انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 68/عصران في دار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 68/عصران في دار

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

هي أسرة واحدة تعيش تحت سقف واحد، ولكن عصور أفرادها متباعدة، وثقافاتهم متعددة متفاوتة، والحضارات التي يمثلونها لا تنفك تتصادم وتحترب في دارهم. وقد عرفت بعضهم في لبنان وبقيتهم في مصر، وكنت أتمشى يوماً قبل الغروب في طريق (ضهور الشوير)، والشوير (ضيعة) كما يسمونها، أو قرية في واد يشرف عليه الجبل، فهذا هو (الضهور) أو (الظهور)، فملت إلى مكان هناك يسمونه (قهوة الحاج ياس) وهي قائمة بين بساتين فاكهة وزهر، فلمحت في طريقي من ظننتها واحدة ممن عرفتهن هناك، فحثثت الخطى إليها، فإذا هي فتاة لا عهد لي بها، ولي بنظري قِصر، ولكني كنت مطفلاً، وكانت الشمس قد اصفرت وضعف ضوؤها، وكان الشجر يحجب وجهها عني - أعني الفتاة لا الشمس - فلي العذر إذا أخطأت. وعلى أنه خطأ لم يسؤ وقعه في نفسي. بهذا أعترف. وكانت جالسة ترسم فأغراني هذا بها، فدنوت منها على أطراف أصابعي، ثم وقفت أتأملها - من وراء ظهرها - وهي مقبلة على اللوح. فلما طال ذلك عليّ، وهي لا تلتفت وراءها، تنحنحت، فأدارت وجهها بسرعة وقالت: (أوه!) ولم يكن في وجهها لا ابتسام ولا دهشة، كأنما كان من المألوف عندها أن تسمع الناس يتنحنحون وراءها وهي ترسم!.

فقلت وقد أحسست أن الفتيات عسراً:

(هل أزعجتك؟)

فقالت وهي ماضية في رسمها وغير ناظرة إليّ:

(أزعجتني؟؟ هل سمعتك تقول إنك أزعجتني؟)

وكانت لهجتها واشية باحتقار يحول الأدب دون ظهوره على وجهها، أو لعل الأصح أن أقول في اللهجة تهكماً خفيفاً حملته على محمل الاحتقار، فحقدتها عليها - في سري - غير أني لم أظهر ذلك لها واكتفيت بأن أقول:

(هذا ما كنت أخشى - فالحمد لله!)

فمضت في تخطيطها على اللوح وقالت: (إذا كنت تريد أن تتكلم فاجلس). فكانت هذه صدمة ثانية. فتلجلجت قليلاً وقلت (أ. . . أ. . . أجلس؟) فقالت وهي مكبة على اللوح (آه.

معذرة. . ثيابك بيضاء نظيفة، والأرض بليلة. . . مفهوم).

فاجترأت وقلت: (هل تريدين أن تدعيني إلى الجلوس؟.)

فقالت: (وماذا أصنع بك جالساً أو واقفاً؟ معذرة! إن غرورك هو الذي أجرى لساني بهذا الكلام)

فسألتها وأنا مبهوت: (غروري؟)

فقالت بلا اضطراب: (أعني غرور الرجال. . . وكنت تستطيع أن تدرك قصدي ولا تحوجني إلى الإيضاح)

وكنت في أثناء هذا الحوار لم أبرح مكاني وراءها، فتحولت حتى صرت أمامها وقلت وفي صوتي نبرة غضب مكظوم:

(هل تستطيعين أن تدعي أن بيني وبينك ثأراً قديماً؟)

فأدهشني أنها أجابت ببساطة ومن غير أن ترفع وجهها إليّ:

(ثأر؟ أوه لا!. ولكن ألا ترى أن أمثالك لا خير فيهم لمثلي)

فقلت: (معذرة فإني غير فاهم!.)

قالت: (بالطبع! ولست وحدك الذي لا يفهم. . . كلكم هكذا. . . لأنكم تفكرون بعقول معطلة. . . أعني أن أهواءكم تغلبكم وتدفع عقولكم في مجراها، وتمنعكم أن تفكروا في حاجات غيركم مثل تفكيركم في حاجاتكم. قد يبدو هذا القول غريباً من فتاة مصرية، لأن الفتاة في نظركم ليست سوى مطية. . . لا تستغرب هذه الصراحة، فلستم وحدكم كل من تعلموا وذهبوا إلى أوربا ورأوا بعيونهم وفكروا بعقولهم. . . ما علينا من هذا. . . نعم الفتاة ليست عندكم سوى مطية. . . لا تجادل من فضلك. . . لا تحاول أن تكذب. . . كلا. . . لا تقاطعني. . . إنك هنا لتتحكك بي. . . هذا واضح. . . بالطبع! دعني أتمم كلامي، لقد كنت أقول حين هممتَ بمقاطعتي إنكم معشر الرجال تعتقدون أن الفتاة مطية، وإنها لكذلك، ولكنها غير ذلك أيضاً. . . إعترف بصراحة. . . هل خطر لك مرة واحدة أن الفتاة أكثر من مطية؟!)

فخجلت لأني لم أكن أنتظر أن أسمع هذه المحاضرة، وأورثتني المفاجأة اضطراباً فقلت:

(ولكن هل من موجب لهذا الكلام؟؟ إنني. . .) فقاطعتني قائلة (نعم فإنك ما جئت إلى هنا إلا وفي أملك أن تقضي دقائق لذيذة مع فتاة ترجو أن تؤاتيك وأن تنيلك دقائق أخرى ألذ منها وأعذب)

فهممت أن أقاطعها ولكنها أومأت إليّ فسكت، واضطجعت هي على الكرسي وقالت:

(لا تكابر. . . واسمع مني، ولا تعجب إلا إذا كنت غبياً. . . لا مانع عندي البتة أن أمنحك الدقائق اللذيذة لو كنت تستحقها في نظري. . فإني أنا أيضاً أطلب لنفسي دقائق لذيذة وأشتهي أن أتمتع بحياتي وأفوز بنصيبي من لذات الدنيا، ولكن هناك لذائذ أخرى تعدل هذه وتستبد بالنفس وتغلبها على أهوائها الأخرى. . . هذا التصوير هو مهنة لأكل العيش إلى حد ما، ولكنه أيضاً فن يزاول لذاته وبغض النظر عن المنافع المادية. . إني حرة. . فقيرة، نعم، ولكني أجد الكفاية، وقد استطعت أن أتعلم أرقى تعليم تسمح به مواردي، والباقي أحصله باجتهادي. . درست التصوير في إنجلترا ثلاث سنوات بينما كنت مبعوثة إليها لأدرس شيئاً آخر، ولكني لا أتكسب به. نعم أبيع بعض صوري، ولكني استخدم ثمنها في إتقان فني. . في تجويد أداته. . لقد بعدت عن الموضوع جداً. . . على الأقل في نظرك. . ولكن هذا الشرح كان لازماً لأمثالك حتى يستطيع أن يجتنب إساءة الظن حين أسأله. . هل تستطيع أن تكون أنموذجاً لصورة؟)

فصحت (إيه؟ أنمو. . .)

قالت مقاطعة (نعم، أنموذج لصورة. . إن جسمك ليس معتدلاً، وقوامك. . . غير حسن. . وهذا ليس غزلاً مقلوباً من فضلك. . ولكن لو أمكن أن أرسمك وأنت عار. . ولكن بالطبع لا تستطيع. . . كلا. . . لا تستطيع. . . لا فائدة. . . خسارة. . . إن في ذهني صورة تصلح لها، ولكن الحياء الكاذب. . كلا. . لا فائدة)

فكدت أجن من جرأة هذه الفتاة، ثم تصورت نفسي واقفاً أمامها - على رجل واحدة!. وأنا كما خلقني الله فقهقهت، فصعّدت إليّ طرفها مستغربة مستفهمة، فلم أكتمها ما دار في نفسي وتمثل لخاطري، ثم تعارفنا.

وفي مصر رأيت أباها، وهو شيخ في السبعين من عمره، تخرج في دار العلوم وزاول التدريس حتى أقعده الكبر، ولكنه لا يزال على ارتفاع سنه نشيطاً. ومن شذوذه أنه لا يقنع بأن ينفى العامية من كلامه، بل يفرض الكلام بالفصحى حتى على الخدم.

كنت معه يوماً، وكنا جالسين في حديقة البيت، فبصر بالخادم، فصاح به (ليس هكذا؟)

فانتفض الخادم ودار حول نفسه، وقال بلهجة الممتثل لقضاء الله فيه ولاستبداد هذا المجنون به:

(أفندم؟)

قال الشيخ: (ليس هكذا)

فعاد الخادم يسأل (أفندم؟)

فقال الشيخ مفسراً: (أقول ليس هكذا. ارفع رأسك وافتح صدرك. ألم أنهك أن تمشي متخلعاً؟)

فقال الخادم معترفاً: (أيوه يا أفندم؟)

فصاح به الشيخ: (قل نعم يا جاهل! أو بلى)

فاستغرب الخادم وسأل بلهجة المنكر: (بلى؟)

قال الشيخ (بلى)

فعاد الخادم يسأل (بلى؟)

قال: (نعم بلى! ماذا تظنني أقول؟)

قال الخادم: (بلى!)

قال الشيخ: (إذن قلها)

فحاول الخادم أن يعيدها ولكنه نسيها فجعل يقول: (أ. أ. بـ. بـ. . . وحك رأسه.

فأنكر الشيخ ضعف ذاكرته وقال: (نسيت بسرعة؟)

فتذكر الخادم وقال: (أ. . . بلى)

فعاد الشيخ يصيح: (مدهش! قل (لا) في هذا الموضع)

فظن المسكين أن عليه أن يردد كل ما يسمع فقال: (لا في هذا الموضع)

فضجر الشيخ وصاح: (ماذا كنت قبل أن تجئ إلى هنا؟ ببغاء؟)

فكرّ الخادم مسرعاً إلى الأولى استرضاء للشيخ وقال (أ. . . أ. . . بلى)

فيئس الشيخ وقال وهو ينظر إليّ (لا فائدة. . . لا فائدة!)

وحسب الخادم أن الكلام له فقال: (بلى.) فصاح الشيخ. (اذهب. . . اذهب. . . وارم نفسك في بئر.) فظن المسكين أنه يحسن به أن يقول شيئاً آخر فقال:

(لا في هذا الموضع)

هذه هي الأسرة - أو على الأصح، هذا هو الأب، وتلك فتاته، وهما يعيشان في بيت واحد تحت سقف واحد، ولا أدري أيشعران أم لا يشعران بما بينهما من مسافة الزمن التي تحسب بالقرون، ولكن الذي أدريه أنهما على تباعد عصريهما سعيدان. وقد ساعد على ذلك وأتاحه سعة أفق الفتاة وما تمتاز به الشيخوخة من الحلم والجنوح إلى التسامح، أو الضعف إذا شئت. . .

إبراهيم عبد القادر المازني