مجلة الرسالة/العدد 679/مسكين. . .!
مجلة الرسالة/العدد 679/مسكين. . .!
للأستاذ صلاح الدين المنجد
جلس بسام على صخرة مشرفة على طريق القرية الضيق، يلهو بقذف الحصى، ويرنو إلى الأضواء الراعشة، وهي تخفق في السهل البعيد. وكان الناس قد آووا إلى دورهم، منذ طفلت الشمس للمغيب. فتلك كانت عادتهم في المصيف المتواري في ثنايا الجبال. وكانت الطرقات قفراً، والليل هادئاً، والقمر يقطع السماء بدلال واطمئنان، تحف به النجوم باسمات، يتنادين ويتغامزن، كأنهن حسناوات يتبعنه في لجة البحر. . .
وطرق سمعه صوت ناعم رخيم نبهه، فأرهف أذنيه، وحدق بعينيه، ثم قفز من الصخرة، يتلفت يمنة ويسرة. فلمح في طريق تخرج من سفح الجبل، فتترامى على صدره، وتغيب في قمته، شبحين ينحدران وسط الظلام في مشيتهما ميسان وفتور. وقد استند رأس برأس برفق، واشتبك ذراع بذراع بعنف، وغرقا في تمتمات وغماغم، شغلتهما عما يحيط بهما، من طبيعة وسنا، وقمر ضاحك، ونسيم رطب ونجوم ساطعات.
وتقدم الشبحان يميسان. فخفق قلب بسام، وظن أنه حبيب يغازل فتاته في هذا الليل الوسنان. فخطر على قلبه أن يعبث بهما فيقلد عواء الكلاب ليرعبهما، ولقد هم. . . لولا أن حدق ثم حملق، ثم بلع ريقه، وخفق قلبه، وذهل. . . لقد لمح، تحت ضوء القمر، حسناؤه زهرة الياسمين، التي فتنته ذات يوم، في قاعة الدرس، أنه يوم مسحور. . . أبصر به جمال الحياة يشع في عينين زرقاوين كالبحر، وشعر أشقر مجدل كسنابل القمح، وفم رقيق كأنه الجرح يقطر الدم، وينفح العطر. . . فراح هيمان بها، لا يصحو من حبه ولا يفيق.
وفار الدم في عروقه، ورمى بحصوات كانت في يده، وساءل نفسه عما تفعله الآن، وقد انتشر الليل؟ ترى أهي تحب فتى غيره؟ وكيف تحب، وهي له وحده؟. وهم أن يهجم على هذا الذي معها فيهشم عظامه، ويسحقه. فاقترب مغيظا. . . ولكنه ما لبث أن تبين إن الذي معها فتاة، وليس فتى. فشعر بتيار بارد يجري في عروقه، وتصبب العرق من جبينه. . . وبهت. . .
وضحك، بعد برهة، من نفسه كالمجنون. . وعاد إلى الوراء خطوات، فاختفى وراء صخرة ضخمة. . وحدثته نفسه أن ينتهز الفرصة فيكلمها. فهذه فرصة لن يجد مثلها. الجو صفو، والحب شديد، والرقباء بعيدون.
وهو ما انفك مذ عرفها في المدرسة، يحاول الكلام معها ويود التقرب منها، فلا يستطيع. فكان يكتم هواه ويتجلد. وربما زور في نفسه جملا حلوة، وكلمات ناعمات، آملا أن تتصل بينهما المودة، فيحدثها بها. . . ولكنه كان يفشل دائماً فيما كان يحاوله. فقد كان أستاذه القصير يقلقه، وكان رفيقه الشيخ المتعصب للدين يزعجه. فهؤلاء أوانس يحرم على الشبان كلامهن، أو النظر إليهن.
وشعت فكرة التحدث إلى حسنائه، في نفسه كالشمس. وشعر بقوة تدب في جسمه. وأخذ قلبه يخفق. . . ورفع رأسه ليرى الشبحين. . . وهم أن يوقفهما، فقد اقتربا منه. وظن أنها ستفرح بلقياه. . . فلقد كان يخيل له أنها تحبه، ودلائله على هذا لا تعد. كم مرة عمد إلى كتب الأدب، فاستفتى صفحاتها، فكانت تغريه. كم مرة فتح دواوين الشعراء، ليعلم (حظه منها) فكانت الأشعار تبشره. حتى لو كانت القصائد على غير ما يشتهي. أنه كان يقنع نفسه أن الشاعر كان يقصد غير ما قال. . . وكم مرة نظرت إليه نظرة، قد تكون عابرة، فقضى الليالي يفسر النظرة ويقول لنفسه: أنها لتحبني. . . فكيف لا تفرح الآن، إذا رأته أمامها. . . أنها لا تفرح فقط، بل ستلقى بنفسها عليه، وستقول له خذني. . . فهاأنذا بين يديك. . .!
وتقدمت زهرة الياسمين، فتبين من معها. أنها رفيقتها بنفسجة فسر. ترى من يجامل منهما؟ وكيف يغازل زهرة الياسمين؟ ألا تغار هذه البنفسجة؟ وقال: أوف، هذه مشكلة جديدة. . . إن زهرته قد تنكره أمام صاحبتها، وقد تسمعه قارس الكلام. . . ولكن كيف يقدم لها ما زور في نفسه من كلمات غزلات، وقد صنعها لها وحدها؟
ومر الشبحان، فتقلص بسام، واختبأ، وحبس أنفاسه.
ثم عاد فرفع رأسه، لقد ضاعت الفرصة. مرت ولم يكلمها لابد من التحدث معها. ولكنه لم يفكر قط في رفيقتها هذي ولم يحسب لها حساباً. . . وخطا خطوات. . . واتجه نحوها.
فسمع هامساً يهمس في أذنه: (أنت شاعر. . . وأديب) فرفع، بلا شعور، رأسه، ونفخ صدره، وامتلاء زهواً. وردد بنفسه: (نعم. . . أديب، لي من سعة المعارف، في الشعر، ما يسهل لي كل عسير. ثم أنا شاعر. . . وشعري رقية للحسان وسحر. . . سأحدثها. فإذا أعوزني الأمر، نثرت ما حشوت به رأسي، من أشعار، كالزهر).
واندفع. . . تاركا عن يمينه صخرته التي كان يجلس إليها، ثم مشى بحذر فخلف وراءه الطريق الوعرة التي تقوده إلى بستان القرويات الثلاث اللواتي أبغضن الرجال، فتبادلن، كما زعموا الحب. ثم عرج فجأة، فإذا هو وراء الفتاتين، على بعد أمتار. . . لقد أدركهما.
ولكن كيف يبدأ الحديث؟ هذه مشكلة ثانية. . . وأخذ يتذكر، وقد اطمأن أنه وراءهما، ما كان زوره في نفسه. لقد نسى بعض ما زور. . . إن فيه (رأيت إلى الوردة التي عشقها البلبل، يا زهرتي، فطاف في الدنيا يجمع لها اللآلئ ويزينها بها، ويغنيها في الصباح والمساء من الغناء ما يبهجها. إنك لأجمل منها عندما تبتسمين. . .) ولكنه تلعثم. . . ترى أتليق هذه الكلمات؟ إنها خيالات شاعر يغازل بها الورق، لا الحسان. . .! ثم، أتفهم عنه ما يقول. كان يعتقد إن المرأة ليست جديرة بهذا ولكنه كان يجد نفسه مسوقاً نحوها مفتوناً بها. . .!
وحاول أن يذكر جملة أخرى. . . (أنت يا زهرتي، بين أنشودة وبنفسجة، لك الشمس تبدو رفافة بين غمامتين تضحك للدنيا وتغمرها بالنور. . .) فأعجب بما قال وزهى. ولكنه فطن أن أنشودة غائبة، وأن في الليل القمر. وإذن ماذا يقول؟ وتنبه. لقد كادتا تصلان إلى السفح. وها هو ذا طريق القرية يبدو، بل ها هي ذي دار حسنائه، تلمع سقوفها الحمر، تحت ضياء القمر، أنها قريب، في رأس الطريق. ونادى من أعماق نفسه: (يا رب. . . يا رب!) وقبض على أصابعه، وضغط على أسنانه، وفار الدم في وجهه. كيف يحدثها؟ كيف يبدأ الحديث؟ وبم يحدثها؟ وتأفف. ولعن هذه الدراسة الطويلة التي قطع شبابه بها، ثم هو يجبن عن التحدث إلى فتاة. أنه بارد بليد. ولم يجد شفاء لنفسه غير سباب أرسله إلى أستاذه ورفيقه.
وشعت في رأسه فكرة فتمسك بها كأنه يخاف أن تفر. بعد أسابيع سيرسل، وترسل، للتدريس لقد جمعتهما المهنة. فلماذا لا يتخذ ذلك سبيلا إلى التحدث. ولقد كان يغيظه أن يراها تناجي رفيقتها وهو قريب منها ولا تناجيه. يا ويحهما. كأنهما عاشق وحبيب.
وبلغ السفح، وهو يمشي على رود، ويئس وفكر في الرجوع، وانثالت على رأسه فكر جديدة: (هيا. لأتعثر عمدا فأتدحرج أمامهما. . . عندئذ تقفان. . . وعندئذ أحدثها. . .) وهم وتشجع ولكنه جبن. لقد خاف أن يتبعثر شعره الذي صففه ورجّله.
وخشي أن تضحكا منه وتهزئا به، فأجفل، ووقف، والفتاتان مسرعتان.
ورآهما وقد بلغتا طريق القرية تهرولان فجمد بصره. وشعر كأن في عنقه حبلا يشد به نحوهما. فهرول هو أيضاً بلا وعي، وأخذ وهو يهرول يلوم نفسه ويشجعها ويدفعها أن تحييهما، فالتحية مفتاح الحديث. وأسرع في العدو وقد خاف أن يفوته إدراكهما. لقد بلغتا القصر. . . هذا القصر الذي زينت جدرانه بالياسمين، وتدلى فوقه زهر أحمر يسمونه (الزهر الفرحان) وأسرع. . . وجهد نفسه. . . وفي عينيه نار، وفي قلبه نار. . . آه! ليت الطريق تطوى. . . وليت قلبه لا يخفق. . . ليستطيع إدراكهما. . .
وبلغ القصر، وهو يلهث. فتشجع، وابتسم. وفي اللحظة التي فتح فيها فاه ليقول بصوت راعش:
- مساء الخير يا آنسة. . . مساء الخير. . .
كان باب القصر يغلق. . . وزهرة الياسمين، تغيب. . .
وأغمض عينيه، وشحب وجهه، وأطرق برأسه. ثم مضى وفي عينيه دمعة.
وردد النسيم الهائم في تلك الليلة تحيته اليائسة، وتهامس الزهر العارش. . . (إنه مسكين. . . إنه مسكين!).
صلاح الدين المنجد