع عليه ميل من ذهب فيه اسمه منقوش. وكتب إليه: (هذا يوم جرت فيه العادة، بألطاف العبيد السادة، وقد أرسلت إلى أمير المؤمنين طبق جذع فيه ميل).

وأهدى عبد الله بن طاهر له فرساً، وكتب إليه: (قد بعثت إلى أمير المؤمنين بفرس يلحق الأرانب في الصعداء، ويجاوز الظباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جري الماء.

وهدية الخيل كانت معروفة من قبل فقد أهدى الحجاج عبد الملك فرساً، واهدي عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرساً من سوابق خيل مصر.

ولما أفضت الخلافة إلى المتوكل اهدي إليه إليه الناس على أقدارهم وأهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائتا وصيفة ووصيف. وفي الهدية جارية يقال لها محبوبة كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها وعلمها من صنوف العلم وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس. فحسن موقعها من المتوكل، وحلت من قلبه محلا جليلا.

وبعث الحسن بن وهب إلى المتكل بجام من ذهب فيه ألفا مثقال من عنبر.

وأهدى إليه خالد المهلبي في يوم نيروز ثوب وشي منسوجا بالذهب ومشمة عنبر عليها فصوص جوهر مشبك بالذهب، ودرعاً مضاعفة، وثوباً بغدادياً فأعجبه حسنه، ثم دعا به فلبسه. وقال: يا مهلبي إنما لبسته لأسرك به، فقال يا أمير المؤمنين: لو كنت سوقة لوجب على الفتيان تعلم الفتوة منك، فكيف وأنت سيد الناس؟

وذكروا إنه كان للمتوكل جارية اسمها شجرة الدر. وكان يميل إليها ميلا كبيراً ويفضلها على سائر حظاياه. فلما كان يوم المهرجان أهدى إليه حظاياه هدايا نفيسة واحتفلن في ذلك، فجاءت شجرة الدر بعشرين غزالا تربية، على كل غزال خرج صغير مشبك حرير فيه المسك والعنبر والغالية وأصناف الطيب، ومع كل غزال وصيفة بمنطقة ذهب وفي يدها قضيب ذهب في رأسه جوهرة فقال المتوكل لحظاياه، وقد سر بالهدية، ما فيكن من تحسن مثل هذا وتقدر عليه. فحسدنها وعملن على قتلها بشيء سقينه لها فماتت.

والى جانب هذه الألوان من الهدايا كانوا يهدون الطين. قال الثعالبي: وكانوا يهدون طين نيسابور، وهو طين الأكل لا يوجد مثله في الارض، يحمل إلى أدنى البلاد وأقاصيها، ويتحف به الملوك، وربما بيع الرطل منه بدينار.

(له بقية)

صلاح الدين المنجد